Print
فارس الذهبي

عن الرهبنة العمودية في سورية

25 أكتوبر 2024
استعادات

في أحد الأيام نزلت سيدة إلى النهر لتغسل رجليها هي وجواريها، وحين حَوّل القديس نظره عنهن منتظرًا خروجهن بدأن بالاستحمام. ولما عاتبها على هذا التصرف، أجابته: "لو كنت راهبًا لسكنت البرّيّة الداخلية، لأن هذا المكان لا يصلح لسكنى الرهبان". وإذ سمع القديس هذه الكلمات قال في نفسه: "إنه صوت ملاك الرب يوبّخني"، وفي الحال ترك الموضع وهرب إلى البرّيّة الداخلية، وكان ذلك حوالي عام 285 م.
استقر القديس في هذه البرّيّة، وسكن في مغارة على جبل القلزم شمال غربي البحر الأحمر، يمارس حياة الوحدة. هناك حاربته الشياطين علانية تارة على شكل نساء، وأُخرى على شكل وحوش مرعبة.
هذا القديس هو أنطونيوس كوكب البرّيّة، أو أبو الرهبان، ويُسجّل اسمه في كتب التاريخ الكنسيّ على أنه أوّل راهب معروف في تاريخ الكنيسة كلها ترك حياة الترف والرفاهية، وانتقل إلى البرّيّة ليعيش حياة الزهد والتعبد بعيدًا عن الدنيا ومفاتنها ومشاغلها، بعد أن باع كل ما يملك ووزّعه على الفقراء.
ومع أن التجربة الرهبانية المصرية كانت سبّاقة في حياة الزهد ونحت الكهوف، والبحث عن الروح وعن الذات الإلهية بعيدًا عن لهو الدنيا وصنوف متاعها، إلا أن التجربة السورية في الرهبنة هي من ارتقت فيها إلى مراتب سامقة تليق بالتجربة الروحية للتعبّد الفردي في المشرق.
يُعَدُّ فعل الرهبنة في جوهره تعبيرًا عن اعتزال الحياة الدنيا، والسّعي نحو تنظيف العقل والروح والجسد من دَنَس الحياة ومشاكلها وتعقيداتها في سبيل الحصول على صفاء الروح والقلب ليتحقّق التواصل مع الذات الإلهية في أرقى صوره طلبًا للخلاص والنقاء. وعلى امتداد التاريخ الديني على وجه العموم، والمسيحي على وجه الخصوص، تنوّعت ضروب الرهبنة وأشكالها حتى وصلت إلى أشكال قاسية في سبيل الارتقاء بالروح وتعذيب الجسد؛ الثياب الخشنة، التقشّف في الطعام وصولًا إلى الصيام الدائم عن المأكل والمشرب، وبالطبع العزوف عن جوهر ملذات العالم المتمثّل بالاتصال الجنسيّ الدنيويّ البشريّ الجالب للشر والإغواء والإثم.
اكتشف العلماء عددًا من المواقع الأثرية التي تدل على وجود العبادة الرهبانية العمودية في شمال شرقي سورية قبل انتشارها في عموم البلاد السورية والأناضول، حيث وُجِدت حفر يتوسطها عمود مخصص للعبادة في تل خويرة في شمال شرقي سورية، وهي منطقة مقدّسة تضم العديد من المعابد القديمة، وأرجع العلماء تلك الحفر إلى فترة الألف الثالث قبل الميلاد. ولكن الغاية الدينية أو المقصد التعبّدي من هذه الأعمدة لم يُفهم إلا في سياق تفسيرات أرجعتها إلى العبادة القضيبية FALLUS.
يحدثنا الكاتب السوري لوسيان السميساطي في كتابه "الآلهة السورية" أن أحد كهنة معبد هيرا في منبج كان يصعد مرّتين في العام متسلقًا إلى أعلى أحد العموديْن المنسوبيْن إلى ديونيسوس ويبلغ ارتفاع كل منهما 54 مترًا، وحتى يتمكّن من الارتقاء إلى الأعلى كان يلفّ حول خصرِهِ وحول العمود حبلًا قصيرًا، ويستعين بقطع خشبية تشكل نتوءات تمكّن القدم من الاستناد على جوانب العمود.





وكلّما ارتفع يرفع الحبل معه من الجانبين حتى لا يسقط، وهي طريقة تسلق شجر النخيل التي يمارسها سكان الشرق الأوسط حتى يومنا هذا، ويبقى في أعلى العمود سبعة أيام ليكون أقرب إلى الآلهة التي تنصت إلى تضرعاته المتضمّنة رجاءه ازدهار سورية كلها، من سيناء حتى أنطاكيا.
ومع توالي الحضارات في البلاد السورية وخصوصًا الكنعانية والأمورية، ابتعدت العبادة القضيبية عن فكرة العمودية، وأصبح واجبًا على كل مكان طاهرٍ غير مدنّسٍ، أن يحتوي على عمود دينيٍّ يعبّر عن فكرة ارتقاء الإنسان بعيدًا عن الحياة الدنيا، سعيًا للاقتراب من السماء حيث النقاء والطّهرانيّة والجِنان التي فَصّل في التعريف بها مار أفرام السرياني في القرن الرابع الميلادي، ومار أفرام نفسه كان صوَّامًا قوامًا، ذَبُلَ جسده ورقَّ نتيجة لتطرفهِ وإغراقهِ في حياة الزهد. وقد وصفه مار غريغوريوس النوسي قائلًا: "إنه لم يكن يأكل سوى خبز الشعير والبقول المجففة، ولم يكن يشرب سوى الماء، حتى حاكى هيكلًا عظميًا بل تمثالًا من الفخار. أما لباسه فكان ثوبًا خلقًا بل أطمارًا بالية".
كانت فكرة التعبّد والزهد في العصور المسيحية الأولى مسيطرة على الحياة العامة في البلاد السورية، حيث سادت فكرة أنه كلّما ازدادت رهبنة المتعبد وتقشّفه وخشونة حياته، كلما زادت فرصه في الحصول على مأكلٍ وملْبَسٍ وحياة طرية وثيرة داخل جِنان السماء.
ومع أن الكنيسة النظامية لم تكن راضية كل الرضى عن المثل العليا للرهبانية، إلا أنها لم تقاطع الرهبان لأنه كان لها نصيب من المجد الذي ينالونه، وفيما أخذت أعداد الرهبان تزداد بدأت تطفو على السطح فكرة بلْورة العمودية في سورية المسيحية، التي أُطلق على المؤمنين فيها من أتباع السيد المسيح لأوّل مرة صفة المسيحيين خصوصًا في مدينة أنطاكيا التي عبَرها بطرس وبولص وبرنابا. تدريجيًا، تحوّلت سورية إلى غابة من الأعمدة التي يتنسّك فوقها الرهبان العموديون وفي مقدّمتهم سمعان العمودي القديس أبي الرهبان العموديين، ومؤسس الرهبنة العمودية المسيحية.
مع الأيام، تحولت حياة أبي الرهبان المتطرفة في التزهد والتقشف إلى شبه أسطورة في البلاد السورية ما انفك فيها عن التنقل بين صنوف الرهبنة من قيعان الآبار إلى أعالي الأعمدة التي قضى فوقها سنوات طويلة، وكان أشهر مكان أو عمود تنسّك فيه سمعان القديس تلّة صارت فيما بعد كنيسة القديس سمعان في سورية الشمالية الغربية. لاحقًا، أصبح عمود سمعان محجًا للمؤمنين وطالبي الخوارق واليائسين ممن يبحثون عن تبريكات أو معجزات يحاولون التبرك به أو قطْعِ جزءٍ من ثوبه، حتى تخطى صيته الآفاق، معيدًا فكرة المعمودية إلى البلاد السورية، بعد أن حولها من فكرة وثنية إلى أسلوب شهادة مسيحي راقٍ للمؤمنين والرهبان على حد سواء بسبب تجذر الفكرة المعمودية في وجدانهم وتاريخهم. صمدت الفكرة وطريقة التعبّد هذه رغم التبدلات الدينية التي انبثقت عنها أفكار متعلّقة بالتعبد العمودي (أي في ارتقاء المتعبّد فوق عمود كي يصل إلى اقرب نقطة للإله بحيث يمكنه مناجاته أو سماعه بدون تشويش من الأرضيين المنشغلين بأمور الدنيا) فظهرت المآذن التي يطلق منها النداء للصلاة ومناجاة الرب والتجّهد له.
لقد اهتم العموديون بمكان نصبهم لأعمدتهم، بحيث تكون بالقرب من الطرق الرئيسية أو في أعلى التلال كي يلحظهم عامة الناس بسهولة، وبالتالي يسعون إليهم طلبًا للبركة والعلم، فكان العموديون تبشيريين بأسلوب خاص، يعظون الناس من فوق الأعمدة، ويستمعون إلى رسائل الرب التي يتفكّرون فيها ويستوعبونها قبل نقلها للبسطاء والمؤمنين.
بدأت الرهبنة العمودية بالتقلص مع تقادم القرون، وخصوصًا بعد مجمع خلقيدونية 451 ميلادي، الذي أقرّ مبدأ الطبيعتيْن للسيد المسيح، مع العلم أن العموديين السوريين كانوا متمسكين بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح، فوضعوا أنفسهم في مواجهة الدولة الرسمية وقرارتها، وهكذا حاربت السلطات الرهبنة ومنعتهم من ممارسة شكل تعبدهم الخاص حتى تلاشت وتلاشوا تمامًا، تحت ضربات الاحتلال الفارسي عام 614، والدمار الكبير الذي طاول الحياة في الأرياف وانقطاع المؤن والمجاعات وسَوْق الرجال إلى الحروب، فكان العامل السياسي والعامل العقائدي سببيْن أساسيين لنهاية التجربة العمودية قبل دخول الاسلام إلى البلاد السورية متخذًا من العمود منبرًا للدّعاء والنفير للصلاة.
من الجدير ذكره أن بقايا العمود الذي ارتقى فوقه القديس سمعان العمودي لا يزال جاثمًا في كاتدرائية سمعان العمودي وقلعته في إدلب.