Print
باسم سليمان

هل وجِد أدب الأطفال منذ وُجِد الطفل؟

17 أكتوبر 2024
استعادات

 

يقول سيث ليرر في كتابه "أدب الأطفال من إيسوب إلى هاري بوتر": "وجِد أدب الأطفال منذ وُجِد الطفل". وعلى الرغم من بداهة ليرر، يشير الأديب بيان الصفدي في كتابه: "شعر الأطفال في الوطن العربي" إلى أنّه: "لا يمكن لأحد أن يزعم أنّ في تراثنا شعرًا مكتوبًا للطفل، لكن هذا التراث يحتوي على ما سُمِّي بشعر ترقيص الأطفال، وهو ليس مكتوبًا من أجل أن ينشده أو يحفظه الأطفال، بل هو شعر مكتوب بإيقاع راقص يناسب من يرقـِّص الطفل، فيعبّر عن عاطفته من ناحية، ويؤثر في الطفل بالصوت والحركة المرافقة للغناء". 

وأمام هذه النتيجة التي توصّل إليها الصفدي، لا يمكن لنا إلّا الاستسلام، لأنّها انبنت على الغياب التام للأدلّة، التي تشير إلى وجود نتاج أدبي جاهلي يخصّ الأطفال. ولربما يأتينا التبرير المنطقي لهذه النتيجة الصادمة، من مقولة الباحث فيليب آرييس في كتابه "قرون من الطفولة": "إنّ الفترات التاريخية التي سبقت الأزمنة الحديثة، لم تكن تنظر للأطفال كما ننظر الآن. فالطفولة ظاهرة حديثة، لأنّ العصور القديمة، كانت تتصف بإهمال الأطفال، أو اللامبالاة إزاءهم، أو حتى باستغلالهم". ولمّا كانت الطفولة ظاهرة حديثة، فلا يُعاب على تراثنا إن افتقد النتاج الأدبي الطفولي، سواء أكان بشكل مباشر أم غير مباشر!

لم يبق رأي آرييس مطلقًا على عواهنه: "فلقد لقي معارضة شديدة من علماء بارزين، بيّنوا وجود شروط مختلفة للطفل عبر التاريخ. والطفولة ليست من إبداع المحدثين، بل هي فئة متغيّرة تأخذ معناها من علاقتها بالمراحل الأخرى للنمو"، كما يذكر ليث ليرر. ومن ثمّ يقول: "فالأطفال هم ما يعدّه الآخرون، وما يعدّون أنفسهم كذلك؛ خلال اتصالهم الاجتماعي وتفاعلهم مع الآخرين".

صامت إن تكلّم

يميّز ليث ليرر بين أدب للطفل ذي نشأة حديثة، وأدب لم يكن قد خُصّص للأطفال، لكن تم استخدامه كأدب لهم، إن جاز القول، كحكم إيسوب وقصصه؛ هذا النوع، قد وجِد لدى الإغريق والرومان والفراعنة، فلماذا غاب ذلك عن تراثنا الجاهلي؟ بناءً على ما سبق سنحاول أن نجد الإشارات المخاتلة التي يمكن من خلالها أن نبقى على قيد البحث عن ذلك الأدب الطفولي في أدبنا الجاهلي، ولربما نجد بعض الأمثلة! يعرض ليرر لدلالة كلمة طفل في الإغريقية: neption وهي مكونة من (ne+epos) وتعني: (no word): أي أنّ الطفل لا يملك القدرة على الكلام. وهي لا تتعلّق بالطفل حصرًا، بل بالكائن الذي لا يتكلّم. ويجد ذات المنحى في اللاتينية: (infans) وتفيد (not speaking) أي الذي ليس لديه القدرة على التكلّم.   

ويرى ليرر في هذه الدلالات أنّ حياة الطفل حياة أداء، بحيث تبرز شخصيته من خلال الفعل ومن ثمّ التكلم. وأنّ تدريس الطفل، قصص إيسوب وأشعار هوميروس أو فيرجيل، ستعدّه للحياة العامة، أي خروجه من فصل الصمت إلى فصل الكلام. ويتابع: "إنّ تاريخ أدب الأطفال، لا يمكن فصله عن تاريخ الطفولة، لأنّ الطفل/ة يتكوّن من خلال النصوص والحكايات التي يدرسها، أو يسمعها، ومن ثم يعيدها". وكأنّ ليرر يشير إلى علم اللغة الاجتماعي، لأنّ النشاط الإنساني أكثر ما يتجلّى باللغة، فمن خلال اللغة يُظهر الإنسان دواخله، ويؤكّد انتماءه إلى محيطه الاجتماعي، كما ذكرت د. خلود العموش في بحثها: "أشعار ترقيص الأطفال في التراث العربي القديم في ضوء علم اللغة الاجتماعي". وقبل أن نلج عوالم التراث الجاهلي لا بدّ أن نقف عند الدلالات، التي تحويها كلمتا "طفل/ة – صبي/ة" لنستخرج المعاني الحاسمة التي تدعمنا في مسعانا.

بناءً على ما سبق، لنستقرئ دلالات كلمة "طفل" بالاستناد إلى لسان العرب: الطِّفْلُ: الْبَنَانُ الرَّخْصُ، والصبي يدعى طفلًا حين يسقط من بطن أمّه حتى يحتلم، والطفل: الحاجة. ويقول الشاعر: أَزُهَيْرُ إِنْ يُصْبِحْ أَبُوكَ مُقَصِّرًا/ طِفْلًا يَنُوءُ إِذَا مَشَى لِلْكَلْكَلِ. ويقال: رأيته في صباه أي في صغره - والصبي: من لحظة ولادته إلى أن يفطم.

نستخلص من معاني كلمة "طفل"، بأنّ دلالة الطفولة تنطوي على المعاني التالية: الصغر – الحاجة للعناية - الضعف، والأهم من ذلك، أنّه كائن ليس له كلام، على الأقل في جزء من مرحلة الطفولة. هذه النقطة الأخيرة تتقاطع مع التأثيل اللغوي لمعنى كلمة طفل في الإغريقية واللاتينية كما أورد ليث ليرر. إذًا الطفل البشري لا يمكن أن يحيا من دون رعاية غذائية وعاطفية ولغوية وفكرية، وهذا ينطبق على الطفل في الجاهلية، لكن في تتبع الأثر التراثي، كي نستنبط منه، ما يُومئ إلى وجود أدبٍ يخصّ الأطفال في جاهلية العرب، لهو أقرب إلى خرافة عبد الله بن قلّابة الذي قصّ للخليفة معاوية عن دخوله إرم ذات العماد الأسطورية، بحثًا عن إبل ضاع منه.ّ إذ أنّ انعدام المعطى الأدبي، سواء كان شعرًا، أم قصًّا أم غناءً، لا يشي بعدم وجود هذا الأثر الأدبي، بل يطرح سؤالًا استنكاريًّا: هل أسقطَ الجاهليون الطفولة من بنية حياتهم القبلية؟

ما وراء الترقيص

لدى التدقيق بالحياة الجاهلية، والتي يحكم فيها الانتساب إلى القبيلة حياة الأفراد أو موتهم، لا بدّ من أن نلحظ شبهًا مع التنشئة التي كان يتلقاها الطفل الإغريقي والروماني، وإن غاب الأثر الأدبي المباشر عن ذلك. فمن غير المعقول في بيئة تتجذّر فيها قيم عديدة وفصاحة لغوية وخاصة شعرية ونثرية أن تهمل الطفل، وإلّا كيف نجا كلّ من الكاهنين سطيح وشقّ! وقد يقول قائل بأنّ "سطيحًا" كان في بلاد الشام، التي كانت خاضعة للحكم البيزنطي! والذي وصف بأنّه شاذ الخلقة، رخو العظام! فماذا عن "شقّ" الذي كان في الحجاز؟ فكما تخبر عنه المرويّات، فقد كان كشقّ إنسان/ نصف إنسان؛ بعين واحدة ويد واحدة! إنّ ذكرنا لأوصاف الكاهنين جاء كإشارة إلى الاعتناء الذي لقياه من قبل أهليهما حتّى قيض لهما النجاة، وعلى الأكيد كان الاعتناء بالأطفال الأصحاء موجودًا بقوة. وإذا أردنا أن نتلمّس كيف كان الجاهلي يعتني بأطفاله، فلنذكر، بعض الأمثلة، فقد كان من عادة الجاهلي أن يتخيّر لابنه اسمًا له رؤية مستقبلية، فاختيارهم الأسماء القوية والمخيفة للأعداء، ما هو إلّا كإعداد للمهام المستقبلية عندما يصبح رجلًا؛ وهنا نسأل: كيف سيتماهى مع معنى اسمه من دون تحضير مسبق؟ ونضيف إلى ذلك أنّ الجاهلي كان يتكهّن، فما أن يُولد طفلٌ له، حتّى يسمّيه، بما يصادفه من أسماء أصوات أو أسماء ما يراه من حيوانات، وكأنّه يمارس التنبوء بالطيرة (قراءة حركة الطير في السماء لمحاولة معرفة الحظوظ)؛ وهي بذاتها تهدف إلى كشف المستقبل.

يرى سيث ليرر أنّ تدريس الطفل قصص إيسوب وأشعار هوميروس أو فيرجيل، ستعدّه للحياة العامة، أي خروجه من فصل الصمت إلى فصل الكلام

 
ونتابع القول بأنّ البيئة التي كانت تقيم فيها القبائل الولائم والأفراح إذا نبغ في إحداها شاعر، كيف لنا أن نتصوّر بأنّ أطفالها سقط متاع، لا يهدهدونهم، ولا يغنّون لهم ولا يقصّون لهم، فالنبوغ الذي يحدث لشاعر منهم كان يعني تفرّده من بين الذين يقولون الشعر، وما أكثرهم! ونجد في: "سلسلة الأعلام من الأدباء والشعر: زهير بن أبي سلمى، حياته وشعره" – دار الكتب العلمية، أنّ زهيرًا انصرف إلى ابنيه كعب وبجير يدربهما على قول الشعر. وجاء في كتاب "الأغاني" عن ابن الأعرابي قول حمّاد الراوية: "تحرك كعب وهو يتكلّم الشعر، فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم في شعره" وعندما لم يتوقّف كعب عن ذلك، أردفه زهير خلفه على الناقة وبدأ في امتحانه في أوصاف الناقة والنعامة على عادة شعراء الجاهلية، يقول زهير البيت وعلى كعب أن يجاريه.

قال زهير: "وإنّي لتعديني على الهم جسرة/ تخب بواصل صروم وتعتق". وبعد قوله ذلك صرخ بابنه: أجزْ يا لكع، فقال كعب: "كبنيانة القرني موضع رحلها/ وآثار نشعيها من الدّف أبلق". وظلّ يمتحنه حتى أجاز له قول الشعر مطلقًا. إنّ المدارس الأدبية في الجاهلية، تثبت تعليم الصغار، حيث كانت هناك عوائل شعرية يتتلمذ الأصغر على يد الأكبر. وهناك مدارس أدبية تتأتى بأن يروي شاعر شِعر شاعر آخر، يقلدّه حتى يتمكن من الشعر، إذًا كانت هناك أساليب تتولّى تعليم الأطفال.

وإن كان لنا أن نضرب مثلًا آخر، للاعتناء بالطفل، فسنجد ذلك في ألعاب الأطفال كــ (خذروف الوليد: حصاة مثقوبة يلعب بها الصبيان يجعلون بها خيطًا يمرونها بين أيديهم بالخيط، فيسمع لها صوت) فالمجتمع الذي يؤمّن لأطفاله الألعاب، بالتأكيد يولي عنايته لتعليمهم. وإذ كان لنا أن نفهم رغبة أهل قريش في تنشئة أولادهم على قيم ولغة سليمة، من خلال دفع أولادهم إلى مرضعات قبيلة بني سعد، حيث اللغة العربية السليمة التي لم تتلوث بالكلمات الأجنبية، وذلك لأجل أن يترعرع الطفل في بيئة سليمة لغويًّا، ولا يكون له ذلك من دون محايثتها بشكل مباشر عبر الشعر والقصّ والمحادثة. لقد نُقل إلينا الشعر الجاهلي بشكل شفهي، وهذا الأمر يدلّ على أنّ الشعر كان يملأ أوقاتهم ويزجي سهراتهم والأطفال يلعبون ويستمعون لمَا يلقى من الشعر والقصص.

لم يبق من ذلك الزمن غير شعر ترقيص الأطفال كدليل غير مباشر فيما يتعلّق بأدب الأطفال. لكن لماذا اعتبرناه دليلًا غير مباشر؟ لأنّه يتوجّه في خطابه إلى الكبار، لا إلى الصغار. وهنا لنا أن نسأل: ما هي أهم خصيصة في هذا الترقيص؟ أنّه يهدف إلى مستقبل الطفل، وليس مجرد حالة عاطفية تنتاب الأب أو الأم. ومن خلال ذلك نستنتج مقدار العناية التي كان الطفل يتلقاها من أهله وقبيلته. فقد عُوتبت صفية بنت عبد المطلب على ضرب الزبير وهو غلام، فقالت مرقّصة ابنها:

"مَنْ قَالَ إِنِّي أُبْغضه فقد كـذب
وَإِنَّمَا أَضْرِبُهُ لِكَـي يَلَبْ
وَيَهْزِمَ الجَيْشَ وَيَأْتِـي بَالسَّلَبْ
وَلا يَكُن لِمَالِهِ خَبْأٌ مُخَبْ
يَأْكُلُ فِي البَيْتِ مِنْ تَمْرِ وَحَبْ".

من خلال هذا الشعر، نرى استراتيجية واضحة في التعليم والتربية، وليست حالة خبط عشواء. ورقَصت أعرابية ابنها:

يا حَبَّذا ريح الولدْ ريحُ الخُزامَى في البلدْ
أهكذا كلُّ ولد أمْ لم يلِدْ قبلي أحدْ.

لقد وصف الأعراب بالجلافة لقسوة الصحراء عليهم، ومن ثمّ نجد إعرابية ترقّص ابنها وكأنّها جمعت كلّ ما في الكون من حبّ واهتمام من أجل وليدها، فكيف يخطر على بالنا أن ذلك الزمن كان خاليّا من أغاني وأشعار وقصص للأطفال!

لم تكن ولادة الأنثى في المجتمع الجاهلي بشارة جميلة، يستقبلها الأب بالأحضان، لكن هذا الوضع كان مشابهًا لحال كل البلدان في ذلك الزمان. لكننا نجد بعض الأخبار على العكس من ذلك، فها هو الزبير بن عبد المطلب يرقَص ابنته ضُباعة قائلًا:

"إنّ ابنَتي لحرّة ذات نسب
لا تمنعُ النار ولا فضْل الحطب".

إنّ انتشار الترقيص في المجتمع الجاهلي دلالة أكيدة على الاهتمام بالأطفال وتربيتهم، وإن لم تصلنا أشعار وقصص قيلت لتكون لمتعة الأطفال وتربيتهم وتعليمهم، فهذا لا يعني غيابها، وسنقف مع وجهة نظر ليث ليرر الذي وجد أنّ الكثير من أدب الكبار قد طوّع ليكون على لسان الصغار. ولا ريب أنّ ذلك الأمر ذاته، قد حدث في المجتمع الجاهلي، وإلّا كيف سيكتسب الطفل عادات وقيم مجتمعه. ولعلّ الزمن الآتي يكشف لنا عن أغان وأشعار وقصص نسجت لتكون على فم الأطفال في الجاهلية، يغنونها أو تُحكى لهم، ومن خلالها يظهرون أداءهم من فعل وقول. ولقد ذكر كارل بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي"، بأنّ أبا عبد الله بن المعلّي الأزدي عمد إلى أغاني المهد ووضعها في كتاب سماه "الترقيص" لكن هذا الكتاب قد فقد، ولربما تأتينا مخطوطات غير مكتشفة بعد، بما نأمله من دليل حاسم ومباشر.

*كاتب من سورية.