Print
أحمد طمليه

ألفريد هيتشكوك: المخرج الذي رغب بـ"موت" مشاهديه من الخوف

25 يناير 2024
استعادات


سُئل المخرج العالمي ألفريد هيتشكوك عن عبارة وردت على لسانه ومفادها: "الممثلون قطيع ماشية"، فكان رده: أنا لم أقل إن الممثلين قطيع ماشية، بل قلت إنهم يجب أن يعاملوا كذلك. وأضاف: عندما يسألني الممثل عن شخصيته، أقول له: كل شيء في السيناريو، فإذا سألني ما هو الدافع الذي يحركني؟ أقول له: إنه أجرك. إحدى السيدات التقت هيتشكوك في ردهة إحدى صالات السينما فقالت له إن مشهد الحمام في فيلم "سايكو" أفزع ابنتها حتى أنه لم تعد البنت تستحم، فقال لها: إذًا أقترح يا مدام أن ترسلي ابنتك للتنظيف الجاف.

يقول هيتشكوك: الناس تحب أفلامي لأنهم يحبون أن يضعوا أطراف أصابع أقدامهم في ماء الرعب البارد. ويقول بمناسبة أخرى: أحب أن أجعل المشاهدين يتعذبون قدر الإمكان. ويضيف: يجب أن يتناسب طول الفيلم عندي مع سعة المثانة. سأله أحد الصحافيين: ما هو الهدف من أفلامك؟ فقال أن أضع الجمهور داخل الفيلم. وسأله صحافي آخر: ما هي رسالتك في عالم الإخراج؟ فقال أن أخيف الناس حتى الموت. وسأله آخر: ما هي الدراما السينمائية برأيك؟ فقال: هي الحياة مع استبعاد الأجزاء المملة منها. ثم سئل: ما الذي يخيفك؟ فقال: إذا كنت تقصد الموت، مثلًا، فإن ما يخيفني هو انتظاره، وإذا كنت تقصد انفجارًا أو مجزرة أو حريقًا، يخيفني انتظار وقوع ذلك. ويضيف هيتشكوك: لا شيء يخيف في أي شيء إنما الخوف هو في انتظار ذلك الشيء.

هذا هو ألفرد هيتشكوك، مواليد لندن عام 1899، عاصر السينما في بواكيرها الأولى، وحقق العديد من الإبداعات في النصف الأول من القرن الماضي. عاش في كنف أسرة ميسورة الحال فوالده كان مهتما بالفنون وخصوصًا المسرح. ولعل هذا ما دفع هيتشكوك لأن يجد في الفن ملاذا له، فما أن أوشك على الصبا حتى التحق بمدرسة للفنون الجميلة. استهواه آنذاك أن يكون رساما بل قدم ما أشعر المتابعين أنه يمكن أن يكون رسامًا جيدًا. وعندما فتحت له أبواب السينما، وجد نفسه يدخل عالم السينما كرسام، فقدم رسما للوحات ظهر في أفلام شارلي شابلن في فيلم "التعصب" ثم في فيلم "مولد أمة".

عندما بلغ سن 23 عامًا أتيح له أن يقدم أول فيلم له بعنوان "رقم 13"، ولم يدرك هيتشكوك أن هذا الفيلم الصامت الصغير سيفتح عيون المنتجين إليه. وفي عام 1925 جاءه المنتج مايكل بالكون ليعرض عليه العمل في الإخراج السينمائي في أميركا. قدّم هيتشكوك في أميركا وفي هوليوود تحديدًا عدة أفلام دار أغلبها في مجال الرعب والتشويق، وأخذ عليه أنه متخصص في هذه الأفلام مع أنه يكرر أن الخوف والرعب ليسا مقصده، بل تلك الأخبار التي كانت تملأ الصحافة الأميركية آنذاك وتنسب مئات الضحايا بسبب الجرائم المختلفة دائمًا إلى قاتل مجهول. يقول في هذا السياق: الأشرار هم الخائفون دومًا، وإن الأبرياء على الرغم مما ينزل بهم من حوادث فهم يشعرون بشكل أو بآخر بالأمان. ويؤكد أن إحالة جريمة معينة إلى مجهول أمر فيه الكثير من الكسل والاستسهال طالما أن المجرم يدور، بشكل أو بآخر، حول جريمته، ويمكن أن يعترف بجريمته لو يجد فقط من يسأله عنها.

غير أن البحث عن المجرم ليس هو هاجس هيتشكوك، ففي أفلامه تمر الصورة عن هذا الأمر مرورًا سريعًا، وتتوقف طويلًا أمام التداعيات، وما يمكن أن يكون قد شعر به الإنسان عندما قرر أن يقترف الجريمة، ناهيكم عن تفاصيل الجريمة نفسها، كيف تمت، وبأي مقدار من البشاعة جاءت.

لم يكن للكاتب الروسي ديستويفسكي أن يكتب رواية "الجريمة والعقاب" بهذه البراعة لولا نقطة عابرة وردت في مطلع الرواية، فبعد أن يقنعنا الكاتب أن المرأة العجوز المنوي قتلها أخذت ما لذ لها وطاب من الحياة، وأن موتها بات تحصيل حاصل، وأن القاتل الشاب سوف يستفيد فعليًا من عملية القتل، فهو أحوج إلى مالها. بعد أن يقدم ديستويفسكي هذه التوطئة يحدث أثناء الجريمة ما يقلب كل شيء رأسًا على عقب، فالمرأة العجوز رفعت يديها وحاولت أن تحمي رأسها من ضربة الساطور. ولعل هذه اللقطة هي التي دفعت بطل الرواية أن يلف ويدور كثيرًا حول جريمته حتى يعترف، وهي التي أوحت أن الإنسان يتشبث بآخر نبض في حياته حتى وهو هرم لا يقوى على الحركة.

فيلم "سايكو" أخافنا دون أن يكون على الشاشة ثمة ما يدعو للخوف فعلًا (الصورة: غيتي)


وأجواء هيتشكوك قريبة من أجواء ديستويفسكي، ففي الحالتين ثمة علم نفس، وثمة مجرم قد يكون ضحية، وثمة بشاعة، وثمة في المقابل شفقة، وثمة جريمة مبهمة الدوافع، هذا إذا كان لكل جريمة دافع.

ففي فيلمه "سايكو" إنتاج 1960 الذي يعتبر حتى الآن من أشهر أفلام الإثارة والرعب، لم يعتمد هيتشكوك على الجريمة التي هي صلب الحدث، بقدر ما ركز على دوافع تلك الجريمة، والأهم من ذلك أنه أخافنا دون أن يكون على الشاشة ثمة ما يدعو للخوف فعلًا.

يحكي الفيلم قصة موظفة سرقت مبلغًا كبيرًا من المال وهربت به، الأمر حتى الآن عادي ويحدث كل يوم، ولكن الجديد الذي أثاره هيتشكوك هو الأجواء التي طغت على الفيلم بمجرد هروب الفتاة بسيارتها، فالمشبوه مكشوف هكذا يقول هيتشكوك، وبالتالي فقد راحت الموظفة تتصرف على اعتبار أنها مشتبه بها، حتى عندما يسألها الشرطي عن رخصتها ترد بارتباك: هل ثمة شيء خطأ، ثم يتفنن المخرج في الإمعان بالغموض طمعا بإثارة وتشويق الجمهور الذي يرى الفتاة قد لجأت إلى أحد الفنادق المريبة، ثم حوار موجز مع صاحب الفندق، ثم جريمة، ودماء تسيل بالحمام، وكل ذلك مصحوب بموسيقى مشاركة بفعالية بدراما الفيلم. لقد أراد هيتشكوك أن يثير حيرة المشاهد، ثم يفجّر الحلّ في ختام الفيلم حين يبين أن القاتل هو صاحب الفندق مريض نفسيا، وأن دوافع جريمته نفسية بحتة.

الدوافع ليست محددة إذا، والقاتل قد يكون صاحب الخطوات التي تروح وتجيء أمام مدخل البيت الآن. لقد اضطر هيتشكوك بعد انتهاء تصوير هذا الفيلم أن يظهر أمام الكاميرا، وأن يتجول في البيت المهجور الذي أثار رعب المشاهد، حتى يقول للمشاهدين أن ما شاهدتموه كان مجرد تمثيل. وهذا ما حذت حذوه أفلام كثيرة لاحقة حاولت أن تدخل مشاهد واقعية على أحداثها لتقول إن الأمر برمته مجرد تمثيل، كما لاحظنا بالمشاهد الأخيرة التي أدخلت على فيلم "تايتانك". كل أفلام هيتشكوك تنطلق من فرضية يمكن دراستها في علم النفس، وتدور حول الخير، والشر، والذنب، ففي فيلمه "غرباء في القطار" يضعنا المخرج أمام بطل هو رمز قوى الظلام والشر، وبالتالي فإن النهار يمر عليه كابوسًا إذ يتخيل كل شيء حوله أشبه بالدوائر، وكأنها ترمز إلى حبل المشنقة. وفي فيلم "الرجل الخطأ" يثير هيتشكوك موضوع الإنسان الذي يتهم وهو بريء. أما فيلمه "دوخان" فيظهر فيه كيف أصبح الحب والخوف والموت شيئًا واحدًا متداخلًا في الحياة الأميركية المعاصرة، وتوج هيتشكوك إبداعاته في فيلم "الطيور" الذي نفذه بحرفية عالية، وأسقط القلوب من صدور المشاهدين بعد أن حاول أن يتخيل كيف يمكن أن تتحول الطيور التي ترمز إلى الحب والتسامح إلى شر وموت مطبق لا محالة.

كان آخر أفلامه "مؤامرة عائلية" عام 1976، إذ توفي هيتشكوك عام 1980 وكان يعد لفيلم جديد وقد قدم للسينما ما يقارب الخميسن فيلمًا، فما بين الأعوام (1925 – 1929) قدم أفلامًا صامتة وهي: حد اللذة 1925، نسر الجبل 1926، المستأجر 1926، على التل 1927، فضيلة الشرق 1927، الخاتم 1927، شامبانيا 1928، زوجة المزارع 1929، مانكسمان 1929، وكان أول أفلامه الناطقة: ابتزاز 1929، ثم جونو والطاووس 1920، قتل 1930، لعبة الجلد 1931، رقم (17) 1932، غني وغريب 1932، الرجل الذي كان يعرف أكثر من اللزوم 1934، رقصات الفالس في فيينا 1934، 39 خطوة 1935، تخريب 1936، العميل السري 1936، شباب وجمال 1937، السيدة تختفي 1938، حانة جمايكا 1939، المراسل الأجنبي 1939.

أما الأفلام التي قدمها في هوليوود خلال الفترة من 1940 – 1976 فهي: ربيكا 1940، السيد والسيدة سميث 1941، شك 1941، مخرب 1942، ظل من الشك 1943، قارب الإنقاذ 1944، المنوم 1945، سيئة السمعة 1946، قضية بارادين 1948، الحبل 1948، تحت مدار الجدي 1949، رهبة المسرح، 1950، غريبان في قطار 1951، إني أعترف 1953، أطلب رقم التليفون لتتم جريمة القتل 1954، النافذة الخلفية، امسك حرامي 1955، مشكلة هاري 1955، الرجل الذي كان يعرف أكثر من اللازم 1956، الرجل الخطأ – دوار (فرتيجو) 1958، شمالًا عن طريق الشمال الغربي 1959، نفوس معقدة (سايكو) 1960، الطيور 1963، مارتي 1964، الستار الممزق 1966، توباز 1969، حالة جنون (فرنزي) 1972، ثم فيلمه الأخير: مؤامرة عائلية 1976.