Print
سمير رمان

ذكرى سيغريد أونسيت.. "ملكة الكلمة" في النرويج

14 مايو 2022
استعادات

العملة النرويجية من فئة 500 كرون تحمل صورة سيغريد أونسيت (Getty) 


وصفت الصحافية النرويجية، سيغرون سلابغراد، في معرض حديثها عن كتاب يتحدث عن مواطنتها سيغريد أونسيت/ Sigrid Undset (1882 ـ 1946)، بأنّها "ملكة الكلمة".
وبالفعل، من الصعوبة بمكان أن تجد عبارةً أفضل لوصف هذه الكاتبة النرويجية التي كتبت أفضل الروايات التاريخية عن النرويج في القرون الوسطى، بعظمة ملكية، على غرار الأسلوب المتأنّي الذي تتصف به القصص الأيسلندية (ساغا)، والمحبّبة جدًا لسيغريد أونسيت.
في عام 1905، وفي الثالثة والعشرين من عمرها، كتبت أونسيت أولى رواياتها تحت عنوان "Aage the Son of Nils Ulfhom". لكن الناشر الدانماركي، بيتر نانسين، أعاد المخطوطة مرفقة برسالة، قال فيها: على الرغم من وجود بعض المشاهد والتوصيفات الناجحة، فإنّه لا يستطيع أن يوصي بنشر الرواية، لأنّ هيكل العمل يتداعى في بعض أجزائه، مما يجعل من الصعب وصفه بالعمل المكتمل. وفي ختام الرسالة، نصح الناشر الكاتبة الشابّة بتناول مواضيع معاصرة بدلًا من الغوص في مستنقعات التاريخ.
على مضض، أخذت سيغريد أونسيت بنصيحة الناشر، فنشرت أولى رواياتها عام 1907 تحت عنوان "فرا مارتا أويلي"، المكرسة لمشاكل الزواج والأمومة والعلاقات في أوسلو الحديثة، عاصمة البلاد. حمل الكتاب النجاح للكاتبة: مع أنّ جملتها الأولى "لم أكن مخلصةً لزوجي" كانت صفعة تلقاها ذوق المجتمع.
وعلى الرغم من حقيقة أنّ كتبها الأولى كانت مكرّسة لمواضيع حياتية عصرية، فقد بقي تاريخ العصور الوسطى منبعًا للحماسة في روح الكاتبة، لتأتي روايتها الثانية، الصادرة عام 1909، وهي "ملحمة فيغديس وفيغا لوت/ Vigdis and Viga Ljot"، المبنية على الملاحم الآيسلندية القديمة. عمومًا، جاء تقييم النقاد لأعمال الكاتبة الأولى متحفظًا. أمّا في رواية Vigdis and Viga Ljot، فقد رأى النقاد أناسًا معاصرين، تعمدت الكاتبة العودة بهم إلى حقبة الملاحم الإسكندنافية (الساغا) التاريخية.




تفتح إبداع أونسيت الحقيقي في عشرينيات القرن الماضي، بعد صدور روايتين تاريخيتين ملحميتين: ثلاثية" كريستين ابنة لافرانس" (1920 ـ 1922)، ورواية "أولاف ابن أودون" عام (1925 ـ 1927).
العمل المركزي في إبداع الكاتبة النرويجية هو رواية "كريستين ابنة لافرانس". وهي قصة تدور حول المصير القاسي لابنة أحد أصحاب الأراضي النافذين، الذي كان يحظى باحترام وتقدير في المنطقة باسرها. تنجرف الفتاة وراء رغباتها، فتتزوج، رغم إرادة والدها، من فارس تافه يدعى أورلاند. كان على الفتاة أن تدفع غاليًا ثمن الخيار الذي اتخذته: فلو كانت قد رضخت لرغبة والدها وتزوجت من الشاب الوسيم سيمون، لكانت ربما قد حظيت بحياة هانئة خالية من الهموم، ولكانت بلغت مرحلة الشيخوخة وهي تنعم بالهدوء والسكينة، ولكانت غادرت الحياة محاطة بأبنائها وأحفادها المحبين. تدافع كريستين بشراسة عن خيارها، وعن حقها في تقرير مصيرها، رافعة راية التمرد في وجه عادات وتقاليد وأعراف مجتمع القرون الوسطى، غير مكترثة بالعقاب الإلهي الذي أنذرها الناس بأنّه يحلّ بالأبناء الذين يعصون والديهم، والذين يتجاهلون أخلاق المجتمع (عن هذا العقاب يذكر البطلة صديقها المقرب، الراهب العجوز إدفين، حامل القداسة والحكمة الدنيوية).
رواية "كريستين ابنة لافرانس" هي قبل كل شيءٍ قصة عن خيار الإنسان الأخلاقي، وعن الثمن الذي سيكون عليه دفعه لقاء الخيار الذي اتخذه.
جاءت تركيبة الثلاثية مثيرة جدًا، إذ كُرِّس كلٌّ من أجزائها الثلاثة لمرحلة معينة من مراحل نمو البطلة. نجد أنّ الكتاب الأول "التاج/ The Crown" يظهر نضج كريستين جسديًا، حيث تبدأ الرواية مع طفلة في السابعة من العمر، لتنتهي بزواجها. أمّا الكتاب الثاني "السيّدة/ The Mistress" فيتحدث عن مراحل نضج كريستين أخلاقيًا: تنتقل من مزرعة والدها إلى مزرعة زوجها، لتصبح سيدة المكان، وأمًّا لعدد من الأطفال، غارقة في الوقت نفسه في مشاكل حياتها اليومية. ويصوّر الجزء الثالث من الثلاثية "الصليب" النضج الروحي لكريستين، مركزًا في الوقت نفسه على علاقة المرأة بأفراد الأسرة الآخرين.




تشبه قصة حياة كريستين حكاية أسطورية من حكايات الجدّات، اللاتي تحدثن فيها بكثير من الدفء عن الحبّ والقصص والأساطير. تقول الخبيرة لودميلا براود، المتخصصة بالمنطقة الإسكندنافية: "عند قراءة كتبها، ينشأ شعور بأنّ الحكايا والأساطير كانت تحكى في بيوت نرويجية قديمة، تمامًا على نحو ما كتبت سيغريد". وبالفعل، فإنّ أسلوب سرد سيغريد أونسيت الملحمي عن شعوب العصور الوسطى يبرر تمامًا توصيف براود لمؤلفاتها بأنّها "إلياذة الشمال".
في عام 1928، منحت سيغريد أونسيت جائزة نوبل في الأدب "في المقام الأول لتوصيفها المؤثّر لإسكندنافيا العصور الوسطى". ومع أنّ الكاتبة لم تبرز شخصية تاريخية بعينها في ثلاثية "كريستين ابنة لافرانس"، فإنّها ترسم بوضوح كامل، ودقّة لامتناهية، أجواء النرويج في العصور الوسطى.
في مراجعة عام 1923، يلاحظ الناقد إدوين بيوركمان أنّ رواية أونسيت تصف النرويج في النصف الأول من القرن الرابع عشر بمهارة وبراعة، بحيث تبدو الأحداث وكأنّها حدثت اليوم، وليس قبل ستة قرون. من ناحيتها، ترى الشاعرة مارينا تسفيتايفا أنّ "الميزة الرئيسة في ملحمة أونسيت لا تكمن في التوصيف المذهل، الموثوق والدقيق، للأجواء السائدة في النرويج في العصور الوسطى، بل في أنّ ما كتبته عن قدر المرأة كان الأفضل على الإطلاق، بحيث تبدو قصة "أنّا كارنينا" مجرد فصل من فصول ثلاثية "كريستين ابنة لافرانس". ربما كانت مراجعة شاعرة العصر الفضي عاطفية للغاية: إذ يجد المرء صعوبة كبيرة للتلفظ بكلمة "فصل" وهو يتحدث عن رواية تولستوي الضخمة، التي مثلت موسوعة الحياة الروسية في عهد القيصر ـ المحرِّر. ومع ذلك، ربما لا يوجد في الأدب العالمي مثيلٌ لملحمة شبيهة بملحمة أونسيت، التي ترصد وتصور فيها مصير المرأة الصعب الذي عاشته باستمرار منذ الطفولة وحتى لحظة الوفاة".
موضوع قدر المرأة في ثلاثية أونسيت يشترك مع مصيرها في رواية "أنّا كارنينا"، حيث تدافع كلتا المرأتين عن حقّها في الاختيار، الأمر الذي سيعرضهما إلى إدانة المجتمع. إلا أنّ مصيري كلٍّ من كريستين وأنّا كارنينا يجريان بطرقٍ مختلفة: فإن كانت عواطف الضابط فرونسكي تجاه أنّا قد بدأت تخمد تدريجيًا، الأمر الذي دفعها إلى التفكير في الانتحار، فإنّ الشغف بين كريستين وإيرليند يحافظ على جذوته التي بقيت مستعرةً طوال الوقت، على الرغم من كل التجارب الصعبة التي مرّا فيها. وبعد موت إيرليند، تدرك كريستين بوضوح كم كان عزيزًا عليها.
وأخيرًا، فإنّ ملحمة "كريستين ابنة لافرانس" هي أغنية عن حبٍّ لا يعترف بالعوائق، يستولي على الإنسان فيجرّه إلى دوامته، ويحرمه من القدرة على التفكير بعقلانية.