Print
فريد الزاهي

المُصوّر والسلطان.. عن ذاكرة التصوير والحداثة

5 يونيو 2022
استعادات

تكاد الأجيال الجديدة لا تتذكر بتاتًا الهواتف الأولى، ولا آلات التصوير الضخمة التي كانت توجد في الحدائق العمومية، ولا ذلك الأنبوب العجيب الذي تتضمنه، والذي ما كان يُفتح في النور حتى يغدو فاحمًا لا أثر فيه للصور التي التقطت. وهي حين تراها هنا وهناك، لا تتصوّر الجوانب السحرية التي كانت تبثها في أنفس مستعمليها، ولا الطابع الطقوسي الذي ارتبط باستوديوهات التصوير بالمناسبات، ولا البهجة التي تنطبع على أعين الصغار والتلاميذ حين يمسكون بأيديهم صورًا فردية، أو جماعية، يتعرفون فيها على وجوههم وسماتهم وسحناتهم، ولو أنها من غير ألوان.
وإذا كانت أولى الصور المشخصة في العالم الإسلامي تعود إلى السلطان العثماني محمد الثاني، التي رسمها له جنتيلي بيليني عام 1497، فإن أول صورة فعلية لشخصية مغربية جاءت قرونًا بعد ذلك، وكانت للسلطان مولاي عبد الرحمان عام 1932. هذا التفاوت الزمني لا يمكن تفسيره سوى بانفتاح الدولة العثمانية والانغلاق العام الذي كان يعيشه المغرب عمومًا، مع بعض العلاقات الدبلوماسية والسفارات إلى البلدان الغربية منذ القرن السادس عشر. ونحن نعثر على صور ومحفورات للسفراء المغاربة في الأرشيف الأوروبي قبل ذلك، بيد أن البلد يدين بتبني التصوير والسينما والتقنيات الحداثية إلى سلطان مغربي شاب شغف بها حد الإسراف، فعاشها ومارسها، ووهب لها حياته، فكان أن تآلب عليه الفقهاء وساسة ذلك الوقت وخلعوه لصالح أخيه "الورع" المنكر للتصوير باعتباره لهوًا وعبثًا.


مصوّر السلطان

بورتريه لغابرييل فير بالزي المغربي 


عرفت مدينة طنجة (التي كانت مدينة دولية) منذ نهاية القرن التاسع عشر توطُّن العديد من الصحافيين والفنانين والمصورين الذين فتحوا فيها "استديوهات" للتصوير. وكان منهم من لا يكتفي بأخذ الصور للأعيان والأجانب، وإنما يحاكي الفن الاستشراقي، فيصور النساء في أوضاع متعددة، أحيانًا شبه عارية، ويحولها إلى منتج كارطبوسطالي يروَّج لدى العابرين في المدينة، ويعزز الطابع "الإكزوتي" لهذا البلد الغامض المستغلق على الأجنبي. لقد كانت طنجة عتبة على باب موصدة، لا يغامر أحد بولوجها إلا إذا كان مصحوبًا بحرس السلطان، أو الأعيان. وكان الوحيد الذي خاطر بحياته فيه بشكل شخصي هو شارل دو فوكو، وهو شاب مغامر في بداية عشريناته سوف يحكي مغامرته في التعرف على البلد، وسوف يصبح راهبًا في ما بعد، ويحظى باعتراف البابا جان بول الثاني، وفرانسوا الأول.




في هذا السياق، سيعيش المغرب تجربة فريدة يمكن أن نعدها تجربة الحداثة الذاتية، أو الحداثة المعطوبة. فبعد أن أرسل مولاي الحسن، في أواخر القرن التاسع عشر، ببعثة طلابية إلى فرنسا لتعلم التقنيات والهندسة، وتحول هؤلاء المهندسون المتعلمون للحداثة التقنية إلى موظفين قابعين في مكاتبهم لا إلى فاعلين اقتصاديين مبتكرين للسلاح والخيرات والتقنيات، دخلت الحداثة الفعلية عبر ولع السلطان الشاب مولاي عبد العزيز بالتصوير الفوتوغرافي، والدراجة، والهاتف، والسيارة، والقطار، بالرغم من أن الحداثتين معًا أجهضتا سياسيًا. وهو ما سيفتح المجال لحداثة مفروضة جاءت مع الاستعمار، وخدمت مصالحه بكاملها.

مولاي عبد العزيز فوق الدراجة (1901)


لقد كان الإيمان بالتفوق التقني للغرب متوطنًا في ذهنية المغاربة، لا بما يصلهم عنه من أخبار فقط، وما يرونه في شواطئهم من عتاد عسكري بحري، ولكن أيضًا بما عاد به سفراء الملوك والسلاطين من أخبار مثيرة عن ذلك، ودونوه في رحلاتهم. لذا لم يكن للسلطان الشاب إلا أن يعهد بأهوائه وصبواته إلى مهندس فرنسي شاب يسمى غابرييل فير، الذي تكلف بتعليم السلطان كافة ما كان يصبو إليه. ومع أن غابرييل فير في مذكراته سوف يركز أحيانًا على إسراف السلطان وتبذيره في وقت كانت فيه البلاد تعيش أزمة اقتصادية خانقة ومديونية أجنبية سوف تسقطه فريسة سهلة في أيدي القوى الكبرى، إلا أن ذلك من الناحية التاريخية يدخل في باب تحصيل الحاصل. فقد أثبتت الدراسات أن الملك الشاب كان يحمل مشروعًا حداثيًا في مجال الضرائب، وغيرها. لكن التطويق الذي كان يعيشه المغرب من قبل القوى الاستعمارية سوف يجعل مصير خلفه أشق من مصيره.





تعلم الملك الشاب التصوير وتقنياته، وصوّر نساءه وفضاءاته. ويمكن القول بأنه أفلح في التقاط تلك الصور نورًا وتأطيرًا كما لو أن غيره من صوَّرها. وبدأ تعلم الرسم، غير أنه لم يفلح في الاستئناس بتقنياته المعقدة. كانت التقنية تستهويه إلى درجة أنه خصص لها بلاطًا للهو: "وأعتقد حقًا، ولست أصطنع في هذا أي زهو، أن من بيع جميع تقنيات اللهو التي كان مولاي عبد العزيز يقبل عليها الواحدة تلو الأخرى، لتزجية وقته، كان فن التصوير هو الذي استأثر بمعظم وقته، ووجد فيه أكثر سروره" (غابرييل فير، في صحبة السلطان، ص 62). قبل أن يحل غابرييل فير بالقصر عام 1901، كان السلطان قد أتقن ركوب الدراجة الهوائية، وبدأ بتعلم سياقة السيارة على يد العسكري الإنكليزي، ماك لين، الذي كان يلازمه. كما أنه جاهد في تعلم الرسم على يد رسام أميركي اسمه شنايدر، فشق عليه الأمر واستعصى. وهو ما يؤكد مرة أخرى أن امتلاك التقنية في التصوير كان أهون على المغربي من التصوير التجسيمي الذي ظل محرمًا لقرون عديدة. وهذا ما يفسر أجلى تفسير إتقانه الكبير للفوتوغرافيا، بحيث يمكن اعتباره، تبعًا لشهادة المهندس الفرنسي، أول مصور مغربي.

صورة التقطها السلطان مولاي عبد العزيز لحريمه 


"لقد أصبح السلطان على قدْر عظيم من الحذق والمهارة، وإن بعض الصور التي التقطها بنفسه تبين عن الحرفية بخلاف الكثير من الهواة... وهو لم يكن يكتفي بأن "يضغط على الزر"، ويفتح سدادة النور في الآلة، بل كان يطمح إلى الإلمام بجميع المعالجات الدقيقة التي تتم في المختبر"... "وما عاد السلطان يقنع بالتصوير العادي، وهو في حد ذاته تصوير شديد التعقيد، متعدد الوسائل. ولذلك عندما سمع عن التصوير الملوّن، إذا به يرغب هو كذلك في مزاولته. فلقنته طريقة صور بثلاثة ألوان، حتى أتقنها، وأخذ يمضي نهاراته الطويلة داخل فضاء حريمه يصور نساءه. كان يجعلهن يتزيّين بأجمل حليهن وحللهن، ويجعلهن أمام خلفيات من الزرابي الفاقعة الألوان، ويضع حولهن زهورًا اصطناعية غريبة فاقعة الألوان، ويسعى في الأخير إلى أن ينجز صورًا بأكثر ما يستطيع من الألوان. وكان كثيرًا ما يحصل على صور جميلة جدًا" (ص 62 ـ 63).

كتاب المغرب عن أعمال غابرييل فير 


كان هذا الولع بالتقنية مصحوبًا بحرية فكر جعلت الملك الفنان الشاب "يشرك نساءه في ألعابه" (ص 54). ولم يكتف بذلك، ولا بالإكثار من تصوير نسائه، بل جاوز ذلك إلى تعليمهن كيفية استعمال التصوير، وهو ما كن يتوفقن فيه. وكان أيضًا يقدم لهن العروض السينمائية التي تطلعهن على بعض مظاهر الحياة في البلاد الإفرنجية. بل إن نساء السلطان الشاب تعلمن على يده ركوب الدراجة الهوائية، وصورهن السلطان المصور في أشرطة سينمائية. كما علمهن قيادة الدراجة النارية، ثم السيارة. هذا التقدير للنساء كان يندرج لديه ضمن تصور حديث لممارسة السلطة. فعدا محاولته مراجعة الضرائب، التي كانت تشكل عضد النظام السياسي "المخزني" القديم، سعى إلى تحطيم القداسة التقليدية للسلطان، الذي ينحجب عن شعبه، ولا يخرج إليه إلا في مناسبات معدودات. فقد كان يأخذ سيارته ويقوم بجولات فجائية في مدينة فاس (بعد أن انتقل إليها من مراكش)، ويمنع عساكره من إغلاق المدينة التام عند مروره لأكثر من ربع ساعة. وكان ينظم المسابقات بينه (وهو ممتط سيارته) وبين الفرسان على مرأى من شعبه، وكأنه بذلك كان ينشر عينيًا فضائل الحضارة الحداثية الجديدة. أما رفيقه ومهندسه ومعلمه، فكان يمنعه من ارتداء الزي المغربي، ويشجعه على الإبقاء على هندامه الأوروبي، كي يعتاد عليه الناس به.

كتاب غابرييل فير عن حياة السلطان مولاي عبد العزيز 


بيد أن كل هذا سيجر على السلطان الحداثي المصور تكالب الفقهاء والحاشية والطامعين في السلطة: "فلقد زعم البعض وكتبوا ونشروا في جميع الأنحاء أن رعايا السلطان المتشبثين بعقيدتهم يشعرون باستياء عميق لرؤيته وهو يعيش في حياته الخاصة رفقة الأوروبيين، ويعتنق عاداتهم، ويجاريهم في مبتكراتهم الشيطانية، وأن ذلك يقف وراء أجواء التمرد التي يعرفه المغرب... لكن الواقع أن ساكنة مدينة فاس لم تبد في أي وقت من الأوقات عداء صريحًا نحو دراجاتنا وسياراتنا، ونحونا نحن أنفسنا. واتفق لي أن اجتزت هذه العاصمة مرات كثيرة على متن سيارتي مفردًا، ومن دون أي خفر، أو حاشية. ولم يسبق لي أن قوبلت من جماهير السكان بغير الفضول" (ص 55 ـ 56).


الامتداد أو التجربة المضاعفة

صورة جندي جريح بعدسة غابرييل فير 


قبل أن يُعزل مولاي عبد العزيز، ويعوض بأخيه مولاي حفيظ عام 1908، تمهيدًا لإلحاقه بإحدى الدول الكبرى المتنازعة على سيادته (إنكلترا وألمانيا وفرنسا)، سعى إلى تأمين حياة رفيقه المهندس، فخصه بقطعة أرض في ضواحي الدار البيضاء لتكون موطنه في الاستقرار في المغرب. فتمكن هذا الأخير بفضل ذلك من الاستثمار، وصار أول مستورد للسيارات، وتابع نشاطه الفوتوغرافي والسينمائي والصحافي، كما أنشأ أول محطة إذاعية في المغرب. وهكذا ترك لنا الرجل إرثًا فوتوغرافيًا، وكتاب يوميات يعد مصدرًا موثوقًا عن تجربة حداثة مجهضة عاش بوادرها المغرب لفترة قصيرة مع السلطان الحداثي، وكان التصوير الفوتوغرافي أساسها المكين.
وما لم يتمكن السلطان من تحقيقه، تركه وديعة في أيدي المهندس الفرنسي الشاب الذي كان ولعه بالفوتوغرافيا بشكل أو بآخر وليد تلك السنوات الأربع (1901 ـ 1905) التي عاشها بصحبة السلطان الشاب يلاصقه كظله، ويحقق معه تجربة حداثة كانت أشبه بالحلم، أو الاستيهام، أو السراب. ولنا أن نتصور، في ما يشبه الحلم أو الرؤيا، لو أن الطلبة المهندسين الذي عادوا من تكوينهم في أوروبا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي قد صنعوا السلاح، وطوروا تقنيات الفلاحة، وأسسوا بوادر الصنائع الحديثة، ولو أن السلطان الشاب استطاع أن يشيع في بلاده استعمال السيارة والقطار والهاتف والتصوير والسينما، ولم تجهض حداثته الشاملة أطماع الدول الإمبريالية المحيقة ببلاد لم تعرف لا الاستعمار العثماني، ولا غيره... لنا أن نتصور ما كان سيكونه المغرب اليوم ومنذ ذلك الحين.




لقد تحول غابرييل فير إلى مصوّر فوتوغرافي، هو الذي كان في بداياته لا يمارس التصوير إلا عرضًا، وترك لنا بعد وفاته عام 1939 ألبومًا شخصيًا عن مغرب عشقه بالصدفة، من خلال عيون سلطان حرمته شروط الحياة السياسية من حداثة كان يعشق مظاهرها التقنية الساحرة. وبعض صوره كانت غمزة حية ناقدة للاستعمار. وبفضله سنعرف من الداخل الحياة المدهشة لأول مصور فوتوغرافي مغربي، ونطلع على صوره الباهرة، وعلى مغامرة حداثة قُبرت في مهدها.