Print
عارف حمزة

عن كابوس الزير سالم

2 مايو 2021
استعادات

عادَ الزير سالم المهلهل في الليل من الحانة، فقالت له إحدى زوجاته بأن زوجة له ولدت هذه الليلة. فسألها عن جنس المولود، فقالت له بأنها وضعت أنثى، فطلب منها أن تذهب مباشرة إلى خيمة الأم وتأخذ منها المولودة وتقوم بوأدها. وإذا لم تفعل ذلك فسيقوم بمحاسبتها. ذهبت تلك الزوجة إلى خيمة الزوجة الأخرى وقالت لها ما جرى بينها وبين الزير، وطلبت منها أن تُخفي طفلتها، أو أن تأخذ طفلتها وتهرب إلى أهلها.
عندما عادت الزوجة إلى خيمتها استيقظ الزير من نومه وسألها متلهّفًا إذا ما كان قد نفّذ أمره وتم وأد الفتاة. ثم قال لها بأنه رأى كابوسًا، يُحاسب فيه على فعلته تلك، ويطلب منه إنقاذ طفلته من الوأد لأن أولادها سيكونون ذوو شأن، وكانت طفلته الأولى. فقالت الزوجة بأنها لم تقم بذلك. فطلب منها أن تعود لزوجته وتطلب منها العناية بابنتهما، ليلى بنت المهلهل.



حرب البسوس
تلك الفتاة، ليلى، كانت الابنة البكر للشاعر الذي عُرف بأنه "يُهلهل كل شيء، حتى أنه يُهلهل الشعر"، أي يرقّقه، وكان من أوائل من رقّق الشعر، وهو عدي بن ربيعة بن الحارث التغلبي (ولد في عام 443، وتوفي عام 531 ميلادية)، وبسببها صار يُكنى أبي ليلى المهلهل.
الزير سالم عاش حياته السابقة جليس النساء، فسمي بالزير سالم، وصيّاد الفرائس وشارب الخمر، تاركًا لأخيه كليب أمر قيادة بني تغلب، ومن ثم أمور مُلكه على العرب. ولكن حرب البسوس، التي بدأت في عام 496 ميلادية، بسبب قتل كليب لناقة البسوس، خالة جسّاس بن مرّة الشيباني البكريّ، جعل الأخير يقتل كليبًا، فبدأت "ثارات كُليب" على يد الفارس الزير سالم، الذي حرّم على نفسه الشرب والنساء حتى "يعود أخوه إليه حيًا"، كما قال في قصيدة شهيرة له:
يقول الزير أبو ليلى المهلهل    وقلب الزير قاسي ما يلينا
وإن لانَ الحديد ما لان قلبي     وقلبي من الحديد القاسيينا
تريد أمية أن أصالح            وما تدري بما فعلوه فينا
فسبع سنين قد مرّت عليّ       أبيت الليل مغمومًا حزينا
أبيت الليل أنعي كليبا           أقول لعله يأتي إلينا

والزير سالم تناقلت حكاياته العرب في ملاحم سردية، أو شعريّة، ولكن أكثر شعره بدا متناقلًا أكثر بعد مقتل كليب، فقال فيه وفي ثأره قصائد كثيرة، لعل أبرزها تلك التي قالها مباشرة عند سماع مقتل أخيه:
كُلَيبُ لا خَيرَ في الدُنيا وَمَن فيها      إِن أَنتَ خَلَّيتَها في مَن يُخَلّيها
كُلَيبُ أَيُّ فَتى عِزٍّ وَمَكرُمَةٍ            تَحتَ السَفاسِفِ إِذ يَعلوكَ سافيها
نَعى النُعاةُ كُلَيبًا لي فَقُلتُ لَهُم         مادَت بِنا الأَرضُ أَم مادَت رَواسيها
لَيتَ السَماءَ عَلى مَن تَحتَها وَقَعَتْ    وَحالَتِ الأَرضُ فَاِنجابَت بِمَن فيها

 

امرؤ القيس
ذلك الحلم، أو الكابوس، الذي جعل المهلهل يُبقي على حياة ابنته الأولى ليلى، جعل هذه القاعدة تسري في بناته الأخريات، ومنهن فاطمة التي تزوّجت، قبل أخواتها، من ملك كندة، حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر الكنديّ، وأنجبت منه جندح، والذي سيشتهر باسم امرئ القيس، وكذلك بالملك الضليل، وبلقب ذي القروح، الذي سيصبح من أبرز شعراء العرب عبر التاريخ، والذي سيقول مقولته الشهيرة: "رحم الله أبي، ضيعني صغيرًا، وحملني دمه كبيرًا. لا صحو اليوم، ولا سُكْرَ غدًا. اليوم خمر، وغدًا أمر"، بعد مقتل والده الملك على يد بني أسد. فأعاد سيرة جده المهلهل من جديد. فأمرؤ القيس كان مثل المهلهل لاهيًا ومتهتكًا ويقول الشعر حتى عن نزواته ونسائه بشكل جعله رائدًا في ذلك، ولو في العصر الجاهليّ. حياته اللاهية تلك جعلت والده الملك يطرده إلى أعمامه في حضرموت.


ومثل المهلهل، قطع امرؤ القيس على نفسه أمر الثأر لأبيه واستعادة ملكه، حالفًا ألا يغتسل وألا يشرب الخمر حتى يحصل ذلك. هذا الثأر قلب حياة ذلك الفارس والشاعر ليعود به إلى أصول القصيدة أيضًا، فصار "يلتزم" بأغراض القصيدة المعروفة.
حادثة عدم وأد خالته ليلى، وبالتالي عدم وأد أمه فاطمة، أوصل إلى العرب وإلينا شعره الكثير المختلف والمميز، ومنها معلقته الشهيرة التي يقول مطلعها:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ     بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْمَلِ
ثم يُكمل:
فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لمْ يَعْفُ رَسْمُها   لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ
تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَا      وَقِيْعَانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ
كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا       لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
وُقُوْفًا بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُمُ     يَقُوْلُوْنَ: لا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ.



عمرو بن كلثوم
أما الشاعر الآخر الذي نجا، ونجت أشعاره ومعلقته، من خلال قرار وحلم المهلهل، فكان الشاعر عمرو بن كلثوم. وهو ابن ليلى بنت المهلهل، ووالده كان من الفرسان التغلبيين الذين ساندوا وقاتلوا إلى جانب جدّه المهلهل للفوز بثأره في مقتل كليب.
ومعروف عن عمرو بن كلثوم بأنه كان "من أعزّ الناس نفسًا، ومن الفتّاك الشجعان، وساد قبيلته تغلب وهو فتى".



اشتهر عمرو بن كلثوم بشعره، إلى جانب فروسيّته وفتكه، بل إن قصائده تجعل ذلك القتال في المعارك لا يخمد بعد خموده على أرض الواقع. وتعدُّ معلقته "من أغنى الشعر الجاهليّ بالعناصر الملحميّة والحماسة والعزة" (كما قال الزوزني في كتاب "شرح المعلقات السبع")، ووصل عدد أبياتها إلى 100 بيت قالها في حضرة عمرو بن هند، ملك الحيرة، لحل الخلاف بين قبيلته (تغلب) وقبيلة ملك الحيرة (بكر). وبعدها بفترة قليلة سيكون عمرو بن كلثوم قاتل ذلك الملك، الذي لم تعجبه المعلقة بسبب أنها لا تُقيم له وزنًا كملك.
يقول مطلع معلقة عمرو بن كلثوم:
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَـا     وَلاَ تُبْقِي خُمُـورَ الأَنْدَرِينَـا
مُشَعْشَعَةً كَأَنَّ الحُصَّ فِيهَـا     إِذَا مَا المَاءُ خَالَطَهَا سَخِينَـا
وتنتهي بذلك البيت الشهير:
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ       تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا

 
البطل الشعبيّ
سيرة المهلهل، التي وردت في كثير من الحكايات المكتوبة والشفاهيّة، وصلت كذلك إلى التلفزيون والسينما والمسرح، وجعلت منه بطلًا شعبيًا. وصارت الناس تعرفه حتى ولو لم تقرأ سيرته تلك ولا أشعاره، ولم يمنع تهتكه وولعه بالنساء والخمر من جعله أحد كبار الفرسان الذين لا يُمكن هزمه بسهولة، رغم أن سيرته تدلّ على استعماله الخدع، التي قد تدلّ على الجبن، وليس على الشجاعة، للنجاة بحياته، ومنها تلك الحادثة الشهيرة مع الحارث بن عباد.
بعيدًا عن تلك الحادثة، نجد أن تفصيلًا صغيرًا في قرار المهلهل بعدم وأد ابنته الأولى وبقية بناته، قد جعل شعرًا كثيرًا وعظيمًا ينجو، بل جعل شاعرين كبيرين من وزن امرئ القيس، وعمرو بن كلثوم، يأتيان إلى الحياة بقصائدهما وسيرتيهما المختلفتين المكمّلتين لسيرة جدهما ومعاركهما ومعلقتيهما الشهيرتين.