Print
علاء الدين العالم

أرتو وفان غوغ.. الاحتفال باللون والضوء والجنون

31 مارس 2022
استعادات




في روايته "الفردوس على الناصية الأخرى" يعيد ماريو بارغاس يوسا سرد حياة الفنان الفرنسي بول غوغان بقالب روائي تخيلي، يذهب فيه مع غوغان في رحلته الشهيرة إلى هاييتي. في مونولوجاته الذاتية، وكلما يأتي غوغان على ذكر صديقه الرسام الهولندي فان غوغ، يسميه بالهولندي المجنون. تعود هذه التسمية إلى يوسا، وليس إلى غوغان وعلاقته المعقدة مع غوغ. ذلك الوسم (الجنون) هو موضوع كتاب أنطونان أرتو عن فان غوغ الذي كتبه قبل أشهر قليلة من وفاته (أيار/ مايو 1949) وصرخ فيه ــــ والكتاب برمته غضب عارم ــــ نافيًا ثنائية جنون/عقل: "لا، فان غوغ لم يكن مجنونًا، لكن أعماله الفنية كانت تجسيدًا لنيران يونانية، وقنابل ذرية". "مُنتحر المجتمع" تلك هي الترجمة العربية الأولى للكتاب، وهي صادرة حديثا عن دار الرافدين، ومن ترجمة عيسى مخلوف.

طبّ وهذيان

"في عالم نأكل يوميًا فرجًا مطبوخًا بالصلصة الخضراء، أو عضوَ وليد مجلود وغاضب"، بهذا النزق يبدأ أرتو كتابه عن فان غوغ، لا يقدم فيه قراءة لسيرة حياة الفنان الهولندي الشهير، أو مقالات فنية نقدية لأعماله، إنما هو فوران، باسم أرتو وفان غوغ، على المجتمع وأعرافه السائدة، فـ"أعمال فان غوغ لا تهاجم الأعراف السائدة وحسب، بل المؤسسات نفسها أيضًا"، الأواليات المؤسسة التي تنتج هذه الأعراف وتعيد تكريسها. أولى هذه المؤسسات التي يهاجمها أرتو هي "الطب النفسي". يسعى كتابه هذا إلى تذويب شبكة هذا الطب النفسانية في باقة من ألوان فان غوغ السائلة. ذلك الطب الذي غدا "جثة قديمة غير صالحة للاستعمال حينما أعلن أن فان غوغ مجنون".

حتى أرتو نفسه يصف فان غوغ بالمجنون: "المجنون المنتحر مر من هنا، وأعاد ماء الرسم إلى طبيعته، لكن من سيعيده إليه". لا يكمل أرتو كلامه حتى يستأنف بالسؤال حول ما إذا كان فان غوغ مجنونًا فعلًا؟ يبدأ بالإجابة عن السؤال من بورتريهات فان غوغ عن ذاته. الصور التي رسمها لنفسه، وعنها، وكيف ترى عين الفنان ذاته. أو ربما هي لم تكن عين فنان عبقرية، بقدر ما هي عين فيلسوف متفحص "لا، لم تكن لسقراط تلك العين. ربما كانت لنيتشه البائس وحده، قبل فان غوغ، هذه النظرة التي تجرد الروح، وتسلم جسد الروح، وتعري جسد الإنسان خارج خدع النفس". يأتي أرتو في فيضه اللغوي هذا على مقارنة سريعة بين غوغان وفان غوغ، يجد أن غوغان كان "يعتقد أنه من واجب الفنان أن يبحث عن الرمز والأسطورة، وأن يعظّم أشياء الحياة وصولًا إلى الأسطورة، بينما كان فان غوغ يتصور أن ثمة ضرورة لمعرفة استخلاص الأسطورة من الأشياء العادية جدًا في الحياة".

يضع أرتو الطب النفسي، وأدواته المتمثلة بالطبيب النفسي، كعلة لانتحار فان غوغ. إنه يصارع من أجل ثني فكرة الجنون عن مسارها. وزحزحة قواعد العقل عن حدوده النفسانية. ومحاولة للإجابة عن من ماهية المجنون، ومن هو المجنون الأصلي؟ "هو الشخص الذي فضّل أن يكون مجنونًا، بالمعنى الذي يفهمه المجتمع، بدلًا من التنازل عن فكرة سامية للكرامة الإنسانية". بكلامه هذا، لا يسعى أرتو لدحض مفهوم الجنون فلسفيًا، ولا يريد ذلك، بل يلعب عليه لغويًا إن صح التعبير، ويصبو إلى تهديم سلطة الطب النفسي التي شخّصته، هو وفان غوغ، بالمجنون، و"لقد شخّص فان غوغ العظيم مرضه أفضل من أي طبيب نفسي في العالم".

أرتو والكتاب بنسخته الفرنسية الأصلية



منتحرو المجتمع

لا يدخل أرتو في سجالات سوسيولوجية في دور المجتمع بدفع فان غوغ للانتحار، يذكر دور طبيبه النفسي بشكل أساسي، وبأخيه الذي رزق بولد (يورد بعضًا من رسائل فان غوغ لأخيه) لكننا نراه يقدم تأويله الخاص لدور المجتمع في قتل فان غوغ وانتحاره، فـ"هو لم ينتحر بسبب نوبة جنون، وبسبب ذعر من عدم النجاح في ما كان يصبو إليه". انتحر فان غوغ ــ بحسب أرتو- عندما أقدم "الضمير العام للمجتمع على دفعه للانتحار، من أجل معاقبته لأنه انشق عنه". إذًا هو صراع الفرد والمجتمع بكل شبكاته المعرفية والأخلاقية. هو صراع قد يتحول في صيغته الأشد إلى دافع للانتحار، ليس انتحار فان غوغ وحسب، بل انتحار الجميع "وانتحرنا أخيرًا، لأننا كلنا معا، كفان غوغ المسكين نفسه، منتحرو المجتمع".

كتب أرتو كتابه بعد أن شاهد معرضًا لأعمال فان غوغ في متحف "أورانجوري" الباريسي المطل على ساحة "كونكورد" (شباط/ فبراير 1947)، رأى كيف استحال عمل الفنان إلى ذهب خالص، في وقت أن صاحبه لم يبع إلا لوحة واحدة في حياته، لذلك كان كل معرض للوحات فان غوغ "هو دائمًا حدث مهم في التاريخ، ليس في تاريخ الأشياء المرسومة، ولكن في التاريخ التاريخي". لو كان لفان غوغ أشباحه، لعادت مع كل معرض للوحاته، مهما كان مبهرجًا وباذخًا ومناقضًا لحياة الهولندي المهووس، إلا أنه ما من "أشباح في لوحات فان غوغ، ولا رؤى ولا هذيان، إنها الحقيقة الحارقة لشمس الساعة الثانية بعد الظهر. كابوس تناسلي بطيء يتضح شيئًا فشيئًا".

أرتو بما هو فان غوغ معاصر

لم يكن كتاب أرتو هذا كتابًا نقديًا، ولم يريد له ذلك، وليس هو قصيدة شعرية طويلة أو مسرحية درامية، بل كان كما أراد له أرتو دومًا أن يكون، احتفالًا بالجمال، الحياة والخلاص من عالم لطالما رآه "عالمًا غير معقول". الكتاب نَفَس واحد، لا فصول ولا تقسيم، نص طويل يعلق عليه أرتو بعض الحواشي، ويجعل منه، نبع سرد وشعر ولون لا يتوقف، كما هو الضوء عند فان غوغ متفجرًا مثلما يصفه أرتو: "إذا لم يكن ثمة روح، ولا نَفَس، ولا وعي، ولا فكر، فثمة تفجُّر، بركانٌ ناضج، حجرُ رعشة، صبر، خرَّاج، ورمٌ مشوي، والتهابُ مَن هو مَسلوخ".

"أنا أيضًا، مثل المسكين فان غوغ، لم أعد أفكر، لكنني أواجه كل يوم، من قرب، الغليان الداخلي الرهيب، ومن الغريب أن نرى أن طبًا ما يلوموني على تعبي"، ينطلق أرتو في كتابه هذا من ذاته، لا يستقي من منهل نظري لقراءة فان غوغ وفنه، ولا ينطلق من مجتمع الفن ومعاييره، هو ينطلق من نفسه وحسب. من تجربته الطويلة في الصراع مع المرض والهذيان، وصراعه مع النظام الصحي النفساني في القرن العشرين، وترساناته من المصحات والمشافي، التي قضى فيها أرتو أوقاتًا مختلفة من حياته المشدودة. "أنا نفسي أمضيت تسع سنوات في مصحة للأمراض العقلية ولم يكن لدي هوس الانتحار قط، لكنني أعرف أن محادثة طبيب نفسي، صباحًا، في الوقت المحدد للزيارة، كانت تجعلني أرغب في شنق نفسي، عندما أشعر بأن ليس في إمكاني أن أخنقه".

يحتفل أرتو، الشاعر والمسرحي، بطريقته بفان غوغ، بألوانه ولوحاته، عاصرًا كل القيح النفساني الذي أطاح به، ومعلنًا مانفيستو الحذر من الفن الأصيل:

"احذروا مناظر فان غوغ الجميلة، المزوبعة والهادئة، المتشنجة والمستكينة.

ستمر الصحة بين جولتين من الحمى الساخنة.

إنها الحمى بين جولتي تمرد معافى.

الرسم المسلح لفان غوغ

الرسم المسلح بالحمى والعافية سيعود يومًا

ليقذف في الهواء غبار عالم محبوس لم يعد قلبه يحتمل".