Print
حسونة المصباحي

بين رجاء النقاش ومحمد شكري

18 أكتوبر 2024
استعادات
في حرارة هذا الصيف، عثرتُ على عدد مجلة "الهلال" بتاريخ فبراير/ شباط 2007، المخصَّص للناقد المصري الكبير رجاء النقاش. وأعترف أنَّ الساعات التي أمضيتها في تصفُّح وقراءة مواد هذا العدد أزاحت عني ضجر وفتور صيف قاسٍ، وأعادت لي حيويتي إذ إنَّ المقالات التي كُتبت عن رجاء النقاش "الإنسان والقلم" كانت مفيدة وثريَّة إلى أبعد حد. وكانت الشهادات التي أُدليت بشأنه وبشأن الجوانب المهمة في حياته الشخصية والأدبية والفكرية صادقة ومُثيرة للاهتمام. أمَّا المعلومات التي قُدِّمت حول مساهماته الرفيعة في الثقافة المصرية والعربية فجاءت غزيرة، وفيَّة للواقع والحقيقة.
وكنت قد اكتشفتُ رجاء النقاش في نهاية الستينيات من القرن الماضي من خلال كتاباته عن شعراء المقاومة الفلسطينية التي كانت قد حصلت آنذاك على تأييد واسع من الجماهير العربية بعد "معركة الكرامة" التي خفَّفت قليلًا من ثقل هزيمة حرب 67 المرَّة. وقد بدا لي وأنا أقرأ مقالاته عن محمود درويش، وعن سميح القاسم، وعن فدوى طوقان، أنه - أي رجاء النقاش- يتمتع بقدرة الناقد الكشَّاف الذي يُعرِّف بما هو مجهول ومنسيّ ومسكوت عنه. كما أنه لا يهتمّ بما يُعرضُ في الواجهات الكبيرة إلَّا إذا ما كان يتميَّز بمستوى رفيع. وقد ازددت تقديرًا لرجاء النقاش بعد أن علمتُ أنه أول من اكتشف رائعة الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، وأنه هو الذي أتاح لها انتشارًا واسعًا في جميع أنحاء العالم العربي لتصبح "الرواية النموذج" بالنسبة إلى أبناء جيلي.
وعندما استلم مجلة "الدوحة" القطرية، كشف رجاء النقاش عن قدرات أخرى تتميز بها شخصيته الأدبية والصحافية إذ إنه فتح صفحات المجلة المذكورة لجميع المبدعين العرب من مختلف المشارب والتوجهات والمدارس، جاعلًا منها منبرًا للفكر الحر، وللإبداعات الحديثة سواء في القصة أم في النقد أم في الدراسات الفكرية أو الفنية أم في غير ذلك. وأذكر أني كنت مع أبناء جيلي من محبِّي الثقافة والأدب، كنَّا نُقبل على اقتناء هذه المجلة إذ من خلالها نحن نتعرَّف على مختلف تجلِّيات الثقافة العربية في جميع المجالات الأدبية والفنية.
والشيء اللافتُ للانتباه في كل ما كتبه رجاء النقاش هو إلمامه الموسوعي الدقيق بخفايا الثقافة العربية والإسلامية في جميع العصور. كما أنه كان يمتلك معرفة عميقة بالتراث النثري والشعري والفلسفي.



إلى جانب كل هذا، كان منفتحًا على الثقافة الغربية، وعلى مدارسها النقدية والأدبية والفكرية. وقد تمكَّن رجاء النقاش من الاستفادة من "جيل الكبار"، جيل طه حسين، والمازني، والعقاد، ومحمد مندور وغيرهم من الذين صنعوا مجد الثقافة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين. إلَّا أنه لم يكن مقلِّدًا لهؤلاء، بل ابتكر وسائله النقدية الخاصة به وحده.
وقد أُلِّفت كتب كثيرة عن نجيب محفوظ: "أب الرواية المصرية والعربية"، إلَّا أن الحوار المسهب الذي أجراه رجاء النقاش مع صاحب "أولاد حارتنا"، والذي استغرق سبع سنوات، وصدر في كتاب بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته، يظل مرجعًا أساسيًا. ويعود ذلك إلى أنه أحاط فيه بكل كبيرة وصغيرة من دون أن يترك لا شاردة ولا واردة في مسيرة صاحب "الثلاثية".




وقد تحدَّث نجيب محفوظ بكل عفوية وأريحية عن والده الموظف البسيط الذي كان يُعامله بـ"حنان ولطف"، ولم يضربه إلَّا مرة واحدة. كما تحدَّث عن والدته التي كانت شديدة الحرص على زيارة المساجد وأضرحة أولياء الله الصالحين، وأيضًا المعابد الفرعونية، والكنائس المسيحية. وعلى نساء الحي اللاتي كنَّ يستغربن منها ذلك، كانت تردُّ قائلة: "كلها بركة". وبأسئلته الذكية، استطاع رجاء النقاش أن يستدرج نجيب محفوظ إلى الحديث بصراحة عن الشخصيات السياسية والفكرية والأدبية التي طبعت تاريخ مصر الحديث، وتركت بصماتها واضحة عليه. وعن الأسباب التي دفعته إلى انتقاد ثورة يوليو/ تموز 1952، وعن تعاطفه مع الجنرال نجيب، وعن أخطاء عبد الناصر في مجال الاقتصاد والسياسة، متطرقًا أيضًا إلى الإخوان المسلمين، وإلى التيارات الأصولية المتطرفة التي أهدرت دمه بعد صدور روايته الشهيرة "أولاد حارتنا". كما تحدَّث نجيب محفوظ عن علاقة العالم العربي بالغرب، وتحديدًا بالولايات المتحدة الأميركية. لذا يمكن القول إنَّ الناشر كان على حقّ عندما كتب على ظهر الغلاف يقول بأنَّ الحوار "صورة بانورامية لتطور الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية في مصر في ثلاثة أرباع القرن من خلال مُعايشة الأديب الكبير لها، وتفاعله معها".
وكان رجاء النقاش واحدًا من النقاد العرب الذين كنت أتمنى أن ألتقي بهم وأحاورهم. وقد تحقَّقت أمنيتي في أواسط التسعينيات من القرن الماضي إذ دعاه مهرجان أصيلة للمشاركة في فعالياته. وجدته لطيفًا، ذكيًا في ملاحظاته، بليغًا في كلامه، متجنبًا دائمًا الإطالة والسفسطة. وذات صباح ذهبت إلى طنجة للقاء صديقي الراحل محمد شكري فوجدته غاضبًا، ومستاءً من شيء ما. فلمَّا سألته عن السبب سألني بانفعال شديد:
  • هل رجاء النقاش في أصيلة؟
  • نعم... وهل أنت غاضب منه؟
  • هذا الرجل ظلمني، وشتمني في أحد مقالاته قائلًا بأني "كاتب داعر!"...
  • وهل قرأت المقال؟
  • لا... لكن بعض الأصدقاء حدَّثوني عنه...

وعلى مدى ساعة تقريبًا حاولت إقناع صاحب "الخبز الحافي" بأنَّ رجاء النقاش ليس من فئة النقاد السطحيين الذين يستهويهم شتم الآخرين والحط من قيمتهم. وهو رصين ومُتعقِّل في أحكامه. ولا مرة واحدة تهجَّم على مبدعين انطلاقًا من وجهة نظر أخلاقية معتمدًا فقط على مضمون أعمالهم، وعلى مستواها الفني والجمالي.



والعديد من الدراسات التي كتبها تدل على أنه كان دائمًا إلى جانب ضحايا التهميش والإقصاء والإهمال في الثقافة العربية. ثم إنَّ موقفه منه خاطئ ومتسرع لأنه لم يقرأ المقال المشار إليه، مكتفيًا بما نقله بعض أصدقائه... وفي النهاية هدأ محمد شكري قليلًا ولكنه رفض الذهاب معي إلى أصيلة للقاء رجاء النقاش.
عدت إلى أصيلة آخر المساء. وفي السهرة التقيت رجاء النقاش في فندق "الخيمة". كان هادئًا وأنيقًا وبشوشًا. دار الحديث حول قضايا أدبية وفكرية وسياسية. وفي نهاية تلك السهرة الرائقة، أعلمته بما حدث بيني وبين محمد شكري فضحك وقال لي: محمد شكري مبدع متميز... وأنا لا أكنُّ له سوى التقدير والاحترام... وأمنيتي أن ألتقي به لأنه بلغني أنه يتمتع بشخصية جذابة وظريفة... أما عن وصفي له بـ"الكاتب الداعر" فهذا أمر لا علم لي به أبدًا...
بعد يومين نقلت لمحمد شكري ما دار بيني وبين رجاء النقاش فهدأ تمامًا، وبدا مثل طفل رُفعت عنه مظلمة... إلا أنَّ المصالحة المباشرة لم تتم إذ إنَّ رجاء النقاش غادر إلى القاهرة قبل أن يأتي محمد شكري إلى أصيلة...