Print
مها عبد الله

العودة إلى أندلس الماضي للتبصّر واستشراف مستقبل أكثر تعايشًا

24 أغسطس 2023
استعادات

لا بد من القول إن كتاب "الأندلس: بحثًا عن الهوية الغائبة" يلّفه الإبهار ويجمع في شمولية بين التاريخ والدين والحضارة والسياسة والقانون، قد عمد فيه الكاتب جاهدًا إلى سبر أغوار ماضي وطنه الإسباني الذي ترعرع في ظل الخلافة الإسلامية، الماضي الذي يقوده مستبصرًا نحو تسليط الضوء على الحاضر بتحدياته المحلية والدولية، ومن ثم استشراف المستقبل في رؤية أكثر تعايشًا. ومما يرفع من قيمة الإبهار، التمجيد الذي حظيت به الحضارة الإسلامية في الأندلس بقلم الكاتب غير المسلم، وهو يدين لها بالفضل الكبير لما هي عليه إسبانيا الحالية، وهو الأمر الذي أضفى على الكتاب روح المصداقية والحيادية والإنصاف. ومما يمعن في هذه الروح التوقيت الذي وضع فيه الكاتب كتابه هذا، حين كان الإسلام يواجه هجمات مغرضة في دعاوى إرهاب وتخلّف، حيث تصدى لها منكرًا، بل وموضحًا وجهة النظر الأخرى.

لذا ينجح الكاتب (خوليو رييس روبيو) في توجيه كتابه إلى أصحاب الفكر الموضوعي، ويدعو من يهوى العودة إلى الماضي لا للبكاء على الأطلال، بل للاستبصار ولاستقراء التاريخ وإنصاف ذوي الحقوق. فيحاول -وهو رجل القانون- الاستفادة قدر الإمكان من الماضي بما يحوي من عبر ودروس، ابتداءً من الاعتراف بالفضل وردّه لأصحابه، ثم إسقاط الدروس المستخلصة على الحاضر بغية الخير العام. لذلك يطالب بسنّ القوانين، ومن ثم العمل على تحقيق مستقبل واعد في إطار تحالف مشترك، وكل ذلك من خلال الدور المحوري لبلده إسبانيا الذي يدعوه إلى تفعيله رسميًا.

وعلى الرغم من تخصص الكاتب في علم القانون، إلا أن له عددًا من المؤلفات في التاريخ الأندلسي، ولقد كانت لفتة كريمة منه أن يتلقب بـ "المجريطي" نسبة إلى "مجريط"، الاسم العربي لمدينة (مدريد) بفترة الحكم الإسلامي (91-795 هـ / 711-1492 م).

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى لترجمة الكتاب الصادرة عام 2014، عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، والتي قامت بها كل من غادة طوسو ورنا أبو الفضل، وقد جاءت مباشرة عن لغة الكتاب الأصلية (Al-Andalus: en busca de la identidad dormida - Autor: Julio Reyes Rubio Al-Mayriti).

ومن محاور الكتاب الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)، أسرد في مقتطفات ما جاء في فصول الكتاب العشر، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):

يتطرق المجريطي ابتداءً إلى الخلفية التاريخية التي شكلّت إسبانيا الحالية. فعلى الرغم من العلاقات الوطيدة التي جمعت بين إسبانيا في الماضي، بحكم موقعها الجغرافي، وبين شعوب الأمم المختلفة كالفينيقيين واليونانيين والقرطاجيين والونداليين والجرمانيين، إلا أنها لم تترك أثرًا كما فعل الغزو الروماني والفتح الإسلامي... أثرًا لا يُمحى عن هويتها. فبينما ورثت إسبانيا عن روما اللغة اللاتينية ونُظما أدبية وفنية ودينية وقانونية وسياسية، فقد انصهرت في ثقافة إسلامية موّحدة على اتساعها من الهند شرقًا حتى الشمال الأفريقي غربًا. يقول الكاتب معقّبًا على هذا الأثر: "لقد شكل هذا التراث الثقافي لكلتا الحضارتين جزءًا من هويتنا المزدوجة"، وهي الهوية التي جاء الكتاب بهدف البحث عنها. وعلى الرغم من أن السيطرة العربية آنذاك كانت سمحة مقارنة بالسيطرة الرومانية، إلا أن التعصب الديني في العصور الوسطى قد جعل كل فضل أداه المسلمون في إسبانيا ولمدة ثمانية قرون يُنسى وبإجحاف متعمد! يُكمل المجريطي وهو لا يزال يشير إلى الهدف من وضع الكتاب: "وبمجرد طرد آخر الممالك الإسلامية من إسبانيا بعد سقوط غرناطة، بقي أثر لا يمحى لهذه الحضارة المميـزة من خلال المظاهر الفنية والأدبية واللغوية والثقافية التي ورثناها عنهم". لذلك "فعلى إسبانيا أن تستيقظ من هذه الفترة الطويلة من السبات، التي امتدت منذ 1492 م حتى وقتنا هذا، وأن تستعيد هـذه الهوية الغائبة. عبر سلسلة مـن الإجراءات، يجب أن تعود إسبانيا إلى المصير الذي منحه الله لها دون أن تتنازل عن كينونتها ولا عن المسؤولية المنسوبة إليها، وذلك لثروتها متعـددة الثقافات، فعليها أن تكون الحكم والوسيط للتفاهم بين الشرق والغرب". والكاتب يتطلع بدوره لتوجيه عقول الساسة في العالم نحو تحقيق السلام بين كلتا الحضارتين، دينيًا أو أخلاقيًا، وهو أمر لو تم تحقيقه لعمّ النفع في الوقت الحاضر وفي الأجيال القادمة، ولأستحق كتابه كل ما رافقه من عناء.

يوضح الكاتب قبل البدء أيضًا أنه اعتمد في طرح الفكر العقائدي الإسلامي في كتابه على جهود الشيخ أبو الأعلى المودودي في تفسير القرآن الكريم وتحليل نصوصه، بموضوعية واحترام كبيرين لتعاليمه وللتقاليد الإسلامية، منحّيًا في ذلك أي رأي أو شعور خاص. وهو في هذا لا يستبعد إثارة الجدل بين طبقات المجتمع الإسباني على اعتبار أن عمله هذا ما هو إلا انحرافًا إذا تم تناوله بعيدًا عن الموضوعية، أو اعتباره بمثابة فتح إسلامي جديد.


خوليو رييس روبيو 


يتحدث الكاتب في الفصل الأول الذي جاء كمقدمة عن الظروف التي كانت تسود شبه الجزيرة الإيبيرية والتي مهّدت للفتح الإسلامي، وتحديدًا الحروب الأهلية التي دارت رحاها في المجتمع القوطي في ظل تفاوت طبقي مرير بين طبقة النبلاء وطبقة العبيد، الظروف التي لم تخف على المسلمين في الجانب المقابل للساحل الأندلسي ودفعتهم من ثم إلى شنّ الهجوم العسكري عام 710م بقيادة القائدين موسى بن نصير وطارق بن زياد. ويذكر تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية قبائل (الوندال) التي احتلتها لفترة لم تدم طويلًا بعد أن تم طردهم من قبل القوط، وهي القبائل التي اشتق العرب منها اسم (الأندلس). وبينما يفرد الكاتب الفصل الثاني (الأندلس والحضارة العربية: ماض مشترك) للحديث عن أثر الحضارة الإسلامية في الأندلس والتي مهدّت فيما بعد لقيام نهضة أوروبية شاملة في كافة ميادين الحياة، يشير في الفصل الثالث (رسالة النبي محمد: القرآن ومبادئ الإسلام)، بإجلال إلى النبي محمد ﷺ، ويسرد رحلته الشاقة في الدعوة وما عاناه مع قومه الذين كذّبوه. وهو يتحدث كذلك عن الوحي الإلهي وأول لقاء للنبي محمد ﷺ مع جبرائيل عليه السلام، ودعوته بـ "اقرأ". ويقول: "أعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن مهمته هي إبلاغ الناس القرآن أو الوحي الإلهي. ويمكن تعريف القرآن على أنه (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)". ومن هنا يتطرق إلى ما احتوى عليه القرآن الكريم من مواعظ وتعاليم وحكم وأخلاق في كافة نواحي الحياة، وهو يتعرض في استفاضة عن كل ركن من أركان الإسلام، بالإضافة إلى شرح مختصر للمذاهب السنية الأربع، فيُشير إلى الإمام القرطبي بـ "كاتبنا العظيم للأحاديث"، ويتطرق إلى شعراء العرب، وقصص التراث العربي، والنوابغ من علماء الأندلس، كما يتحدث عن أثر الحديث والفقه في التراث الإسباني.

أما في الفصل الرابع (الأندلس والفتح، وخلافة قرطبة، وممالك الطوائف، والغزوات الإسلامية، ومملكة غرناطة) فيتحدث الكاتب عن الفتح العربي- الإسلامي للأندلس ووضعها إبان هذا الفتح، وما تعاقب على حكمها من أمراء وخلفاء مسلمين، ثم استقلالها فيما بعد عن الإمبراطورية الإسلامية في المشرق، معرّجًا على ملوك الطوائف ودولة المرابطين ومن بعدها دولة الموّحدين، انتهاءً بدولة بني الأحمر التي تداعت إثرها بلاد الأندلس عقب سقوط مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين، عام 1492م. يقول عن الحضارة التي أسسها المسلمون: "في هذا الإقليم تشكلت حضارة أشعت بضوئها على الغرب والشرق لكونها منطقة التقاء وتقابل ثقافي وبشري، نسيتها أوروبا، لكنها بقيت دائمًا في الذكرى الخالدة للعالم الإسلامي". ثم ينتقل إلى الفصل الخامس (إسبانيا الإسلامية: التراث الأندلسي)، ليذكّر كيف كانت اللغة العربية في الأندلس مرادفًا للعلم والذوق الرفيع، ومحط إقبال جميع أطياف المجتمع لتعلمها والتحدث بها، دون اللاتينية. وهو بهذا يؤكد على أثر اللغة العربية في اللغة الإسبانية كما يظهر في خمسة آلاف كلمة عربية متداولة فيها، والتأثير العربي بشكل عام في كل ما هو أسباني. فيقول: "ظلت هذه الحضارة باقية في إسبانيا لمدة ثمانية قرون. ورغم أن حرب الاسترداد بدأت من المراكز المسيحية فقد تعايشوا مع المسلمين لفترة طويلة في وقت كانت فيه العادات والتقاليد والفنون واللغة الموجودة في إسبانيا المسيحية غير أصيلة، وكان لها جذور مسلمة". لذلك، وتماشيًا مع هدف الكتاب الذي أصرّ عليه الكاتب، يطالب بإدخال اللغة العربية في مناهج التعليم، والدين الإسلامي كمصدر للقانون.

يفسح الكاتب المجال في الفصل السادس (الأدب العربي: مقدمة، الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي: القرآن، والأدب العربي، والانحدار والنهضة) ليأتي على الأدب العربي، ابتداءً من عصر الجاهلية وحتى خروج المسلمين من الأندلس أواخر القرن الخامس عشر. وعندما ينتقل إلى الفصل السابع (القانون في الإسلام: مصادر القانون الإسلامي والعلوم الشرعية في القانون الإسلامي، التراث الإسلامي في العلوم التشريعية الإسبانية)، يتناول الشريعة الإسلامية من حيث مصادرها ومدى تأثيرهـا في القانون الإسباني، ويتطرّق في هذا إلى "قوانين مسلمي الأندلس" التي استمر العمل بها في القضاء الأندلسي حتى نهاية الوجود الإسلامي في شبه جزيرة أيبيريا. أما في الفصل الثامن (إسبانيا حلقة الوصول بين الشرق والغرب) فيدعو بلاده إسبانيا للاستيقاظ من السبات الذي بدأ مع سقوط غرناطة عام 1492م، لتسترد هويتها، وتلعب دورها المحوري المتمثل في التعدد الثقافي الذي يحظى بها تاريخها، لا سيما أمام التراجع الأخلاقي الذي يستشري في الغرب، وضرورة إعادة التوازن الروحي والأخلاقي والذي لن يتكفل به بحق سوى دين الإسلام.

يظهر المجريطي في الفصل التاسع (التحكيم الدولي: حلول سلمية للصراعات الناتجة عـن إلتقاء كلا العالمين، الجهاز التحكيمي، عناصر تشريعية دولية، المنهج التحكيمي والنصاب القانوني في الاتفاقيات) وهو يناضل عن دول العالم الإسلامي عمومًا، ويطالب الدول الغربية بعدم التدخل السياسي والاجتماعي فيها، وهو يسلط الضوء وبقوة على القضية الفلسطينية، ويطالب الدول الغربية بإيقاف التدخل العسكري لصالح إسرائيل. يعرض عددًا من الحلول السياسية والقانونية لإنصاف المسلمين والتعايش بسلام بين الشرق والغرب، فيطالب بـ: "الاعتراف الضمني بالإسلام دينًا حقيقيًا يقف على قدم المساواة مع المسيحية". وهو في حديثه عن هوية بلاده المزدوجة الشرقية- الغربية، يجعل له دورًا مستقبليًا في تحقيق التوافق والتكامل بين الحضارتين، من خلال (التحكيم الدولي لحل المنازعات) الذي نادى به. ينبّه وهو يختم كتابه في الفصل العاشر (الروابط التاريخية بين الشرق والغرب: أصول السلوك أجل تحقيق التوافق والاندماج والمودة في علاقة الشرق بالغرب) على ضرورة التعايش في خضم الحملات المفتعلة حول الإسلام، وذلك من خلال التركيز على التاريخ المشترك بين الغرب والشرق لا سيما ما يظهر في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس أوائل القرن الثامن، والتاريخ العثماني- الأوروبي، حيث يرى أن لبلاده الدور المستقبلي الفاعل في تحقيق التكامل بينهما.

أخيرًا .. ورغم موضوعية الكتاب، فهو لا يخلو من شجن! لذا تجدني أختم ببيت من نونية أبي البقاء الرّندي التي نظمها في رثاء الأندلس بعد سقوط آخر معاقلها: (أعندكم نبأٌ منْ أهلِ أندلسٍ... فقدْ سرى بحديثِ القومِ ركُبانُ). وعندما زرت إقليم أندلوسيا، شاهدت التاريخ ماثلًا وعلمت بالنبأ... وليس الخبر كالعيان!