Print
منذر مصري

البدويّ بالقميص المشجّر

12 نوفمبر 2024
استعادات



[انحدرتُ مع الإبلِ،

مع وبرها المتعطّشِ للماءِ والعشب،

صوب الحجارة الكبيرة،

والجرفِ،

والمدنِ المبهمة]

أمجد ناصر

 

1- عندما أرسل أمجد ناصر إليّ أعماله الشعريّة مع أختي مرام، لم نكن قد تقابلنا قط! فكان إهداؤه: "إلى منذر المصري. شاعرًا وصديقًا. وحتّى نلتقي. أمجد ناصر. عمان. 1/8/2002". فحتّى 2002، لم أكن أعرف على نحو شخصي سوى شعراء سوريين لا يزيدون عن ثلاثة أو أربعة، وهذا بسبب ندرة سفري لدمشق وعدم مكوثي فيها زمنًا يتسنّى لي به تكوين صداقات مع شعرائها، كما ينبغي على كلّ من يريد أن يدخل كار الشعر ويثبت موقعه فيه، إضافة للتعرّف على الشعراء العرب، الذين كانوا يتوافدون إليها لأغراض شتّى، مثل الدراسة الجامعيّة أو للجوء المتعدد الأسباب والغايات أو يزورونها ليقضوا في ربوعها أيامًا وشهورًا. وكذلك الحال بالنسبة إلى بيروت التي عرفت بعد صدور مختاراتي "مزهريّة على هيئة قبضة يد" (1997) عن دار رياض الريس، وسفراتي المتفرقة إليها، بعضًا من شعرائها، لا أظنّهم أكثر عددًا من الدمشقيين. لكنّ أمجد على ما يبدو لم يكتب: "وحتّى نلتقي" اعتباطًا. لأنّه بعد سنتين تمامًا من ذلك التاريخ، تمّ بتوصية منه، أو ربّما بفرض، توجيه دعوة لي للمشاركة في الدورة 23 لمهرجان جرش للثقافة والفنون في عمّان. حيث اكتشفت أنّ أغلب الشعراء هناك لا يعرفونني كشاعر ولا كاسم، فكُتب عني حينذاك في المتابعات الصحافيّة لفعاليات المهرجان الشعريّة وكأنّني اكتشاف! ومن العدل أن أعترف أنّي بدوري لم أكن أعرف أغلبهم حتّى بالاسم، وخاصّة الشعراء الأردنيين المشاركين منهم وغير المشاركين، الذين توافدوا للقائنا في الفندق ولحضور أمسياتنا، وقد كتبت عن هذا بالتفصيل وبالأسماء في نصّ لي بعنوان "لولا الشعر لما بارحت نفسي" في كتابي "أيّها الشاعر الموت لك" الصادر منذ أشهر قليلة عن دار ميسلون.

وخلال كل أيام المهرجان كان أمجد غير متواجد معنا فهو، كما علمنا، يقضي وقته في مضارب عشيرته، لذلك لم نحظ بوقت معه إلّا عندما شاركنا رحلتنا الجماعيّة إلى بترا، حيث لفت انتباهي حينها، بل لأقل أثار استغرابي، ليس اعتداده ببداوته، فهذا أمر يعرفه الجميع عنه، إذ إن عبّاس بيضون في مقدمته للكتاب يعيد ويكرر أنّ البداوة في تجربة أمجد لازمة أو قرينة شعريّة: "بداوة معاصرة، أو بداوة مستقبليّة، تنقله إلى بيروت إلى قبرص إلى لندن من دون فرق"، بل بأردنيّته! حتّى إنّه انتقى من بين القبعات الكثيرة المعروضة لدى الكشك الصغير في محطّة انطلاق الحافلات، القبعة التي حيك على ناصيتها بخيوط ذهبيّة الشعار الملكي الأردني، أليس هو من قال يومًا:

"دمٌ في الجملةِ الموسيقيّة الأولى
للنشيدِ الملكي
دمٌ في مدارس القوّات المسلّحة"...

الأمر الذي لاحظته، أقصد تبدّي المشاعر الوطنيّة، على أغلب الأدباء والمثقفين الأردنيين، بينما نحن السوريون عمومًا أبعد ما نكون عن أيّ شيء من ذلك!


2- الفرصة الثانية التي أتيحت لأمجد أن يوصي بي للمشاركة في مهرجان ما، كانت معرض لندن الدولي للكتاب 2008، السنة التي اختير بها العالم العربي ضيف شرف على المعرض، حيث تشاركنا سويّة مع أمجد ناصر وعبّاس بيضون والشاعرة البحرينية نجوم الغانم التي حلّت محلّ قاسم حداد وأنا ندوة خاصّة عن الشعر العربي الجديد، أحسب أمجد هو من اقترحها، لما للشعر من أهميّة في التراث الأدبي عند العرب! الطرفة التي تستحقّ أن أرويها لكم، أنّه في نهاية المهرجان نشر أمجد في الصفحة الأخيرة من صحيفة "القدس العربي" خبرًا صغيرًا من سطرين يعلم به القرّاء بمغادرة الشاعر السوري منذر مصري لندن هذا اليوم! وبما أنّ الصحيفة تصدر صباحًا وموعد طائرتي كان مساء، فقد توفّر لدي بعض الوقت لأتبضّع بعض الأشياء من السوق القريبة من إقامتي في منطقة هامر سميث القريبة من مقرّ الصحيفة في منطقة فولهام في الجهة الغربية من لندن، وهناك كدت أصطدم بصاحبي ورئيس تحرير الصحيفة، عبد الباري عطوان، على الرصيف، الذي أبدى دهشته البالغة من رؤيتي صائحًا: "منذر... أما تزال هنا؟ نشرنا في الجريدة أنّك غادرت! واللّـه أنتم السوريين لا تؤتمنون!".

3- لم ينقطع التواصل بين أمجد وبيني خلال ما تلا ذلك من سنين، مرحّبًا دائمًا بأيّ مادّة أرسلها للنشر في "القدس العربي". حتّى إنّه استعان يومًا بالشاعرة، ابنة مدينتي، ندى منزلجي، لتجري مقابلة صحافية معي، أخبرتني ندى بعد نشرها أنّ أمجد أبدى اهتمامًا زائدًا فيها. إلى أن تسلّم إدارة تحرير موقع "ضفة ثالثة" نهاية 2016، وتبادلنا حينها بعض مراسلات حول إتاحة الفرصة لي للكتابة على نحو دوري، إلّا أنّ ذلك لم يحدث. وبدلًا عنه رحت أنشر قصائد ونصوصًا متنوعة، منها بعض قصائد "بولونيزات"، التي كانت السبب في هذا الجدال بيننا؛ أنشر بعض هذه المراسلات لا لكونها ذكرى أحبّ مشاركتها معكم، بل لما تحمله من دلالات غنيّة عن شخصية أمجد:

9/10/2016 منذر: "سلام أمجد. تُنشر مع الرسم باسم منذريوس مصريام، كما في المجموعة...".

9/10/2016 yahia Awad: "ما في يا منذر. هذا لعب وأنا شخص جاد. العالم كله يعرفك منذر مصري. وما رح غير!"

10/10/2016 منذر: "حبي. ليش كل هالجدية؟ خوفتني! ومع ذلك القصة ما نها لعب على الإطلاق. بالعكس الكتاب سيصدر بهذا الاسم. نشرت به "ساقا الشهوة" مع مقدمتها. وكل الناس تعلم أنه اسمي. المهم أعيد إرسال المادة بسبب خطأ بسيط. بوسات".

10/10/2016 yahia Awad: "بتعرف لأني أردني وايدي على الزناد. رغم كل ما تقول سأنشره باسم منذر مصري. هذا هو صديقي الذي أعرفه ويعرفه الجميع بره القطر السوري!! محبتي".

11/10/2016: "أعرفك أيها البدوي العنيد. في تلك الرحلة في وادي رم رأيتك عن قرب. في الخاتمة لا شيء يسدد دينك عليّ. أخذتني مرّة إلى جرش ومرّة إلى لندن. لا أنسى. عادتي الأخذ لكني أسر ما آخذ. منذرك.
20/10/2016: نُشرت "بولونيزات - آنا تاتراكوفا" في "ضفّة ثالثة".

28/10/2016 yahia awad: "تحياتي. بكل سرور واعتزاز ومحبّة لتجربتك الشعريّة المتفرّدة".


4- أعود الآن لاستكمال "مديح لشاعر آخر"، مكرّرًا الإشارة ذاتها إلى أنّ هذا كلّه يقع أكثر ما يقع في دائرة اهتمام أهل الشعر من شعراء ونقّاد وقراء وسواهم... آمل! كما آمل أن يكون صحيحًا ما كتبه أمجد في متابعته للندوة المذكورة في صحيفة "القدس العربي": "الشعر هو المدوّنة الأكثر سجالًا في الثقافة العربية، وقضاياه ما تزال تشكّل عامل جذب ملموس للمهتمّين بهذه الثقافة ومآلاتها". والثانية، إنّ المعلومات والحيثيات الواردة فيه تعود إلى زمن كتابته، أي من نهاية 2002 وحتّى 2004 أو 2005، عندما توقّفت عن متابعة الكتابة فيه، وإن ليس نهائيًّا، لأنّي كنت من حين لآخر أعود وألقي نظرة ما عليه، أعدّل أو أضيف أو أحذف كلمة ما! إلّا أنّي الآن أفعل، وإن على نحو عسفي إلى حدّ ما، ملتزمًا بوعدي لأمجد ولو بعد كلّ تلك السنين.

5- لا أدري إذا ما كان هذا قصدًا من أمجد، فبعض الشعراء يرغبون بذلك ويدعون كتبهم بلا فهارس وحتّى بلا أرقام صفحات، أم مجرّد سهو، أم توفيرًا للورق من قبل دار النشر! وهو أمر مستبعد بالنسبة إلى المؤسّسة العربيّة للدارسات والنشر التي أصدرت الكتاب، أنّ "الأعمال الشعريّة" لأمجد ناصر تخلو من الفهرس! أكتب هذا وأعيد تقليب صفحات الكتاب غير مصدّق! علمًا أنّ مجموعاته الشعريّة التي تتألّف منها الأعمال جميعها مفهرسة، ففي سيرته "خبط الأجنحة" (1996) هناك أيضًا فهرس للأعلام وآخر للأماكن. الأمر الذي ربّما لا يهم كثيرًا القارئ العادي، لكنه يصعّب على القارئ المدقّق وكذلك على الدارس معرفة المحتوى الكامل وتتبع مواقع القصائد كما هي غاية الفهارس. وخاصّة وإنه عند جمع الأعمال الشعريّة يحدث أن يعيد الشاعر ترتيب قصائده على نحو مخالف لما كانت عليه سابقًا. وهذا ما أوقعني قبل اكتشافي له في حيرة شديدة، حيث خلت أنّ أمجد قد تخلّى عن بعض قصائد "مديح لمقهى آخر" و"منذ جلعاد يصعد الجبل" لسبب او آخر.

6- إذا كان لا بدّ من أن أتحدّث عن أهمّ المؤثّرات في مجموعتي أمجد الأولى والثانية، وخاصّة في القصائد الموزونة التي تشكّل الجسم الأعظم للمجموعتين، فإن محمود درويش يكاد يكون له التأثير الأوّل وإن ليس الأخير! ولكن، منذ البداية تظهر بوضوح قدرة أمجد على تمثّل هذا التأثير، ومن ثم إعادة إنتاجه على نحو خفي غالبًا:

"هل نكتفي بالقول:
الكلامُ فضّةٌ
والشعرُ ذهبٌ
والنساءُ رنينُ المعدنينِ
منَ الآنَ فصاعدًا؟"

7- أذكر الآن قراءتي لعدّة مقالات يحاول فيها أمجد تبيان تأثيرات قصيدة النثر في شعر محمود درويش. مستشهدًا بما يقوله محمود بالذات في إحدى قصائد "كزهر اللوز أو أبعد":

"وسمّي الزمانَ الجديدَ بأسمائهِ الأجنبيّةِ يا لغتي
واستضيفي الغريبَ البعيد
ونثرَ الحياةِ البسيط
لينضَجَ شعري"

إلّا أنّ أمجد، كما يبدو لي، لم ينتبه إلى ما يمكن أن يعدّ تناقضًا صارخًا، أو حتّى سوء فهم متأصل لدى محمود درويش لماهيّة قصيدة النثر، وذلك في جمعه للغريب البعيد مع نثر الحياة البسيط، فنثر الحياة البسيط يلائمه أكثر الأليف القريب! إلّا أنّ هذه التأثيرات التي نتكلّم عنها بدأت بالظهور منذ حلول درويش في بيروت واطلاعه على نتاج شعراء قصيدة النثر، "الشعر البيروتي" كما أسماه مرّة، وبعد هذا إصداره لواحدة من أجمل مجموعاته الشعرية برأيي وهي: "أحبّك أو لا أحبّك" (1972) التي يظهر في أوّل قصائدها بعنوان "مزامير" آثار الأقرب للآثام، رغم محاولته إخفاءها، لصاحب "ماضي الأيّام الآتية" (1965) أنسي الحاج:

"أحبُّكِ أو لا أحبُّكِ
أذهبُ، أتركُ خلفيَ عناوينَ قابلةً للضياع
...
أريدُكِ حينَ أقولُ لا أريدُكِ
حاولتُ أن أستعيد صداقةَ أشياءَ غابت - نجحت
وحاولتُ أن أتباهى بعينينِ تتسعانِ لكلِّ خريفٍ - نجحت
وحاولتُ أن أرسمَ اسمًا يلائمُ زيتونةً
حول خاصرةٍ - فتناسلَ كوكب.
...
في الأيّامِ الحاضرة
أجدُ نفسي يابسًا
كالشجرِ الطالع من الكتب
...
حين صارت كلماتي عسلًا...
غطّى الذباب
شفتيَّ!"

بعد هذا في القصيدة ذاتها يأتي دور محمد الماغوط، ولا أظنّ أحدًا يمكن أن يماري في هذا:
"أيّها الوطنُ المتكرّرُ في الأغانيَ والمذابح
دلّني على مصدرِ الموت
أهوَ الخنجرُ.. أم الأكذوبة؟"

كلّ هذا محدث ولا وجود له في شعر محمود درويش قبل مجيئه لبيروت، لكنّه في إحدى مقابلاته التلفزيونيّة رغم اعترافه بأن قصيدة النثر أهمّ إنجازات الشعر العربي الحديث، قال شيئًا يتضمّن بعض الإساءة لشعرائها، ما أثار حفيظة أمجد واحتجاجه! ولكني شعرت حينها أنّ كلام أمجد فيه من الملامة أكثر من الاعتراض، حافظًا حتّى النهاية لمعلّمه القديم مكانته عنده، وكأنّه يقول، أو ربما كان يقول: "إن مثل هذا الكلام مقبول أن يقوله غيرك، ولكن غير مقبول أن تقوله أنت يا معلّم!".

محمود درويش وأمجد ناصر  عام 1979


8- يخطر لي أنّه يمكن لمسيرة أمجد الشعريّة، أن تقدم مثالًا نادرًا لتطوّر تجربة شاعر عربي تعرّض أثناء تواجده في مكانٍ ما (بيروت، قبرص، لندن)، في زمن ما (ثلاثة عقود متعاقبة في نهاية القرن الماضي حدث فيها كلّ شيء) لتأثيرات متنوعة، أدت به إلى الانتقال الكامل من شعر التفعيلة بمعاييره المستقرّة والسائدة إلى قصيدة النثر بانفلاشها وخصوصيّة تجاربها. بينما يلوح أنّ تجربة محمود درويش تقتصر على الاستفادة من هذه التأثيرات وغيرها مع ثباتها على خطّها الإبداعي الغنائي الأساسي، وذلك تأكيدًا على ما يردّده أمجد في كل مرّة: "مشكلة درويش هي شعريته الطاغية وغنائيته الفائضة".

9- ترى هل غضضت النظر عن تأثيرات أخرى لشعراء آخرين على شعر أمجد ربما أشدّ خفاءً من تأثيرات درويش، كسعدي يوسف مثلًا. خاصّةً وأنّ أمجد لا يقدم له، لا يكتب تحت عنوان قصيدته: "إلى سعدي يوسف"، بل إنّه يضع ذلك كعنوان "ثلاث قصائد إلى سعدي يوسف". وهي قصائد تمتاز باللمّاحة والسلاسة اللتين تصبغان عمومًا شعر سعدي، يبدؤها مستخدمًا صيغة الملامة بقصد التبجيل:

"إنّي أبدأ الأغنيةً
بالملامةِ
...
لم تبقِ للقادمينَ من الشعراءِ
ولي
غيرَ نافلةٍ من الكلام"

ولا مجال الآن للتوسع أكثر في الحديث حول هذا، لأنّه أيضًا يجب ألّا يفوتنا الانتباه للتأثيرات المتمثّلة على أفضل وجه لقصيدة النثر السورية، التي لا ريب عرفها أمجد جيدًا من صداقته وقراءته لشعر بندر عبد الحميد ونزيه أبو عفش وعادل محمود، وهو أمر أخبرني به شخصيًّا. ليس شيئًا لا معنى له، أنّ صديقًا لي راح يقلّب أعمال أمجد الشعريّة ويقرأ، ثم يلتفت لي ويقول: "هذه القصيدة تشبه كثيرًا شعر رياض الصالح الحسين":
"ما الذي يحدثُ
عندما الرجلُ والمرأةُ
لا يجدانِ يدًا للمصافحة
ولا لسانًا للكلام
ولا فمًا للقبلة"!
10- "أجنحة" أحسبها واحدة من أوائل القصائد التي بشرت بعودة سلالة طويلة من القصائد شبه الطلليّة في الشعر الحديث، التي يخاطب بها ضمير الجمع (نا) أناسًا غابرين بضمير الجمع الغائب (هم) بذلك الافتقاد الملتبس لكون (نا) بقوا و(هم) ذهبوا:
"أشياؤهم التي غادروها
ظلَّت تتوهَّجُ في الباحة
يقعُ فريسةً لسحرِها الغامض
كُلُّ عابرٍ"
وكأنّ أمجد هنا، باحتمالٍ ما، وبما أنّها أتت مباشرة بعد قصيدة "هجاء"، يفسّر التقاطه لأدوات الماغوط، ووقوعه فريسة لسحرها الغامض.
11- "تعب" قصيدة مرهقة حقًّا، أحببت بدايتها:
"أرهقني قميصي
أرهقتني يداي"
فلإن يرهق المرء شيء خفيف كالقميص، كلام يجعل القارئ يتوقف ويفكر، عداك عن جدته، وكذلك قوله:
"أرهقتني يداي"
وكأنّ يديه تفعلان ما لا يطلبه منها. ذكرني هذا بقصيدة باكرة لي أقول فيها عن حصان بأنّه قد تعب من ذيله! إلّا أنّ أمجد يخرجنا من هذا الذهول إلى تحديد مباشر عما يتعبه:
"أرهقني الوطنُ الذي ينهشُ لحمي..."
سوى إن الخاتمة تكاد تكون جمعًا بين هذا وذاك، حيث مرّة أخرى يأتي أمجد على ذكر اسم تيسير سبول، الروائي والشاعر الأردني المنتحر، فيقول:
"أرهقتني قصائدُ تيسير سبول
والآخرونَ يتابعونَ نشرَ أعمالِهم
الساقطة".
12- "أصيص" أظنّها واحدة من أفضل القصائد التي مرّت في الكتاب لحدّ الصفحة 146، يختار بها أمجد ضمير المخاطب ليخاطب نفسه على الأرجح، شارحًا سبب عودته لمكان ما:
"هذا ما تريدُه، إذن
بندقيةُ الصيد!
هذا إذن
ما دعاكَ إلى العودة
أدواتُ الحلاقةِ التي على الرفّ!
لا تأس
فأزهارُكَ تنبتُ الآن
في أصيصٍ آخر".
وأرى أنّ المقطع الأخير، يصنع خاتمة جميلة لقصيدة لا تحتاج لخاتمة. إلّا أنّه بوجودها يصير للقصيدة، على قصرها، موضوعان مختلفان، ولكنهما متكاملان، الأوّل: الأشياء التي دعته للعودة، والثاني أشبه بمواساة المخاطب، بأنّ عليه ألّا يأسى فإنّ هناك أيضًا أزهارًا تنبت الآن لأجله في أصيص آخر. وتأتي صفة آخر هنا لتذكرنا بعنوان مجموعة أمجد الأولى، الذي لا يستطيع عباس بيضون منع نفسه عن التغزّل به: "مديح لمقهى آخر" العنوان الجميل لديوان أمجد الأوّل (أفضّل لسبب غير محسوم أن أقول مجموعة)".
13- لا أستطيع أن أعرف مدى تأثير أن يصدر شاعر شاب كأمجد ناصر أوّل مجموعاته بعنوان جميل بهذا القدر؟ إنّه يرسم الجو الشعري السائد جميعه بكل صوره وظلاله في هذه الكلمات الثلاث. 
14- وصلت في قراءتي الطليقة لأعمال أمجد ناصر الشعرية إلى الصفحة 180 من أصل عدد صفحات الكتاب البالغة 508! غير أن أغلب ما لدي لأقوله عن مجمل تجربة أمجد قد قلته، فإلى الحلقة الثالثة والأخيرة من هذه القراءة، التي سأتناول فيها المجموعات الأربع المتبقّية لشاعر من أهم وأجمل شعراء الحداثة العربيّة بشهادة الكثيرين.