Print
مها عبد الله

الكلمة الأخيرة لمفكّر فلسطيني حر

9 نوفمبر 2023
استعادات

كتاب "خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة"، الذي نستعيده هنا، يجمع بين دفتيه مقالات المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد الأخيرة، والتي تركّزت بشكل أخص حول القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، إضافة إلى قضايا عامة تخص الشأنين العربي والإسلامي، وينتهي برسائل الود والتقدير التي كُتبت بأقلام أعلام المثقفين في رثائه، بعد وفاته بسرطان الدم.
لم يكفّ سعيد - وهو يحظى بالمواطنة الأميركية- أن يسوم الإدارة الأميركية نقدًا لاذعًا يفضح ازدواجية معاييرها وسياسة الكيل بمكيالين، لا سيما فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط كفلسطين والعراق. وهذا الموقف الحازم عرّضه إلى مضايقات شتّى طاولته بتأثير من اللوبي الصهيوني المتنفّذ في مرافق الولايات المتحدة المفصلية، بدءًا من التهديد اللفظي حتى محاولات الاغتيال الفعلية، إلى حد مطالبة أعضاء الإيباك بفصله من الجامعة بعد وصمه بـ "بروفيسور الإرهاب"! وهو من جانب آخر لم يكن ليغض الطرف عمّا يجري فوق أرضه من سياسات فاشلة تبنتها السلطة الفلسطينية، وبالأخص في عملية سير المفاوضات بين الطرفين.

وإدوارد وديع سعيد (1935 - 2003) المولود في مدينة القدس الفلسطينية والمتوفى في مدينة نيويورك الأميركية، هو أحد أشهر المفكّرين والمثقّفين والأدباء العرب في القرن العشرين، وأكثرهم تأثيرًا في الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني وقضيته العالمية. وهو كذلك أكاديمي حاصل على درجة الدكتوراة في النقد الأدبي والأدب المقارن من جامعة هارفارد الأميركية، حيث انخرط في سلك التدريس الجامعي، وشغل بالإضافة إليه مناصب أخرى كمحرر وكاتب عمود في عدد من الصحف العربية والعالمية، كما كان نشطًا إعلاميًا من خلال الندوات والمحاضرات والحوارات الإذاعية والتلفزيونية.

ينقسم كتاب "خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة" إلى أقسام تبدأ بـ (السيرة والأعمال)، ثم تنتقل في مقدمة يسيرة حول مواضيع نالت اهتمام المفكّر الأول، مثل (الاستشراق/ الإسلام/ القضية الفلسطينية/ مفهوم المثقف)، وتسرد بعد ذلك قائمة طويلة من (المقالات والمقابلات) التي حملت عصارة فكره، مثل (تشويه السمعة أسلوب صهيوني/ أزمة اليهود الأميركيين/ خيارات واعدة في فلسطين/ الصهيونية الأميركية: المشكلة الحقيقية/ إسرائيل إلى أين؟/ الكل مسؤول عن تحرير فلسطين/ فرويد والصهيونية وفيينا/ سارتر والعرب/ نصب تذكاري للنفاق/ الدور العام للكتاب والمثقفين)، وتختم برثائه. ومراجعة الكتاب هنا تعتمد على الطبعة الثالثة الصادرة منه عام 2011 عن (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع) والذي عني بترجمته من لغته الأصلية المترجم التونسي أسعد الحسين، وهي تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

تحتل مقالة "خيانة المثقفين" عنوان الكتاب، والذي ألحق فيه المفكّر العار بزمرة من المرتزقة وأصحاب الأقلام المأجورة الذين تكفّلوا بشنّ هجمات تستهدف الحطّ من قيمة الإسلام ووصمه بالتعصب والجهل والتخلف والظلامية، وذلك عندما كان يتصدى بنفسه لأجندات السياسة الغربية وحملتها الشرسة للنيل من الإسلام وأتباعه! بيد أن دور هؤلاء المثقفين من الخطورة بمكان في التأثير على عقول العامة وتثقيفهم وتشكيل وعيهم الجمعي، لا سيما فيما لو قاموا بالتحريض على معاداة الحق والتصفيق للظالم، الأمر الذي سيؤدي لا محالة إلى سيادة الطغيان وتفشّي العدوان وتغييب العقل وضياع الحق.

للقضية الفلسطينية نصيب الأسد من نصوص المفكّر الأخيرة وكأنه يوصي بها بعد أن قال كلمته


وفي حديثه عن الاستشراق الذي وضع فيه مبحثًا ضخمًا لا يزال يُعتبر مرجعًا أكاديميًا في عدد من الجامعات العالمية، يتولى المفكّر - وهو مسيحي الديانة- مهمة الدفاع عن الدين الإسلامي الذي فهمه فهمًا صحيحًا وعميقًا، حيث لم يترك أي فرصة سانحة له في المؤتمرات والمحاضرات واللقاءات الغربية للتعريف بالإسلام في شكله الصحيح، وتصحيح المفاهيم الغربية الخاطئة عنه، وعن أتباعه كأقوام جاهلة وبربرية وإرهابية وغير قادرة على تولي زمام القيادة في بلدانها! وهي المنهجية التي انتهجها عدد من المستشرقين في تأسيسهم لثقافة جمعية غربية تتخذ من المسلمين أعداءً مفترضين لها. ومنهم: السياسي الأميركي صامويل هنتنجتون في أطروحته (صدام الحضارات)، وأستاذ دراسات الشرق الأوسط الإنكليزي برنارد لويس في كتابه (عودة الإسلام)، والفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما في بحثه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، ومن قبلهم المؤرخ البلجيكي للقرون الوسطى هنري بيريني في أطروحته (محمد وشارلمان). أما عن حركة الاستشراق التاريخية في حد ذاتها كمفهوم وكهدف، فيعتقد المفكر أنها إن خدمت ابتداءً الأهداف الاستعمارية أو الاستكشافية أو التبشيرية، فإنها تأخذ على عاتقها في الوقت الحاضر خدمة المصالح الإسرائيلية- الأميركية، ودعم الخطط الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية، وهي بهذا لا تحقق أي نوع من الموضوعية أو الحيادية لا على مستوى الفكر ولا التحليل ولا الحوار البنّاء بين الطرفين المتنازعين.
يقول سعيد في مقالة (مقدمة للاستشراق): "عند التكلم كأميركي وعربي، يجب أن اسأل القارئ أن لا يستخف بنوع النظرة المبسطة للعالم التي رسمتها حفنة من نخب البنتاغون المدنية سياسة للولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي، نظرة فيها إرهاب وحرب استباقية وتبديل أنظمة حكم مدعومة بأكبر ميزانية عسكرية في التاريخ. هذه الأفكار الرئيسية التي تناقشها بلا نهاية وسائط الإعلام التي نصبت نفسها بدور المنتج لما يسمى بالخبراء الذين يبررون الخط العام للحكومة. التأمل والحوار والجدال والبرهان العقلي والمبدأ الأخلاقي المبني على فكر دنيوي (علماني) الذي يجب أن تجعله الكائنات الإنسانية تاريخًا لها، قد استبدل بأفكار نظرية مجردة تمجد الفرادة الأميركية أو الغربية وتشوّه كل ما يتعلق بالسياق وتنظر إلى التيارات الأخرى باحتقار".

القضية الفلسطينية

للقضية الفلسطينية نصيب الأسد من نصوص المفكّر الأخيرة وكأنه يوصي بها بعد أن قال كلمته، وهو ما برح ينادي بأن الخيار المتاح للحل السلمي وحقن الدماء هو إقامة دولة واحدة ثنائية القومية، تتعايش فيها القوميات الثلاثة، مسلمين ومسيحيين ويهود. وهو في دعوته هذه لم يكن يغفل عن تسليط الضوء على الأعمال الوحشية التي كان يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، يسانده في هذا الكثير من دول العالم ذات المصالح المشتركة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وأدوات الإعلام الأميركي بقضّه وقضيضه، وشريعة (خيانة المثقفين) الآنفة الذكر. لذا، عارض المفكر اتفاقية أوسلو التي وجدها قد فرّطت في حقوق الفلسطينيين، ووصفها بأنها: "استسلام وليست سلام، وستحوّل غزة إلى أكبر سجن في العالم، أما الضفة فهي (باتوستانات) محاصرة تعتمد في بقائها على إسرائيل التي تسيطر على هوائها ومائها وحدودها". وعن أصل المشكلة في اعتقاده، فإنه يعود إلى تأصيل فرية عدم وجود شعب فلسطيني في الأساس مع وصول طلائع اليهود، لذا ما يقوم به أولئك من مقاومة لا يعدو عن كونه إرهابًا ضد شعب إسرائيل، بطبيعة الحال. يقول المفكّر: "المشكلة في الصميم هي أن الفلسطينيين ككائنات بشرية غير موجودين، أقصد ككائنات بشرية لها تاريخ وتقاليد ومجتمع وآلام وطموحات مثل كل الشعوب الأخرى، ولهذا فإن موقف كل اليهود الأميركيين المؤيدين لإسرائيل شيء يستحق البحث. إنه يعود إلى الإدراك بوجود شعب أصلي في فلسطين - كل قادة الصهاينة يعرفون ذلك وتحدثوا عنه- لكن الحقيقة التي تعيق الاستعمار لا يعترف بها أبدًا. ولهذا، الممارسة الصهيونية الجماعية هي إنكار الحقيقة وبالأخص في الولايات المتحدة، حيث الحقائق ليست متوفرة كثيرًا لتقديم أدلة فعلية، يتم ترويج حقيقة مضادة زائفة بالكذب. منذ عصور وأطفال المدارس يُلقنون بأنه لم يكن هناك فلسطينيون حين وصل الصهاينة الأوائل، ولذلك هؤلاء الناس المتنوعون الذين يرمون الحجارة ويقاتلون الاحتلال مجرد مجموعة من الإرهابيين الذين يستحقون القتل. باختصار، لا يستحق الفلسطينيون شيئًا كخبر أو حقيقة جمعية، لذلك يجب أن يتحولوا ويتلاشوا في صور سلبية أساسًا". ثم يستمر ليفضح التزوير الممنهج وازدواجية المعايير قائلًا: "هذا بالتأكيد كله نتيجة تعليم مشوه تم تلقينه لملايين الصغار الذي كبروا دون أي إدراك إطلاقًا بأن الشعب الفلسطيني قد تم تجريده من الإنسانية تمامًا لخدمة غاية سياسية- أيديولوجية! المحافظة على الدعم الكبير لإسرائيل. ما هو مدهش هو أن فكرة التعايش بين الشعوب لا تلعب أي دور في هذا التشويه، في الوقت الذي يريد اليهود الأميركيون فيه أن يعترف بهم كيهود وأميركيين في أميركا، يرفضون الموافقة على وضع شرعي مماثل كعرب وفلسطينيين لشعب آخر تقمعه وتضطهده إسرائيل منذ البداية".

وفي نعي المفكّر، وبينما يقدم السياسي المصري محمد حسنين هيكل له "تحية واعتذار"، يعتبره الشاعر الفلسطيني محمود درويش بأنه "رسولنا للضمير الإنساني"، وتجد الناشطة السياسية الفلسطينية حنان عشراوي "لضحكته رنة"، ويلقّبه الصحافي الإنكليزي روبرت فيسك بـ "الأيقونة"، والناقدة العراقية فريال غزول بـ "المعلم"، و المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بـ "منارة تهدينا" ، ويتوّج الموسيقار الإسرائيلي دانييل بارينبويم مواقفه بـ "شجاعة القول"، ويجده الصحافي المصري محمد سيد "الفلسطيني الكوني"، وبأنه: "مسيحي لم يتوقف لحظة في الدفاع عن الإسلام، وفلسطيني له علاقات قوية مع شخصيات يهودية مهيبة (مثل نعوم تشومسكي ودانييل بارينبيوم). عربي تنقل من فلسطين إلى مصر إلى لبنان وبالعكس رغم أنه استوطن في الولايات المتحدة، وإلى مستوى ما اعتبر نفسه مواطنًا أميركيًا. الحرب التي خاضها سعيد من أجل القضية الفلسطينية ليست أقل شجاعة من الحرب التي خاضها ضد المرض الموهن الذي ظل يلاحقه سنوات كثيرة". و"بأسى وغضب" يعبّر الأديب الفلسطيني مريد البرغوثي عن فقده ضمن من فُقد بعيدًا عن أرض فلسطين، كغسان كنفاني وناجي العلي ومعين بسيسو، فيقول: "أنا غاضب لأن عجزي يكرر نفسه أكثر مما هو مقبول! قائمة الأسماء والمقابر ستطول أكثر فأكثر! ستزداد الأسماء وننقص نحن ولن يعرف أحد منا أين سيموت. إدوارد سعيد هو ضريح آخر خارج المكان، جنازة أخرى بعيدة عن وطنها الأم. حين نفقد شخصًا بهذه الطريقة يتحول حزننا إلى غضب. أنا غاضب من عبث طواف الكوكب كله لكي نضع زهرة على كل ضريح يضم تحت ترابه موهبة إبداعية من فلسطين". وينتهي صديقه الأستاذ والفيلسوف والناقد والسياسي الأميركي نعوم تشومسكي في مقالته وهو يصفه بـ (صوت من لا صوت لهم) قائلًا: "كان لي إدوارد سعيد صديقًا حميمًا وعزيزًا خلال سنوات عديدة. إن موته خسارة فادحة تتعدى بكثير دوائر الذين كان لهم امتياز معرفته. لقد أشتهر عن جدارة لمساهماته اللامعة في إنتاج ثقافي غيّر عمليًا من طرائق رؤيتنا للعالم الحديث ولأصوله التاريخية. ناضل بلا كلل ولا هوادة من أجل العدالة والحرية وحقوق الإنسان ليس للشعب الفلسطيني وحده - وهو الذي لا يضاهي في النطق باسمه، محييًا آماله وقضيته في أزمنة مظلمة فاجعة- وإنما أيضًا للعديد غيره من الشعوب المحرومة والمعذبة في أرجاء العالم كافة. كان إدوارد سعيد حقًا صوت من لا صوت لهم، تتخطى شجاعته والتزامه كل حدود بشكل يستعصي على الوصف. إني لواثق من أن ميراثه سوف يكون مصدر إلهام وتوجيه لسنوات عديدة في المستقبل. وخير تكريم لهذا الشخص الرائع أن نسعى بأفضل ما نستطيع إلى مواصلة التقدم في الدروب التي فتحها ومهدها بكامل تألقه ونزاهته".

ختامًا، تأتي أهمية هذه النصوص من توثيقها لحقبة تاريخية شهد المفكّر على مجرياتها ووقائعها والكثير من أحداثها، وتناولها بالدراسة والتحليل، ورسخّت لديه حصيلة متينة من المبادئ والأفكار والآراء والقناعات ما جعلها بمثابة عصارة فكر وجهاد وعقيدة... لذا، لا ينم هذا الكتاب وحسب عن موسوعية الفكر وموضوعية الطرح والتحليل، بل عن شرف الانتماء والإباء والأصالة والكرامة العربية كما ينبغي أن تكون.