Print
باسم سليمان

من التدجين إلى الرثاء.. الحيوان في الشعر العربيّ

14 يناير 2022
استعادات

 

مُلئت آداب العالم بأدبيات الرثاء، ولم يكن الأدب العربي في تراثه، أو في حاضره، شاذًا عن ذلك. وإذا انتخبنا الجانب الشعري من أدبنا العربي، نلحظ بأنّ الرثاء من أغراضه الأساسية، إلى جانب الوقوف على الأطلال، والنسيب، والمديح.

الرثاء يعني إقامة علاقة عاطفية وفكرية مع كائن، أو شيء، غيّبه الموت، أو الدمار. ولذلك، شمل الرثاء المدن التي دمرتها الحروب، أو الكوارث الطبيعية، ورثاء الملوك والشخصيات العظيمة والأبطال والشهداء، وصولًا إلى الدائرة الضيقة للراثي، كأفراد أسرته. لكن الاستثناء في الرثاء أن يتناول الحيوان! ولقد عرفنا في الشعر العربي مديح الحيوان، كالحصان عند امرئ القيس، وحتى إسقاط شخصية الشاعر على الحيوان، ليتاح له إقامة محاورة بين ذاتية، وهذا هو المثقب العبدي يقول على لسان ناقته:

أَكُلُّ الدَهرِ حَلٌّ وَاِرتِحالٌ/ أَما يُبقي عَلَيَّ وَما يَقيني.

لقد كان الحيوان للإنسان مطيّة فكرية ثقافية أثقلها بهواجسه الوجودية منذ أيام الحكيم بيدبا، والفيلسوف إيسوب. وقبل ذلك، ازدحمت الأساطير بالحيوانات الواقعية والخرافية التي جسدت أفكار الإنسان عن الكون. إنّ استخدام الحيوان كإسقاط تشخيصي لأفكار الإنسان وطبائعه، أو العكس، نتلمّسه في الديانات الطوطمية، وصولًا إلى علم الفراسة. لقد مدح علي بن الجهم الخليفة المتوكّل بأنّه كالكلب في حفظه للودّ، وكالثور في الصراع. إنّ هذا التبادل الطبائعي، أكان من الإنسان في اتجاه الحيوان، أو العكس، بحثه بشكل جدّيّ الإيطالي جيامباتيستا ديلا بورتا(1) في القرن السادس عشر ميلادي، مستخلصًا الطبائع البشرية من خلال الشبه بين الإنسان وحيوان ما. وهذا كان له دور كبير في نشر علم الفراسة في الغرب. تبعه في ذلك رسّام البلاط الفرنسي تشارلز لوبرون في القرن السابع عشر ميلادي، حيث أنجز نماذج كثيرة لوجوه حيوانات بملامح بشرية. وتجاوزت تلك البورتريهات 250 لوحة(2). كذلك لم يترك رائد الخيال العلمي هـ. ج. ويلز هذا الموضوع يمرّ مرور الكرام، فقد كتب رواية "د. مورو"، التي نجد فيها عالِمًا يغيّر من فيزيولوجيا الحيوانات لتصبح أشبه بالبشر جسديًا وفكريًا.

عرف العرب الأمثولة الحيوانية عبر أمثالهم وأشعارهم ونثرهم، وليست قصص "كليلة ودمنة" المترجمة من الهندية طارئة على ثقافتهم. قبل ذلك بكثير صرخ الشنفرى بأنّ الحيوانات عائلة له:

وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ/ وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ

هُمُ الرَهطُ لا مُستَودَعُ السِرَّ ذائِعٌ/ لَدَيهِم وَلا الجاني بِما جَرَّ يُخذَلُ.

ومثله ذهب الأحيمر السعدي:

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى/ وصوَتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ.

فهل لنا بعد ذلك أن نجد في رثاء الحيوان ما يستغرب، فالحيوان ليس آلة ركوب، أو حراثة، أو مصدرًا للحم واللبن فقط، بل هو الأنيس والصاحب. ألم يقل المتنبي: أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ. إنّ الموت وإنْ أدركه البشر وغفل عنه الحيوان إلّا أنّ كل الكائنات أمام الموت سواء.

ولرثاء الحيوان جذور عميقة في الشعر العربي، تبدأ من العصر الجاهلي، وتمتد إلى زمننا الحالي، لكن الرثاء لم يأخذ شكل قصيدة متكاملة إلّا ابتداء من العصر العباسي. أمّا قبل ذلك فقد كان يأتي في أبيات عديدة. ومن أول من رثى الحيوان كان الشاعر الصعلوك السُلَيْك بن السُلَكة(3)، الذي قال أبياتًا في حصانه النحام بعد موته، وقيل قد ذبحه، لأصحابه، بعد أن نفد زادهم:

وَما يُدريكَ ما فَقري إِلَيهِ/ إِذا مَا القَومُ وَلَّوا أَو أَغاروا.

تعدّدت الحيوانات التي رثاها الشعراء، من الحمار، إلى الهرّ، والقُمْرِيّ، والطاووس، والكلب. ولم تكن قصائدهم محاكاة ساخرة لقصائد الرثاء، بل حمّلوها عواطفهم وأشجانهم ورؤاهم الفكرية، ورمّزوا فيها عندما لم يكن متاحًا لهم التصريح. وسنبدأ بالشاعر ابن عنين، الذي رثى حماره بقصيدة رشيقة المعاني سلسة الأسلوب، ضمَّنها حزنه من الفاجعة التي نكبته، ومديحًا للحمار تغار منه الأحصنة، إلى جانب الحكمة والتصبّر. وسنختار بعض أبيات هذه القصيدة:

لَيلٌ بِأَوَّلِ يَومِ الحَشرِ مُتَّصِلُ/ وَمُقلَةٌ أَبدًا إِنسانُها خَضِلُ

وَهَل أُلامُ وَقَد لاقَيتُ داهِيَةً/ يَنهَدُّ لَو حَمَلَتها بَعضها الجبُلُ

لا تَبعُدَن تُربَةٌ ضَمَّت شَمائِلَهُ/ وَلا عَدا جانِبَيها العارِضُ الهَطِلُ

لَو كانَ يُفدى بِمالٍ ما ضَنَنتُ بِهِ/ وَلَم تُصَن دونَهُ خَيلٌ وَلا خَوَلُ

لكِنَّها خُطَّةٌ لا بُدَّ يَبلُغُها/ هَذا الوَرى كُلُّ مَخلوقٍ لَهُ أَجَلُ.

تستدرجنا أبيات ابن عنين، ليس فقط إلى الحزن على الحمار، من خلال تمثّل مصاب صاحبه، بل إلى التأمّل، بِمَا يكشف لنا الرثاء من سؤال عن الكيفية التي يجب أن تعاش بها الحياة، فلو كان هذا الحمار صاحب سيرة سيئة مع صاحبه، هل كنّا لنجد له هذا الرثاء الذي حفظته كتب التراث؟

رثى العقاد كلبه (بيجو)، عبر قصيدة طويلة تفور بالكلمات الصادقة والحزن المرير، مسترجعًا ذكرياته معه: حزنًا على بيجو تفيض الدموع/ حزنًا على بيجو تثور الضلوع



إنّ أكثر ما يذكر به أبو النواس مجونه، إلّا أن موت كلبه جعله يستعير من الخنساء عبارتها المشهورة في بكائياتها على أخيها صخر: "يا عين جودي". يعدّد أبو النواس مناقب كلبه، ومن ثم يصوّر موته بعد أن نهشته أفعى رقشاء في الغابة، وكم رفع عنه هذه الكلب ذلّ الحاجة، بما يجلبه له من صيد. وأمام ذلك، ألا يستحق أن يرثى ويخلّد مع صاحبه:

يا بُؤسَ كَلبي سَيِّدِ الكِلابِ/ قَد كانَ أَعناني عَنِ العُقابِ

وَكانَ قَد أَجزى عَنِ القَصّابِ/ وَعَن شِراءِ الجَلَبِ الجَلّابِ

يا عَينُ جودي لي عَلى حَلّابِ/ مَن لِلظِباءِ العُفرِ وَالذِئابِ. 

وإذا انتقلنا إلى عصرنا الحالي، نلقى العقاد يرثي كلبه (بيجو)، عبر قصيدة طويلة تفور بالكلمات الصادقة والحزن المرير، مسترجعًا ذكرياته معه:

حزنًا على بيجو تفيض الدموع/ حزنًا على بيجو تثور الضلوع

أبكيك أبكيك وقلَّ الجزاء/ يا واهب الودّ بمحض السخاء.

هذه العلاقة الجميلة التي تنشأ بين الإنسان والحيوان تظهر الأنسنة التي مكّنت ابن عنين أن يتأمّل مفهوم الصبر في حماره، وأن يلحظ أبو النواس الكرم في كلبه، وأن يرى العقّاد في كلبه بيجو الصاحب والأنيس. ولذلك جاء تعبير ابن العلّاف الضرير في رثائه لهره الذي مات، موجزًا لما ذكرناه عن علاقة الإنسان بالحيوان. وقد رثاه بقصيدة طويلة تأوّلها أهل زمانها لِما فيها من معان مضمرة. يقول ابن العلاف:

يا هرّ فارقتنا ولم تعد/ وكنتَ منا بمنزل الولدِ

وكيف ننفكّ عن هواك وقد/ كنتَ لنا عدّة من العدد.

وقد ذاعت هذه القصيدة واشتهرت واستحسن الناس معانيها، مما دفع ابن العميد إلى معارضتها.

توسعت دائرة الرثاء مع الشاعر كشاجم، الذي رثى المنديل، والإبريق، والعود(4)، بالإضافة إلى رثائه الحيوان، ومن رثائه للقُمريّ:

غَدَرَ الزَّمَانُ وَجَارَ فِي أَحْكَامِهِ/ والدَّهْرُ عَيْنُ الخَائِنِ الغَدَّارِ

وَفُجِعْتُ بِالْقُمْرِيِّ فَجْعَةَ ثَاكِلٍ/ فَفَقَدْتُ مِنْهُ أَصْنَعَ السُّمَّارِ

وَلَطَالَمَا اسْتَغْنَيْتُ فِي غَلَسِ الدُّجَى/ بِهَدِيْلِهِ عَنْ مُطْرِبِ الأَوْتَارِ.

أمّا أبو الفرج الأصفهاني فقد رثى ديكًا له بقصيدة قال عنها المؤرخ ابن شاكر الكتبي(5) بأنّها من أجود ما قيل في رثاء الحيوان:

خـطبٌ طرقتُ به أمرَّ طروق/ فظٌّ الحلول عليّ غيرُ شفيق

ذهبت بكل مصاحب ومناسب/ وموافق ومرافق وصديق

حتى بديكٍ كنت آلف قربَه/ حسن إلي من الديوك رشيق.

لقد عرضنا لبعض الشعراء الذين رثوا حيواناتهم، أمّا أبو عيسى ابن المنجم صاحب كتاب "تاريخ سني العالم"، فقد كان يملك برذونًا وقد طالت صحبته له. وعندما مات، أمر الصاحب بن عباد الشعراء أن يرثوا برذونه تخفيفًا عنه، وقد رثاه عشرة من الشعراء. اشتهرت هذه القصائد، وسمّيت البرذونيات، وذكرها الثعالبي في "يتيمة الدهر".

إنّ تقاليد وآداب الرثاء في الثقافة الإنسانية فكرة أصيلة كأصالة الموت في الوجود الإنساني، لذلك نستطيع أن نضيف إلى تعاريف الإنسان بأنّه كائن رثّاء. لقد كان القبر مبتدأ الفنون عند ريجيس دوبريه لجسر الهوة بين الحياة والموت، كذلك تطّور الرثاء من العويل والبكاء على الميت إلى الإبداع الفنّي والتأمّل الفلسفي. إنّ النظر في مفهوم الرثاء يقودنا لأن نجد فيه أسلوبًا لأنسنة الموت، لأنّ الحياة الإنسانية ليست مجرد صيغة عضوية، بل كينونة من الصِلات على صعيد الذات والمجتمع والطبيعة وكائناتها، والموت يقطّع هذه العرى، فلا بدّ من ذكرى/ رثاء تقف في مواجهة عدمية الموت.

المصادر:

1- https://alchetron.com/Giambattista-della-Porta

2- https://www.amusingplanet.com/2016/07/17th-century-sketches-comparing-human.html

3- السليك بن السلكة، أخباره وأشعاره، دراسة وجمع وتحقيق؛ حميد آدم ثويني، وكامل سعيد عواد. مطبعة العاني ـ بغداد 1984.

4- ديوان كشاجم تحقيق وشرح خيرية محمد محفوظ ـ وزارة الإعلام  ـ بغداد 1970.

5- عيون التاريخ لابن شاكر الكتبي ـ دار الثقافة ـ بيروت.