Print
فيصل خرتش

علي الناصر.. "بودلير الشعر العربي"

22 أغسطس 2021
استعادات

"لم يكن يدور في خلد أحد أن يلقى الشاعر علي الناصر نهايته غيلة في عيادته، ففي ظهيرة يوم الإثنين الأول من حزيران/ يونيو عام 1970، اخترقت صدره رصاصة من مسدس كاتم للصوت، ونفذت من ظهره، وقد بدا أن الناصر حاول اللحاق بالجاني لكنه لم يفلح. تسلل هذا الأخير من العيادة مغلقًا الباب خلفه، ثم أحس الناصر بالتعب فعاد إلى مكتبه ليستنجد بالهاتف، إلا أن قواه خارت فتهالك على الكرسي، وارتمى رأسه على الطاولة، سقطت سماعة الهاتف على الأرض، وبعد عشرين ساعة، حين دعيت زوجته وابنته، وفتحتا الباب، بحضور بعض الجيران، رأوا الرجل وقد انكب رأسه على الطاولة، وانحدرت نظارته على أنفه، وتساقطت على الأرض بضع قطرات من دمه، دلت على محاولته اللحاق بالجاني مسافة خطوات قبل أن يدركه التعب ويرتمي على الطاولة. وقد تولت السلطات، حينئذ، التحقيق في الحادث، لكن الجاني ظل مجهولًا، وبقيت دوافع الجريمة لغزًا محيرًا. هذا ما كتبه تقرير الدكتور بشير الكاتب عند فتح باب العيادة، وقد كان أحد الحضور إلى مسرح الجريمة.
ينتمي الشاعر علي بن محمد الناصر إلى عشيرة تسكن بادية الشام تدعى "بني خالد"، ومنها فخذ الناصر، وتقيم أسرته في مدينة حماة، وفيها ولد عام 1894. تعلم في الكتاب، ثم دخل المدرسة، وانتقل إلى دمشق ليتم دراسته فيها. بعد ذلك، انتقل إلى إسطنبول ليدرس الطب، وليكمل في الأمراض الجلدية والزهرية في "الكلية العسكرية العثمانية الشاهانية". تخرج طبيبًا عسكريًا في عام 1917 برتبة نقيب. اختص في فرنسا، واشتغل منذ تخرجه في حلب، وفيها تزوج من فتاة تركية من أنقرة، أنجبت له: وائل وتيماء.




يعد علي الناصر واحدًا من مجددي الشعر العربي الحديث، ورائدًا من روَاده، فهو الذي نظم منذ ثلاثينيات القرن العشرين "القصيدة المتحررة من قيود بحور الخليل؛ لأنه حين نظم شعره على هذا الشكل لم يكن يريد أن يبدع مذهبًا جديدًا في النظم، بل كان يريد أن يعبر عن إحساسه الخاص بطريقة خاصة، فكانت تلك القصيدة"، كما كتب الدكتور عبد السلام العجيلي في مقدمة ديوان "اثنان في واحد".
حين أصدر ديوانه الأول "قصة حب" عام 1928، كان أول شاعر يحطم وحدة البيت الشعري وأوزانه، وعزز ذلك في ديوانه الثاني "ظمأ" عام 1932. ويعد في طليعة التجارب الحداثية العربية "إذ وجد في الموزون والمقفى قيودًا للقريحة، والشعر لديه ما هو إلا انفجارات عفوية تصدر عن الذهن والنفس في حال من الوعي واللاوعي".
وقد يكون سبق في ريادته الشعرية نازك الملائكة والسياب، وهذا ما أشار إليه أمين الريحاني في مقدمة ديوانه "ظمأ". وديوان "سريال" الذي كتبه مع أورخان ميسر، هو محاولة مبكرة لمقارعة الشعر السريالي وتأصيله عربيًا بعيدًا عن تجارب الأوروبيين. يقول: "قدمي تمشي، تمشي لا أثر لها، يشتعل اللهب، تسرع وتسرع، لا سبيل للإبطاء، سراب في متناول اليد، أبعد من البعيد، قدم تسرع ملتهبة ذرة من رماد".
الشعر عنده ومضة إبداع في حنايا النفس، تستجلي في لحظتها قبل أن تخبو، كان يلح في مقطوعته الشعرية المكثفة على أن يحمل البيت الأخير منها أضعاف ما حملت أبياتها السابقة، ولربما بدا للقارئ أحيانًا، البيتان أو الثلاثة الأولى من إحدى مقطوعاته خالية من الومضة المرتجاة، ولكن المقطوعة تفجرها في البيت الأخير.
تعلم الشاعر التركية والفرنسية، ثم أضاف إليهما الفارسية، حبًا بالشاعر حافظ الشيرازي، وإعجابًا بمعانيه الغزلية التي أراد أن يقرأها بلغتها الأصلية.
كان محبًا لأسرته الصغيرة، ويحدث أصدقاءه عنها حديث حب، لكنه لم يكن على وفاق مع زوجته، ولا ريب أنه قد ساءها منه هجره البيت وإقامته في العيادة. وقد زارته إحدى الصحافيات فطفق يحدثها عن فنه وذاته، قائلًا: "إيماني بنفسي كبير، وإن كنت قد اخترت متعمدًا أن أعيش في شبه جحر في هذه العيادة القديمة، فذلك لأنني لم أعد أحتمل الناس" (جريدة "الجماهير" ـ عدد 5/ 8/ 1969).




وقد لان أخيرًا واستسلم لصروف الدهر، يقول:
خضعت وها قد أوهن الدهر همتي/ وما عادت الأوهام تقلق باليا

وكما جاء في بعض الشهادات عنه: تجده في دار الكتب الوطنية، والمركز الثقافي، يفتش عن كتاب يهمه، إنه شيخ، ربع القامة، ذو قسمات صارمة، وشعر لم يجلله البياض، وفي إحدى الندوات الفنية تراه يتصدى للدفاع عن الفن التجريدي، معربًا عن الانطباع الذي خلقته اللوحة في نفسه، إنه منفتح على الجديد في أحدث أساليبه، واسع الثقافة، يحدثك عن آخر المكتشفات، المرض الجلدي والطب عامة حتى الطب النفسي، ثم يعرج على فن الشعر والقصة، وما يلوذ بهما.
قال الروائي فاضل السباعي عنه: "وكانت العيادة هي المكان الذي يمارس فيها عمله في ساعات نهاره، مثلما كانت ملاذه الذي يؤوي إليه في سواد ليله، من دون مؤنس، أو رفيق، ذلك أنه هجر منزله، تاركًا زوجته وولديه، مؤثرًا أن يعيش لعمله وفنه ونفسه، في هذا المعتكف الخالي من أسباب الرفاهية ينام على سرير غير وثير في غرفة مكتبه التي تحوي ثلاث خزائن، وديوانة قديمة، ومكتبًا خشبيًا، وبعض المقاعد والكراسي، يصيب فطوره وعشاءه مما تيسر له، وكان يسلك في حياته اليومية نظامًا رتيبًا، فهو يفتح العيادة في التاسعة والنصف صباحًا، ويغلقها في الثانية، حيث يتوجه إلى أحد المطاعم ليتناول غداءه، وقد يتمشى في الشارع بعد الغداء، وربما قادته قدماه إلى الحديقة العامة غير البعيدة عن عيادته، ويفتح العيادة في الرابعة والنصف مساء".




لقد تمرد علي الناصر على قيم الفن المتوارثة، وتحدى مسلمات طالما انحنت لها المجتمعات، وما عبئ بالناس، سواء أنكروه، أو سخطوا عليه، كان همه أن يحيا لفنه ولفكره ولنفسه، وقد حقق ذلك، وقد قال قبل موته معبرًا عن حالته ونفسيته، وأهداها إلى صديقه الشاعر أمين نخلة، ونشرت في مجلة "الأديب" عدد أيار/ مايو 1969، ومنها:

ويح السنين، وليست ذات معرفة بما تجاهد في تقويض أركاني
أمشي فأسمع نعيي أينما اتجـهت أشواق نفسي، كأن الكل ينعاني

ويصر على أن الجمال والفن أقوى من الموت:

مغريات الجمال أقوى من الموت .. فيــــــــــا ملهمات الحب غني
واجعلي الموت غفلة العمر .. واسق صامتات القبور خمر التمني

إنه أشبه بـ"بودلير الشعر العربي"، كما أسماه العجيلي، وقد نشر قصائده في مجلة "الإخاء" الحموية، ومجلة "الحديث" الحلبية، ومجلة "الأديب" اللبنانية، وفي هذه القصائد ثار على الوزن والقافية، واستخدم تفعيلات عديدة بأشكال مختلفة. كتب بعض القصص، منها: البلدة المسحورة، وهذا أنا، وغيرهما، وله مخطوطات عديدة.