يجمع المترجم محمد شريف الأمين 65 قصيدة من قصائد الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا (1892-1941) وينقلها للعربية، ويقدّم لها في كتاب بعنوان "ألبوم المساء وقصائد أخرى" صدر حديثًا عن دار مرفأ للثقافة والنشر في بيروت؛ وهو أكثر من تقديم، كما أن الكتاب أكثر من ترجمة، حيث سنقرأ سيرة حياة شاعرة بنى المترجم علاقة خاصة معها، نعثر فيها على آثار المعاناة والخسارات التي تلقّتها الشاعرة يومًا بعد آخر. وما دفع الأمين لنقل أشعار مارينا تسفيتايفا للعربية ليس لأنها تعدّ من أبرز شعراء روسيا في القرن العشرين فحسب، بل هو شغف المترجم بشعرها وحساسيّته الخاصة مع قصة حياة الشاعرة ومع مصيرها المأساوي.
يكتب الأمين في مقدّمته أن تسفيتايفا كانت شخصية معقّدة، متقلّبة باستمرار ما بين الفرح واليأس، بين الهبات العاطفية والفراغ الروحي، وأن الأوقات التي عاشتها كانت قاسية للغاية، "ولا يمكن التنبؤ بها"، فقد شاركت في الأحداث الثورية، لكن حياتها شابتها خسائر مأساوية وجسيمة مع ظلم واضطهاد النظام السياسي لها ولعائلتها، يعلّق الأمين "ولكن لعنتها جعلت عملها أعمق وأكثر غموضًا".
يترجم الأمين، في مقدّمته، نصًا لتسفيتايفا كتبته عن نفسها وهي بعمر الـ47، إذ تقول إنها كانت شغوفة بالقراءة وبالموسيقى منذ سن الرابعة من عمرها، وأنها تعلّمت الكثير من والديها في سن مبكرة، فوالدها كان رئيسًا لقسم الفنون الجميلة في جامعة موسكو، وعالم لغات، وعمل على تأسيس متحف الفنون الجميلة- وهو متحف بوشكين للفنون التشكيلية حاليًا وأحد أكبر متاحف روسيا- كما كانت أمها عازفة وتكتب الشعر، فكان الشعر والموسيقى شغفها منذ ما قبل السابعة من عمرها وتعلمت عددًا من اللغات وكتبت في سن السادسة مباشرة بثلاث لغات الروسية والألمانية والفرنسية. تقول مارينا "كل ما قدّر لي معرفته عرفته قبل السابعة، وعلى مدى السنوات الأربعين اللاحقة كنت أعمل على استيعابه وإدراكه"، ثم تقول "ورثتُ عن والدتي الموسيقى والرومانسية الألمانية. وبكل بساطة الموسيقى هي كل ما في نفسي". ولكن والدتها توفيت وهي بعمر الـ14 عامًا، ورغم خلافاتها الدائمة مع أمها وشعورها بنقص في الحب من قِبلها لها إذ كانت تفضّل أختها الصغرى عليها، كما تقول الشاعرة، إلا أنها عانت طويلًا من فقدان أمها في وقت مبكر من حياتها، وتُخبر أنها كثيرًا ما كانت تحلم بها، وأنها تتواصل معها من خلال الرؤية في المنام والمراسلات، ويعلّق الأمين "استحوذ على مارينا تسفيتايفا تعطّش لاواعٍ للموت لأجل لقاء والدتها"، وتقول مارينا عن فقدانها أمها "بعدها لم يتبقّ لي سوى شيء واحد، أن أصبح شاعرة".
مأساة مارينا تسفيتايفا الأساسية بدأت عام 1917 مع فرار زوجها سيرغي أفرون - الذي انضمّ إلى الجيش الأبيض- ومع مصادرة البلشفيك ما ورثته من أملاك وأموال عن والدها بعد وفاته عام 1913، وكانت تعتقد أن زوجها قد قُتل، اضطرت إلى بيع خاتم زواجها، ثم سلّمت ابنتيها إلى دار أيتام لأنها لم تكن قادرة على إطعامهما، لكن ابنتها إيرينا توفيت في الميتم بسبب الجوع، وكتبت عن ذلك قصيدة ومما قالته فيها: "يدان تداعبان/ تمسّدان الرؤوس الرقيقة/ بين ليلة وضحاها تبيّن أنها زائدة.../ لا أستطيع أن أستوعب إطلاقًا/ بأن طفلتي على الأرض". أحداث أثّرت عليها بشكل كبير ما جعلها تقول: "أنا أكره الشيوعية لكني لا أكره الشيوعيين".
في العام 1922 ستترك مارينا تسفيتايفا موطنها إلى براغ، ثم ستنتقل إلى باريس عام 1925 وستعيش قصص حب عديدة، منها مع الشاعر بوريس باسترناك، ومع الشاعر ريلكه، لكنها في الوقت نفسه كانت تمرّ بفقر مدقع "لدرجة أنه لم يعد يوجد في بيتها ما يؤكل، حتى عندما أصاب حذاءها الوحيد التلف ولم يعد صالحًا للمشي لم يكن بمقدورها شراء حذاء آخر، ما اضطرها للاعتذار عن كثير من اللقاءات الشعرية"، يكتب الأمين. وفي عام 1937 ستعود مع ابنها مور إلى موسكو، بنصيحة من باسترناك، وللمّ شمل العائلة، حيث كانت ابنتها أريادنا قد لحقت بوالدها إلى موسكو، ولكن الابنة أريادنا ستُعتقل وتضطر للاعتراف عن والدها الذي كان متهمًا بمقتل منشق سوفياتي في سويسرا، حيث سيُعدم، بينما ستُسجن أريادنا لمدة 15 عامًا بتهمة التجسّس لصالح فرنسا، أما مارينا فستعيش في موطنها على أنها زوجة جاسوس، وستعمل في غسل الأطباق في أحد المنتديات الأدبية لإعالة نفسها وابنها. وفي عام 1941 عند غزو ألمانيا الاتحاد السوفياتي، سيأتي باسترناك لوداعها ويعطيها حبلًا لتربط أغراضها للانتقال إلى مكان أكثر أمنًا، وهو نفسه الحبل الذي ستشنق نفسها فيه في العام نفسه.
نشرت مارينا تسفيتايفا أولى مجموعاتها الشعرية "ألبوم المساء" عام 1910 وكان عمرها 18 عامًا. وهي قصائد كتبتها في السنوات الثلاث التي سبقت النشر، ولاقت احتفاء كبيرًا من عدد من الشعراء والنقاد الروس، وكتبوا عنها، منهم الشاعر فاليري بريوسوف، والشاعر غوميليوف، زوج الشاعرة آنا أخماتوفا، والشاعر ماكسيميليان فالوشن الذي عرض عليها العمل معها في دار نشر للرمزيين. لكن مجموعاتها اللاحقة لم تلقَ الترحيب نفسه. وكانت قد نشرت عام 1921 مجموعتها "معسكر البجع" لوصف بطولات الجيش الأبيض (الجيش الروسي قبل هزيمته أمام البلاشفة)، كما كتبت أعمالًا مسرحية وقصصية تتضمن مواقف معادية للشيوعية فوجدت نفسها تحت وابل من مقالات الشتم في الصحافة السوفياتية. ثم نشرت مجموعتها "بعد روسيا" عام 1928 خلال إقامتها في باريس، بتمويل من أصدقاء لها في موطنها، فاتهمتها الصحافة الفرنسية بأن البلاشفة يموّلونها، لكن النقاد اعتبروا مجموعتها "بعد روسيا"، بمثابة ذروة شعرها، تركز فيها بشكل كبير على الألم والمعاناة التي عاشتها خلال الحروب والثورات. وهكذا اعتبرت نفسها منبوذة من كلا البلدين، عبّر عن ذلك ابنها قبيل انتحارها بقوله: "تعيش أمي في حالة انتحار ضبابية تبكي طوال الوقت، وتتحدث عن الذل والهوان"...
بعد خروجها من السجن، ستعمل الابنة أدريانا على جمع أعمال أمها وكذلك نشر مذكراتها معها. وبقيت أعمال مارينا تسفيتايفا ممنوعة من النشر حتى عام 1960... فيما بعد، تم تكريمها بافتتاح سبعة متاحف لها في عدة مناطق روسية مع عدد من النصب التذكارية.
الاغتراب عن العالم
من قصائد هذا الكتاب الأولى نلحظ ذلك الخيط الذي يربط مارينا تسفيتايفا بالحزن والشعور بالاغتراب عن العالم، تقول في قصيدتها "إلى أمي": "في فالس شتراوس القديم/ لأول مرة سمعنا نداءك الهادئ/ منذ تلك اللحظة أصبح الأحياء غريبين عنا/ نحن مثلك نرحّب بالغروب/ مستمتعين بقرب النهاية/ كل ما نحن أغنياء به هو أفضل الأمسيات/ أنت قدتِ أطفالك بجانب الحياة المريرة في الأفكار والأفعال/ منذ الصغر نحن قريبان من أولئك المحزونين.../ لوحدنا نقف فوق سطح السفينة/ ويبدو أن الحزن هو الإرث الذي تركتِه لبناتك"، هنا تحكي مارينا عن مشاعر غرستها والدتها بها، من دون قصد، الشعور بالغربة عن الناس، الترحيب بالموت، العيش في الماضي، والحزن... كل فكرة من هذه الأفكار تتفوق على الأخرى في تفسير مشاعر مارينا العميقة تجاه والدتها والعالم. وتسير قصيدة "الجدة" على نفس النسق مع قصيدة "إلى أمي" في وصف ما ورثته من عائلتها، إذ تقول لها "أيتها الجدة/ هذا التمرّد القاسي في قلبي/ أليس منك؟".
أما في قصيدة "انتحار" فتكلّم الشاعرة ابنها الذي تركته وحيدًا في المنزل الريفي قبل انتحارها، لكننا بالكاد نعرف أنها تكلّمه، أو أنها تعني تخيّلاتها التي تشبه ندوبًا في القلب، "عندما اختفت في البركة وهدأ الماء/ فهم إشارة العصا الشريرة/ بكى الفلوت في أقصى بيت ريفي/ لقد فهم؛ سابقًا كان ينتمي إلى أحد ما/ الآن أصبح متسولًا لا ينتمي إلى أحد ما/ صرخ مرارًا وتكرارًا/ ثم شقّ طريقه كمن أصابه الهذيان/ إلى السرير دون أن ينبس ببنت شفة بأن أمه في البركة/ - آه عودي/ بكى بهدوء وفجأة من الشرفة/ انطلق صوت ابني في مظروف ضيق وأنيق/ "سامحني... دائمًا الحب والحزن أقوى من الموت/ أقوى من الموت... نعم آه نعم".. تبدو هذه القصيدة كقصة متخيّلة، لكن نقرأ فيها أيضًا إشارات من الانتحار قريبة من مارينا، على الرغم من أننا لا نعرف تاريخ كتابتها لهذه القصيدة، إلا أن الانتحار كان يحوم حولها ويتّسع طوال حياتها كمشروع لها كان مؤجّلًا فقط.
هذا المناخ الجنائزي نجده في قصيدة "قدّاس الموتى" إذ تبدأ في تأكيد أن الموت سيطاول الجميع؛ "كم سقط في هذه الهوة السحيقة/ انشرها بعيدًا/ سيأتي اليوم الذي سأختفي فيه أنا أيضًا/ من على وجه البسيطة/ سيتجمّد كل من غنّى وحارب/... وتستمر الحياة بخبزها اليومي/ على الرغم من نسيان اليوم/ سيكون كل شيء كما لو أن تحت هذه السماء/ لم أكن موجودة"، ثم تنهي القصيدة بمشهدية تشير إلى توقها للموت: "أحبّ الساعات إليّ/ عندما يكون الخشب في المدفأة/ ويصبح رمادًا"...
سنقرأ أيضًا عن عذاب الشاعرة بسبب خروجها من روسيا الوطن، على الرغم من تصدّيها للشيوعية التي كانت تحكم البلاد، وهذا ليس مردّه لأنها كان تريد للنظام القيصري أن يستمر، فقد كانت أيضًا إبان روسيا القيصرية من أشدّ المنتقدين للبرجوازية، إنما بسبب عدم ثقتها بالشيوعية. في قصيدة "وطن" تقول: "غربة، أنت يا وطني/ بُعدٌ، مولود مثل الألم/ كما هو الألم وبقدره/ صخر في كل مكان/ أحمله بكامله معي/ ذلك البُعد يدفعني بعيدًا لأكون أقرب/ بُعدٌ يقول لي: عودي إلى البيت..."، هكذا يبدو لنا أن كل قصيدة تشكّل انعكاسًا لتاريخ حياة مارينا، بل يبدو ذلك التاريخ مرصوصًا بالكامل في قصائد الشاعرة.
والتمزّق الداخلي بسبب البعد عن روسيا نقرأه أيضًا في قصيدة "الحنين للوطن": "بالنسبة لي الكلّ متساوٍ/ بالنسبة لي تتساوى الأمور/ هكذا الوطن لم يحمني/ كان لي مثل محقّق حدّق على امتداد الروح كلها وعبرها/ كل بيت غريب عني/ كل معبد فارغ مني/ وكل شيء متساوٍ/ وكل شيء واحد..."، كتبت مارينا هذه القصيدة عام 1934 حين كانت تقيم في باريس، وهي قصيدة تنبض بشحنات عاطفية مع قدر واسع من الاغتراب والشعور بالمنفى في بيئة المهاجرين في باريس، مع تخوّفها من مخاطر العودة للوطن.
نقرأ أيضًا قصيدة "أنا أعرف الحقيقة" وهي صرخة يائسة من أجل السلام، كتبتها عام 1915، وهي تعلم أن الحرب سوف تستمر وستحصد المزيد من الضحايا، تقول: "لا حاجة ليتقاتل الناس على الأرض/ انظروا: إنه المساء/ انظروا: قريبًا يخيّم الليل/ عمّ يفتش العشاق والشعراء والجنرالات؟... قريبًا تحت الأرض سننام جميعًا/ نحن الذين على الأرض/ لم يدع بعضنا بعضًا ينام!"، بهذه النبرة توضح الشاعرة أن مآلات الحرب هي الفناء وأن الموت قادم وسيطاول البشرية كلها، وليس من معنى للحرب.
في الكتاب أيضًا عدد من قصائد الحب، فمارينا تسفيتايفا عاشت الحب مرارًا خلال حياتها بالرغم من كل المعاناة التي رافقتها، وكانت تكتب قصيدة لكل من تحبه، منها "لم يأخذ أحد شيئًا"، "اسمك عصفور في اليد"، "أود أن أعيش معك"، "إنك حبي"، وغيرها، وفي هذه القصائد شيء من الرومانسية، وربما العاديّة، كأن الشاعرة تنفصل عن متاهاتها وكتاباتها المظلمة، لنقع على تعبيرات غنائية مركّزة عن الجمال والشوق والعطاء اللامتناهي في الحب. لكن في قصيدة "هل أنت بالغ بشكل ميؤوس منه" نقرأ كلامًا لحبيب وهو حديث عن الرجال كلهم واصفة إياهم بالأطفال، ولكنها لا تستعير من الطفولة براءتها وعفويّتها، إنما تلك الجوانب السلبية، إذ تقول: "أنت طفل، والأطفال قساة للغاية/ ينتفون باروكة الدمية المسكينة ممازحين/ دائمًا ما يكذبون/ وفي كل لحظة يكونون مزعجين/ هناك نعيم في الأطفال/ ولكن كل الرذائل فيهم/ لهذا السبب هذه السطور متعجرفة/ فمن منهم يسعد بمشاركة أغراضه/ كلماتهم لاذعة بلا هوادة/ أنت طفل، لكن كلهم أطفال". كما أن قصيدة "يعجبني أنك لست مريضًا بي" تعبّر عن علاقة منفتحة بين زوجين، يستمتعون بمستوى من الحرية الهادئة غير المضطربة، نوع من الصحبة الخالية من مشاكل الغيرة بين حبيبين، وهو ما كان حقيقيًا، إذ أن مارينا عرفت الحب في الوقت الذي كانت متزوجة وتحب زوجها، وتعلم أنه في بُعده عنها بصحبة أخرى فيما يشبه أرضًا سائلة بينهما.
وثمة قصيدة من خمسة أسطر تقول: "عمّدونا في الجرن نفسه/ كلّلونا بالإكليل نفسه/ عذّبونا في السجن نفسه/ وضعونا في البيت نفسه/ أخفونا في التلة نفسها"، هي خمسة أسطر فقط لكنها تتجاوز عددها وعدد كلماتها، إنها تروي حياة الشاعرة، تاريخها الذي يحتاج إلى عناوين فقط لفهم مقدار الأسى الذي عاشته لحين انتحارها في القرية النائية التي لجأت إليها آخر حياتها.
في الكتاب أيضًا قصيدة من الشاعر أرسيني تاركوفسكي كتبها لمارينا تسفيتايفا، ثم نقرأ ردّ مارينا على قصيدته، حيث كانت ثمة علاقة صداقة قوية بينهما وقد انخرطا في نوع من "الحوار الشعري" عبر الزمن. وقد أثّر إعجاب تسفيتايفا بتاركوفسكي على أعمالها اللاحقة، وفي المقابل، كان تاركوفسكي يكن احترامًا كبيرًا لها، وكان دائمًا يشير إليها باعتبارها واحدة من أعظم أصوات الشعر الروسي. وما يظهر من قصيدتي الشاعرين أن ثمة حكايات خاصة بينهما وأنها كانت تتوق إلى أكثر من مجرّد الصداقة معه، إذ يكتب: "أُعدّت المأدبة لستة/ الورد والكريستال/ ومن بين ضيوفي الحزن والأسى/... تبقى الخمرة في الظلمة/ ويرن الزجاج/ كم أحببناكِ وكم سنة مرت"، ومما تردّ عليه: "حزين هو/ حزين أنت/ أكثرهم حزنًا هو غير المدعوّ/ كانت حزينة ومملة/ كيف تجرأت على عدم الفهم/ أنه ستة.../ هناك سبعة طالما أنا في هذا العالم.../ آه لن أجرح أحدًا/ لعدم وضع الآنية لي/ وأجلس بدون دعوة- سابعة/... أنا الحياة التي أتت إلى العشاء/ لا أحد: لا أخ، لا أب، لا زوج، لا صديق/ ومع ذلك أكرّر:/ أنت يا من أعددت المائدة لستة أشخاص لِمَ تُجلسني على الحافة"، في إشارة إلى حزنها الذي يتجاوز حزنه وأي حزن آخر وإلى إهماله لها وعدم مبادلتها الحب نفسه.
الكتاب يحتوي على العديد من القصائد الأخرى التي لا يمكن تجاوزها عند محاولة فهم معاناة مارينا تسفيتايفا، ويمكن عدّها قصصًا أخرى وليس قصائد أخرى، فلكل قصيدة من قصائد مارينا تسفيتايفا حكاية وتاريخ وندبة في قلبها. وهذا الكتاب الذي قدّمه المترجم محمد شريف الأمين هو جزء من أعمال الشاعرة التي لم تُنقل كاملة بعد إلى العربية، وقد عمد المترجم إبراهيم استنبولي إلى اختيار مجموعة من قصائدها ونقلها للعربية عام 2013 في كتاب بعنوان "كبرياء جريح"، كما اختار المترجم نوفل نيّوف مجموعة أخرى من قصائدها ونُشرت تحت عنوان "بعض حياة وشعر" عام 2020.
ثمة قصائد مشتركة بين هذه الكتب، مع فروقات في ترجمة هذه القصائد بين هؤلاء المترجمين، وهي فروقات غير جوهرية بشكل عام، تتعلق ببناء الجمل واختيار الكلمات، وليس بمعناها الكامل، مع وجود بعض الاختلافات اللافتة في بعض السطور، كأن يقول محمد شريف الأمين في قصيدة "الشاعر":
"يبدأ الشاعر الحديث من بعيد/ الحديث يأخذ الشاعر بعيدًا.../ هو من نعش الباستيل/ مثل شجرة في زينتها/ ذاك الذي يبرد أثره دائمًا/ ذاك القطار الذي يجعل جميع ركابه يتأخرون".
ويقول استنبولي: "الشاعر- من بعيد يبدأ الكلام/ الشاعر- بعيدًا يأخذه الكلام/... من هو في التابوت الحجري للباستيل/ كما الشجرة ببهائها الكامل/ إنه ذاك الذي تتحوّل آثاره دومًا/ أثرًا بعد عين/ وذاك القطار الذي يتأخر الجميع عنه".
ويقول الأمين في قصيدة "دون جوان": "لجعل ليلك مشرقًا وأبديًا/ أحضرتُ لك مروحة يد سوداء إشبيلية/ ولكي ترى بأم عينيك الجمال الأنثوي/ أنا لأجلك الليلة سأحضر قلبي".
فيما يقول استنبولي "كي يكون الليل السرمدي/ أكثر ضياء بالنسبة لك/ أنا أحضرت لك مروحة سوداء من إشبيليا/ وكيما ترى عيانًا الحسن الأنثوي/ سأحمل إليك هذه الليلة قلبي".
لم تكن مارينا تسفيتايفا شاعرة فحسب، بل ترجمت للفرنسية قصائد لبوشكين وليرمنتوف، وكتبت المسرحيات الغنائية والملاحم الشعرية، كما كتبت الروايات، منها "السياط"، "أفراح متحف"، "برج في اللبلاب"، "عريس"، "الصيني"، "حكاية أمي"، وكتبت قصصًا قصيرة، منها "أمي والموسيقى"، و"الشيطان"، وتقول في نصّها المترجم ضمن مقدّمة الأمين: "كل كتاباتي مستمّدة من سيرتي الذاتية".