لم يكُن يتكلّم كثيرًا، تعرفتُ عليه من بعيد، ولم نتحدّث إلًا قليلًا حول علاقة الأدب بالحداثة من خلال مؤلفٍ نقديّ له. أحببتُ صمته الحكيم وشخصية الهادئة. نادرًا ما كُنت أراه يتجادل مع أهل الثقافة في سورية حول علاقة السياسة بالثقافة، أو حتّى يدّعي مفهومًا فكريًا أو نظرية أدبيّة ينسُبها إليه. كان صمتُه الدائم يُضمر اشتغالًا نقديًا مُكثّفًا ووعيًا دقيقًا بمفهوم الكتابة وعوالمها. وكان غزير الإنتاج في يوميات مشهدٍ ثقافيّ سوري مُتبدّل، يُحاول باستمرار أنْ يطرق باب موضوعات مُذهلة، انطلاقًا من مدخل النقد الروائي المعاصر. تعرفتُ عليه من خلال مؤلف نقديّ، حاول فيه استقراء مفاهيم ما بعد الحداثة من وجهة نظر النقد الأدبي وليس الفكري. برع صاحب "الكلمة والصورة" في القبض على ملامح الرواية العربيّة المعاصرة عبر منهجٍ مُتحرّر من الرطانة العلمية الأكاديميّة، لكنْ وفق كتابة قريبة من مكاشفات الذات وأحلامها، لتغدو الكتابة النقدية بين أصابعه، تجربة شخصية يتعلّم منها المرء كيف يُمكن للنقد الحميمي العابر أنْ يغدو أفقًا للكتابة النقدية ومُستقبلها. فكتاباته مُتخلّصة من ربقة الاستشهادات النظرية التي عادة ما تنطبع بها الدراسات النقدية. كتاباتٌ في مُجملها تُسقط نظريات على روايات لا ترقى إلى ألق النظريات وزخمها المعرفي.
لقد حاول الناقد السوري عزّت عمر (رحل في نهاية عام 2023)، أنْ يُوازي في العديد من أعماله النقدية بين الرأسمال المعرفي الذي دبّجه نقاد غربيون وعرب كبار، وبين تأمّلاته الشخصية في قراءة روايات عربيّة، بما يجعل القارئ يكتشف مع كتاباته، كيف يُمكن لهذا النوع من النقد داخل صحف ومجّلات، أنْ يُصبح بمثابة مختبرٍ أوّلي للتفكير في قضايا وإشكالات ذات صلة بالثقافة العربيّة المعاصرة. ليس النقد ما تمليه علينا النظريات والمفاهيم الغربية فقط، بل أساسًا ما نتعلّمه من فعل الكتابة نفسها، إذْ تُتيح لنا الكتابة اليوميّة فسحة للتفكير والتأمّل وإمكانية كبيرة لابتداع مفاهيم قادرة على أنْ تتأصّل داخل النصّ النقدي. فالنقد المعاصر، كما نفهمه في تجربة عزّت عمر، هو عبارة عن نقد مُركّب أكثر يقظة تجاه تحولات العلم. فهو في مُجمله عبارة عن نصّ مفتوح على المعرفة في مجالات العلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية.
فهذه المعارف تُغني النصّ النقدي وتقوده إلى اجتراح أفق نقدي مغاير، قريبٌ في شكله وأنساقه من الفكر، وبعيدٌ عنه في آن واحد. وقد سبق للناقد أن أنجز دراسة قيّمة حول أنماط السرد الروائي وفق ما سمّاه بـ "النصّ المسافر". فهذا الشكل السردي عبارة عن نصوص مشرعة على تحولات الثقافة، إذْ أبرز من خلاله كيف تُسافر النصوص السردية من زمنٍ إلى آخر، وتعمل عبر هذا السفر الافتراضي الضارب في الزمن والمكان على تأصيل نفسها من جديد، بل وتختبر نفسها على ضوء حضارةٍ أخرى. النصّ المُسافر المُخترق للحدود والسياجات، لا يُمكن فهمه إلاّ من خلال النصوص التراثية الكبرى، سواء في الثقافة العربيّة أو نظيرتها الغربية. إنّها نصوص يتعلّم منه المرء مبادئ السرد وعتبات الحكي ومفازات الوصف.
قدّم عزّت عمر مفهومًا أصيلًا ووعيًا دقيقًا في تشريح أنماط السرد القديم وكيف ما تزال هذه النصوص الشامخة بعمرانها السردي تُؤثّر في متخيّل السرد المعاصر وفق مقاربات تختلف من نصّ أدبي إلى آخر.
من المُثير للدهشة والسؤال في تجربة عمر الطريقة التي بها وعى نفسه من خلال الكتابة. فهو لم يبق حبيس الدراسة النقدية، بقدر ما وسّع براديغم الكتابة ليشمل القصّة والرواية والنقد وأدب الأطفال. كما أنّ النقد الأدبي لم يحصره في الرواية بل امتدّ حتّى صوب التجربة الشعرية العربية من خلال عناوين باقية في الذاكرة والوجدان. هذا التعدّد الفني والزخم الأدبي الذي يعيشه على مُستوى الكتابة راجعٌ بدرجةٍ أولى إلى ذاته المتعدّدة وحرصه الكبير على تطوير التجربة والدفع بها إلى الأمام. نادرًا ما نعثر على تجارب تمزج في سيرتها بين كلّ هذه المجالات الأدبيّة، لكنْ وفق طريقةٍ تُحافظ فيها على أصالتها على مُستوى المعرفة والخيال. عزّت عمر واحد من هذه الوجوه العربية المُجتهدة والأمينة تجاه الكتابة الأدبية وأصالتها المعرفية. لم يكتُب روايات من قبيل "قفص يبحث عن عصافير" لأنّه أحسّ بأنّ هذا الجنس أضحى بمثابة موضة لدى المؤسسات الثقافية العربيّة، بل لأنّه استشعر نفسه من خلال هذا الجنس الأدبي فعمل على نسج علاقة قويّة معه منذ عام 1991.
ومن أتيحت له قراءة أعماله النقدية، سيكتشف كيف أثرّت الروايات على مخياله النقدي، فأغلب عناوين دراساته النقدية مفاجئة، وتُضمر في ذاتها وعيًا عميقًا باللغة الشعرية وطبيعتها الساحرة. فيعمد صاحب "مرايا البحر" إلى إخراج العناوين النقدية من الصورة التقريرية التي تميّزت بها، على أساس أنّها تُضمر خطابًا علميًا يستند على مفاهيم ونظريات ومرجعيات، وليس على ذائقة شعورية كما هي حال العمل الأدبي، شعرا كان أو رواية أو قصّة. هذا الوعي بقيمة الكتابة النقدية وضرورة تحديث مفاهيمها وتجديد ترسانتها النظرية، يبدو بارزًا في سيرته الثقافية. وبالتالي، فإنّ الكتابة عند عزّت عمر، تكاد تكون تجربة شخصية لأنّها نمطٌ من الكتابة النقديّة المفتوحة على هواجس الذات ومتاهاتها.
كتابةٌ لا تتعامل بشكلٍ هوسي مع النظرية وتاريخها داخل الثقافة الغربية، بقدر ما يُحرّر ذاته مُسبقًا من ثقل النظرية، ويجعلها تذوب في جسده، فيُؤجّج غيابها وحضورها في آنٍ واحد. هذا النّمط من الكتابة يُطالع المرء في سيرة عدد من النقاد البارزين الذين جعلوا يوميات الكتابة الصحافية مختبرًا حقيقيًا للتعلّم. ومن يقرأ مؤلفات عزّت عمر سيكتشف هذه المتعة الساحرة التي ستُرافق القارئ في ليل الكتاب. إنّها تُدهشه بتقشّفها المفاهيمي وتغنيه من حيث أبعادها النقدية وتُعلمّه كيف تُصبح الكتابة اليوميّة أفقًا للتدريب النقدي الذي يأخذ على عاتقه تحوّلات النصّ الأدبي.
لقد حاول الناقد السوري عزّت عمر (رحل في نهاية عام 2023)، أنْ يُوازي في العديد من أعماله النقدية بين الرأسمال المعرفي الذي دبّجه نقاد غربيون وعرب كبار، وبين تأمّلاته الشخصية في قراءة روايات عربيّة، بما يجعل القارئ يكتشف مع كتاباته، كيف يُمكن لهذا النوع من النقد داخل صحف ومجّلات، أنْ يُصبح بمثابة مختبرٍ أوّلي للتفكير في قضايا وإشكالات ذات صلة بالثقافة العربيّة المعاصرة. ليس النقد ما تمليه علينا النظريات والمفاهيم الغربية فقط، بل أساسًا ما نتعلّمه من فعل الكتابة نفسها، إذْ تُتيح لنا الكتابة اليوميّة فسحة للتفكير والتأمّل وإمكانية كبيرة لابتداع مفاهيم قادرة على أنْ تتأصّل داخل النصّ النقدي. فالنقد المعاصر، كما نفهمه في تجربة عزّت عمر، هو عبارة عن نقد مُركّب أكثر يقظة تجاه تحولات العلم. فهو في مُجمله عبارة عن نصّ مفتوح على المعرفة في مجالات العلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية.
فهذه المعارف تُغني النصّ النقدي وتقوده إلى اجتراح أفق نقدي مغاير، قريبٌ في شكله وأنساقه من الفكر، وبعيدٌ عنه في آن واحد. وقد سبق للناقد أن أنجز دراسة قيّمة حول أنماط السرد الروائي وفق ما سمّاه بـ "النصّ المسافر". فهذا الشكل السردي عبارة عن نصوص مشرعة على تحولات الثقافة، إذْ أبرز من خلاله كيف تُسافر النصوص السردية من زمنٍ إلى آخر، وتعمل عبر هذا السفر الافتراضي الضارب في الزمن والمكان على تأصيل نفسها من جديد، بل وتختبر نفسها على ضوء حضارةٍ أخرى. النصّ المُسافر المُخترق للحدود والسياجات، لا يُمكن فهمه إلاّ من خلال النصوص التراثية الكبرى، سواء في الثقافة العربيّة أو نظيرتها الغربية. إنّها نصوص يتعلّم منه المرء مبادئ السرد وعتبات الحكي ومفازات الوصف.
قدّم عزّت عمر مفهومًا أصيلًا ووعيًا دقيقًا في تشريح أنماط السرد القديم وكيف ما تزال هذه النصوص الشامخة بعمرانها السردي تُؤثّر في متخيّل السرد المعاصر وفق مقاربات تختلف من نصّ أدبي إلى آخر.
من المُثير للدهشة والسؤال في تجربة عمر الطريقة التي بها وعى نفسه من خلال الكتابة. فهو لم يبق حبيس الدراسة النقدية، بقدر ما وسّع براديغم الكتابة ليشمل القصّة والرواية والنقد وأدب الأطفال. كما أنّ النقد الأدبي لم يحصره في الرواية بل امتدّ حتّى صوب التجربة الشعرية العربية من خلال عناوين باقية في الذاكرة والوجدان. هذا التعدّد الفني والزخم الأدبي الذي يعيشه على مُستوى الكتابة راجعٌ بدرجةٍ أولى إلى ذاته المتعدّدة وحرصه الكبير على تطوير التجربة والدفع بها إلى الأمام. نادرًا ما نعثر على تجارب تمزج في سيرتها بين كلّ هذه المجالات الأدبيّة، لكنْ وفق طريقةٍ تُحافظ فيها على أصالتها على مُستوى المعرفة والخيال. عزّت عمر واحد من هذه الوجوه العربية المُجتهدة والأمينة تجاه الكتابة الأدبية وأصالتها المعرفية. لم يكتُب روايات من قبيل "قفص يبحث عن عصافير" لأنّه أحسّ بأنّ هذا الجنس أضحى بمثابة موضة لدى المؤسسات الثقافية العربيّة، بل لأنّه استشعر نفسه من خلال هذا الجنس الأدبي فعمل على نسج علاقة قويّة معه منذ عام 1991.
ومن أتيحت له قراءة أعماله النقدية، سيكتشف كيف أثرّت الروايات على مخياله النقدي، فأغلب عناوين دراساته النقدية مفاجئة، وتُضمر في ذاتها وعيًا عميقًا باللغة الشعرية وطبيعتها الساحرة. فيعمد صاحب "مرايا البحر" إلى إخراج العناوين النقدية من الصورة التقريرية التي تميّزت بها، على أساس أنّها تُضمر خطابًا علميًا يستند على مفاهيم ونظريات ومرجعيات، وليس على ذائقة شعورية كما هي حال العمل الأدبي، شعرا كان أو رواية أو قصّة. هذا الوعي بقيمة الكتابة النقدية وضرورة تحديث مفاهيمها وتجديد ترسانتها النظرية، يبدو بارزًا في سيرته الثقافية. وبالتالي، فإنّ الكتابة عند عزّت عمر، تكاد تكون تجربة شخصية لأنّها نمطٌ من الكتابة النقديّة المفتوحة على هواجس الذات ومتاهاتها.
كتابةٌ لا تتعامل بشكلٍ هوسي مع النظرية وتاريخها داخل الثقافة الغربية، بقدر ما يُحرّر ذاته مُسبقًا من ثقل النظرية، ويجعلها تذوب في جسده، فيُؤجّج غيابها وحضورها في آنٍ واحد. هذا النّمط من الكتابة يُطالع المرء في سيرة عدد من النقاد البارزين الذين جعلوا يوميات الكتابة الصحافية مختبرًا حقيقيًا للتعلّم. ومن يقرأ مؤلفات عزّت عمر سيكتشف هذه المتعة الساحرة التي ستُرافق القارئ في ليل الكتاب. إنّها تُدهشه بتقشّفها المفاهيمي وتغنيه من حيث أبعادها النقدية وتُعلمّه كيف تُصبح الكتابة اليوميّة أفقًا للتدريب النقدي الذي يأخذ على عاتقه تحوّلات النصّ الأدبي.
آمن صاحب "النصّ المُسافر" (2020) بأنّ الرواية الحديثة والمعاصرة تجاوزت في عوالمها الأفق السياسي الضيّق الذي تبنته بعض التجارب. ذلك أإنّ الرواية المعاصرة عبارة عن نصّ تجريبي مفتوح على متاهات الذات في علاقتها بالواقع. فالبُعد الجمالي أصبح بمثابة علامة تُميّز هذا الجنس، لأنّ الروائيين استعادوا عبره ذاتهم المكلومة التي دمّرتها الأيديولوجيا، فحاولوا الغوص فيها من أجل البحث والتنقيب عن مكامن الجمال. أصبح النصّ الروائي يُراهن على أدوات أخرى في التعبير عن جسده وذائقته الفنية من خلال اللغة الشعرية وجمالية الصورة التعبيرية ولذة الحكي ومُتعة السرد وفتنة الشكل، بعيدًا عن الموضوعات السياسية التي لم تعُد تهُمّ الروائي مقارنة بسنوات خلت.