Print
سليمان بختي

ذكرى رحيل الشيخ عبد الله العلايلي.. اللغوي والعقلاني والإصلاحي

4 مايو 2021
استعادات


مضى على رحيل الشيخ عبد الله العلايلي (1914-1996) ربع قرن ولم يزل حضوره وازنًا في الثقافة العربية. ويشار بالبنان إلى عمق بيانه وأفق انفتاحه وأهمية دوره. لا أزال أذكر زيارتي الأولى له في منزله في حيّ البطريركية في بيروت عام 1993. ما كدت أصدّق أنه هو هناك، يسكن الأسطورة. وأنّى لصورة في ذهن أو بال أن تضاهي الأسطورة. أذكره في جلسته الهادئة متربّعًا أمام طاولته الصغيرة. كـأنّه راهب في صومعة، وإمام في محرابه أو زارع ورد في حديقة لا تفنى. والكتب مزدانة حوله. وفي داخله جذوة مشتعلة تجري وتبحث وتسبق وتضيء الجهات. قنديل طافح بالضوء ومقيم على دربة النور. قصدته لحوار خاص لكتابي "إشارات النص والإبداع" (1995). كانت صحته تتدهور وتستقيم وأحيانًا يصعب النطق. ولا يفوته أبدًا إذا لم تسعف الذاكرة أن يشير إلى الكتاب المرصوف على هذا الرفّ أو ذاك وإلى الفصل وأحيانًا الصفحة. ورغم مرضه ونوبات السعال أصرّ على متابعة الحوار، ولم يبخل، وعلى تسديد أجوبته باكتناز وإيجاز مستهدفًا المعنى. كان "شيخنا" كما اعتدنا مخاطبته لا يتحرّج من السؤال أو الموقف أو الشخص أو التاريخ. شجرة باسقة وارفة الظلال يانعة الثمار دانية القطوف تترك أو تغيب أو تلبث في مكانها. فلا يصيب القلب والعقل والعين سوى الحسرة والصمت والذهول. فيا للوعة الظلّ، يا للهفة العصافير. أذكر سؤالي الأول كيف تعثرت في صياغته وهو عن علاقة الفكر واللغة، وهل يمكن نشوء حالة تفكير معيّنة خارج اللغة؟ كان جوابه مثل ردّة الفعل: "مقوم اللغة أساسًا في وجودها، أن تفكر، وكونك تفكر فأنت لغوي. إن إمكان التفكير يستند إلى اللغة التي تستخدم في إبراز عناصر الفكر، ففرض إنسان بدون لغة معناه فرض إنسان بلا تفكير".
هذا الشيخ العلامة الأزهري الأديب المفكر الشاعر اللغوي كيف كانت رحلته في محطاتها ومعالمها ومواقفها وآمالها وخيباتها؟

الشيخ عبد الله العلايلي والشاعر سعيد عقل


ولد الشيخ عبد الله العلايلي في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914 في حي شعبي بجوار سوق البازركان في بيروت. والده كان يعمل في تجارة المحاصيل الزراعية. درس في طفولته لدى الكتّاب. وفي عام 1920 أدخل إلى مدرسة الحرش المقاصدية. وبعد أربعة أعوام سافر إلى القاهرة والتحق بالأزهر وكان من أساتذته الجيزاوي والمرصفي وبخيت وشاكر والدحوي. وتخرّج من الأزهر عام 1935 وقفل عائدًا إلى بيروت عام 1937. ثم رجع إلى القاهرة منتسبًا إلى كلية الحقوق حتى عام 1940 حين اضطرته الحرب العالمية الثانية للعودة إلى لبنان. وكتب عن هذه المرحلة مذكرات عنوانها "أعوام في مصر". وفي مصر تأثر بالتيارات السياسية ومنها تيار النزعة الإسلامية الهادفة إلى إيقاظ الشرق وتجديد الإسلام. تأثر بأفكار الوطني مصطفى كامل الاستقلالية وأفكار جمال الدين الأفغاني الداعية للوحدة الإسلامية والإصلاح الديني والاجتماعي. أصدر العلايلي قبل مغادرته مصر كتابًا جاحظي النكهة بعنوان "أدباء وحشاشون" (1930) صوّر فيه واقع المجتمع المصري في طبقاته المختلفة. نشط العلايلي في إنشاء "عصبة العمل القومي" اليسارية الاتجاه. وإزاء الواقع المثخن بالانقسامات السياسية والطائفية، دعا إلى وعي قومي من خلال سلسلة مقالات نارية جمعها في كتاب بعنوان "إني أتهم" (1940)، وفي عام 1941 أصدر كتابه "دستور العرب القومي". تابع العلايلي نشاطه السياسي مؤيدًا حزب "النداء القومي" وشعاره وحدة الأمة العربية وحفلت مقالاته في ذلك الوقت بالتنديد بالانتداب الفرنسي وأساليبه القمعية مثيرًا الشعور الوطني في نفوس الشباب. عام 1947 شارك العلايلي في نشاط "كتلة التحرر الوطني" التي نادت بإصلاح سياسة الحكم. وواظب على كتابة مقالات صحافية في "كل شيء" تحت عنوان "شيء صريح".

عام 1948 شنّ العلايلي في كتاباته حملة شعواء على التخاذل العربي الذي أدّى إلى نكبة فلسطين ومكّن الصهاينة من اغتصابها وتشريد شعبها. عام 1949 أنشأ السياسي اللبناني كمال جنبلاط الحزب التقدمي الاشتراكي وكان العلايلي من المؤسّسين، وشارك في كتابة البيان التأسيسي للحزب. وسعى جاهدًا إلى الجمع بين هذا الحزب وحزبي النجادة والكتائب في سبيل تجاوز الطائفية وتحقيق التقدّم والوحدة. لم يستمر العلايلي زمنًا طويلًا في الحزب، ولكنه لبث محتفظًا بصداقته لجنبلاط والحزب. عام 1951 ومع تأسيس جمعية "أهل القلم" كان العلايلي في طليعة مؤيّديها. واصل العلايلي كتابة مقالاته التحذيرية في "كل شيء" و"بيروت المساء" و"النهار" كما اتخذ له منبرًا آخر في الجامع العمري في بيروت أيام الجمعة. ولما شغر منصب الإفتاء عام 1952 طالبته الهيئات بترشيح نفسه ففعل، وحاربته السلطات خوفًا من نهجه الإصلاحي، ووضعت أمامه العراقيل، ففاز منافسه الشيخ محمد علايا بأكثرية ضئيلة. كل ذلك لم يثبط همّته فاستمر في الكتابة والخطابة، وواصل تأليف معجمه الذي ضمّ أربعة أجزاء وأصدره عام 1954.

الشيخ عبد الله العلايلي (الثالث من اليسار) وكمال جنبلاط على يساره 


وفي تلك الفترة توثقت علاقاته مع "حركة أنصار السلم" اليسارية الاتجاه والتي كانت تضم المفكر رئيف خوري، فاتّهم بالانتساب إلى الحزب الشيوعي وأطلق عليه لقب "الشيخ الأحمر". علمًا أن مقالاته في "الطريق" و"الثقافة الوطنية" شدّدت على المبادئ الإنسانية والعدالة الاجتماعية ومغبّة استغلال الإنسان للإنسان. بقي همّه اللغوي وتحديث العربية يلازمُه فانكبّ على وضع قاموس أطلق عليه اسم "المرجع"، وكان يردّد "لغة بدون قاموس دولة بدون دستور". ولكنه ما استطاع أن ينشر من المرجع سوى الجزء الأول ووقف عند حرف الجيم.
نال في بداية السبعينيات جائزة تقديرية من جمعية "أصدقاء الكتاب". وأصدر عام 1972 كتابه "الإمام الحسين". ومع اندلاع الحرب في لبنان عام 1975 عمد العلايلي إلى توجيه كتب مفتوحة إلى زعماء الأحزاب يدعوهم فيها إلى التعقّل ووأد الفتنة، والى الملوك والرؤساء العرب لإنقاذ لبنان.
وكتب شعرًا: "اسعفوه جمعوا أوصاله/ قبل أن يضحي بقايا مومياء".

أصابته الخيبة من تدهور الأوضاع فكتب "قصائد دامية الحرف بيضاء الأمل من أجل لبنان" (1977). وفي عام 1978 أصدر "أين الخطأ" ومعه عبارته الأثيرة "ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجًا التصحيح الذي يحقق المعرفة"، فهاجمه أهل التقليد واتهموه بالهرطقة ودعوا إلى محاكمته ومنع كتابه من دخول بعض الدول العربية. واللافت أن الكتاب نفسه أعيد إصداره عام 1992 فانتشر بشكل واسع وبلا أي احتجاج.
عام 1992 صدر كتابه الأخير "من أيام النبوّة – مشاهد وقصص" وكانت حالته المرضية تتفاقم حتى جاد بنفسه الأخير في العام 1996.
ونذكر من آثاره: "مقدّمة لدرس لغة العرب" (1938)، "أشعة من حياة الحسين" (1939)، "إني اتهم" (1 و2) (1940)، "تاريخ الحسين" (1940)، "المعري ذلك المجهول" (1944)، "مثلهن الأعلى خديجة" (1948)، "المعجم" (1954)، "العرب في المفترق الخطر" (1955)، "المرجع" (1963)، "الإمام الحسين" (1972) "مقدمات لا محيد من درسها جيدًا لفهم التاريخ العربي" (1994)، "أدباء وحشاشون" (1939)، "رحلة إلى الخلد" (قصيدة من 1500 بيت فقد أكثرها عام 1939)، عدا الكثير من المقالات في الصحف والدوريات التي لم تُجمع أو تُنشر في كتب.

تميّز العلايلي بالانفتاح على كل فكر، وكان يقول: "أنا سمح مع كل فكر وإن كان مناقضًا لما أعتقد، حتى لو كان فكرًا هدّامًا. يهمّني الفكر لذاته من أي مصدر فلا ربيع بدون شتاء، أي لا رونق زهر بدون عاصفة". ودعا إلى أدب يكون مرآة الحياة ويوجّه المجتمع نحو العدالة الحقّة والحرية والحيّز العام بأسلوب جميل. تأثر العلايلي بأساتذته بالأزهر وبالمصلح الكبير جمال الدين الأفغاني وكان يستشهد بكلمته المأثورة "أفضل الفضائل قول كلمة حق في حضرة سلطان جائر". وتأثر بتلميذ الأفغاني محمد عبده وكذلك رائد النهضة شبلي الشميل. كما تشبّع بقراءة القرآن والحديث الشريف ونهج البلاغة وأدب الجاحظ وأبي العلاء والاطلاع على الفكر الماركسي، وتوقف بإعجاب بما أنجزه العلماء اللغويون لتطوير اللغة العربية وخصوصًا البساتنة وإبراهيم اليازجي والشدياق.

كانت علاقة العلايلي باللغة علاقة حيّة. وأذكر جوابه الجميل حول لغة الضاد متسائلًا: "لماذا لا يقولون لغة الصاد أو الطاء؟ وتبيّن لي بعد التمحّص والتتبّع أن المعنى الحقيقي بـ ضاد "يضيد"، وهو "يائية العين بمعنى اكتنز وأوسع في الاكتناز... لغة كانزة مكتنزة وصائدة متصيّدة، بحيث تقبل المعنى المكتنز معنى اكتنازيًا آخر". وكان دائمًا يستشرف تجليًا في عبقرية اللغة العربية إذ "إن الكلمة فيها ليست دلالة فقط، بل قدر قيمة أيضًا. فهي إذ تنهض بالتعبير عن الشيء تقدّر قيمته".
عمل العلايلي على استحداث بعض المصطلحات واستخدمها في كتبه ونذكر منها:
تقانة: تكنولوجيا. إيدلية: إيديولوجية. زمكانية: بمعنى زمان – مكان. مربت: روضة أطفال. نهجية: كلاسيكية.. وغيرها الكثير.
هذا اللغوي الكبير كان صادمًا بآرائه. قال غير مرة: "كان البيان أساسًا قضية القضايا. اليوم ليس قضية. البيان نفسه لم يعد قضية. عبّر كيفما تشاء ما دمت تعبّر عن شيء له محتوى وقيمة. اليوم يبحث عن القيمة الفكرية بقطع النظر عن الحامل، أي النص".

الشيخ عبد الله العلايلي مع الزميل سليمان بختي (1993) 


أمام هذا التاريخ الذي مثّله العلايلي في انهماكاته الفكرية واللغوية والسياسية والاصلاحية وبعد الآمال والخيبات وددت سؤاله عن "ماذا يؤمن العلايلي اليوم؟". قال بسرعة كأنه يقرأ: "أؤمن اليوم بالإنسان... الإنسان أينما كان وفق التعبير القرآني تمامًا، ولقد "كرّمنا بني آدم" الكلية الآدمية هي التي كرّمته التي جعلته كريمًا ثم "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" الإنسان في معناه الأدبي كذلك".
بعد ربع قرن على رحيله لا يزال الشيخ عبد الله العلايلي حاضرًا ناضرًا في كتبه وفي مسيرته، رائدًا إصلاحيًا نهضويًا متنورًا. ولا نزال ننتظر آراءه وفتاويه علمًا من أعلام المدينة وعناوينها الكبرى. فلا عجب أن يكتب الشاعر شوقي أبي شقرا في يوم وداعه "أيُفتى والعلايلي خرج من المدينة..."، كأنه خرج من المدينة ليدخل في التاريخ والذاكرة والحضارة العربية والإنسانية.