Print
جورج كعدي

الفاشيّة الصهيونيّة (1): الدين قناع لنشأة الكيان الإباديّ

14 نوفمبر 2024
استعادات

اليهودية، دينًا، مجرّد قناع للمشروع الصهيونيّ. هرتزل ملحد، ومثله كلّ العتاة الأوائل حتى آخر العنقود: وايزمان، جابوتنسكي، بن غوريون (مفاخرًا علنًا بإلحاده، ومثله غولدا مئير الأكثر جهرًا بإلحادها) وصولًا إلى نتنياهو، عجيبة الدهر ودرّة تاج الفاشية الصهيونية و"أدولفها" المتوّج على عرش القتل، بازًّا في شهوة القتل والولاء للمدرسة الجابوتنسكية جميع أسلافه وبينهم "خيرة" القتلة بيغن وبيريس وشامير ورابين وشارون وباراك وأولمرت... فكيف للملحدين أن يقودوا مشروعًا دينيًّا وهم غير دينيين؟ وكيف يُؤتمنون على دوغما توحيديّة إلهيّة وهم لا يؤمنون بإله؟ في الأمر خبثٌ مفضوح يكشف أصل المشروع وجوهره، أبعد حتى من فكرة الاستعمار والتوظيف لمصالح الغرب والاستيطان... الصهيونية مشروع قوميّ عرقيّ عنصريّ غير مفترق البتّة عن المشروع النازيّ وعرقيته الآرية "المتفوّقة"، ولا عن الفاشية الإيطالية الطامحة إلى استرداد "عظمة روما"!

أسّست الصهيونية لهوية يهودية قومية ولم تنظر إلى اليهود كمجموعة دينية هي نواة دولة قومية تكون بحسب التعديليّ أو التصحيحيّ (Revisionist) زئيف جابوتنسكي محميّة بـ"جدار حديديّ" والمقصود به جدار الحديد والنار الذي يصون الدولة الفاشية الوليدة على أرض فلسطين. كانت فكرة جابوتنسكي الأساسية تشكيل قوة مسلحة يهودية برعاية القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى لكونها وحدها القادرة على إقامة جدار الحديد والنار هذا الذي يحمي "أرض إسرائيل" من العرب، لتضاف بذلك إلى التطهير العرقي فكرة أخرى هي الانفصال الجسدي عن الوطن العربي، أو بعبارة أوضح: الفصل العنصري. وتلقّت تلك القوة اليهودية تدريبًا عسكريًا في إيطاليا الفاشية، وفي بولندا مع جنود معادين للسامية (!) وانضمّ العديد من الصهاينة، بمن فيهم رئيس الوزراء الإسرائيلي المستقبلي مناحيم بيغن، إلى "الجيش البولندي الحرّ"، وأُرسلوا إلى فلسطين حيث التحق بيغن بمنظمة جابوتنسكي التي قامت بمجازر إرهابية ضدّ الشعب الفلسطيني والإنكليز معًا. وغير مهمّ كثيرًا ما حصل من خلاف بين إرهابيّي جابوتنسكي وإرهابيّي بن غوريون من "الهاغانا". وكان التيار الجابوتنسكي الفاشيّ في حاجة إلى تسعة وعشرين عامًا ليصل إلى السلطة مع مناحيم بيغن (المصبوغة ولايته الفاشية بمذابح صبرا وشاتيلا) بلوغًا إلى اللحظة التاريخية الراهنة مع نتنياهو وبن غفير وسموتريتش الساعين علنًا إلى تحقيق الأهداف التي حدّدها جابوتنسكي إبادةً وتدميرًا وتهجيرًا.

نشرت الصحيفة الأميركية في عددها الصادر في 2 ديسمبر/ كانون الأول 1948 رسالة وجّهها ألبرت آينشتاين وحنّة آرندت "إلى محرّري صحيفة نيويورك تايمز"


الشاهد من أهله هو دومًا خير الشهود. فلنستعد من العام 1948 رسالة وجّهها ألبرت آينشتاين وحنّة آرندت "إلى محرّري صحيفة نيويورك تايمز"، ونشرتها الصحيفة الأميركية في عددها الصادر في 2 ديسمبر/ كانون الأول 1948، وحملت إلى توقيعي العالِم اليهودي الكبير والفيلسوفة اليهودية المبرّزة تواقيع مجموعة من النخبة اليهودية في أميركا وأوروبا وبينهم حاخامات وأطباء ومفكرون وأكاديميون. والأهمية الكبرى لهذه الرسالة تنبع من تمحورها حول الفاشية الصهيونية الإسرائيلية، موضوع بحثنا، وهذا نصّها:

"إلى محرّري صحيفة نيويورك تايمز

من أكثر الظواهر السياسية إثارةً للقلق في عصرنا هذا ظهور "حزب الحرية" (تنوعات هحيروت) في دولة إسرائيل حديثة النشأة، وهو حزب سياسيّ قريب على نحو وثيق من النازية والفاشية بتنظيمه وأساليبه وفلسفته السياسية وجاذبيته الاجتماعية. أنشأه أعضاء وأنصار منظمة "إرغون تسفائي ليئومي" السابقة وهي منظمة إرهابية يمينية متطرفة وقومية في فلسطين.

من الواضح أنّ الزيارة الحالية التي يقوم بها مناحيم بيغن، زعيم هذا الحزب، إلى الولايات المتحدة، تهدف إلى إعطاء انطباع بالدعم الأميركي لحزبه في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، وتعزيز علاقاته السياسية مع العناصر الصهيونية المحافظة في الولايات المتحدة. وقد قدّم العديد من الأميركيين المعروفين على المستوى الوطني أسماءهم للترحيب بزيارته. ومن غير المتوقع أن يدعم الذين يعارضون الفاشية في جميع أنحاء العالم الحركة التي يمثّلها السيد بيغن لدى اطلاعهم بشكل صحيح على سجلّه السياسيّ والآفاق التي يتطلّع إليها.

قبل حصول ضرر لا يمكن إصلاحه بسبب المساهمات المالية، والاحتجاجات العامة الداعمة لبيغن، وخلق الانطباع في فلسطين بأنّ جزءًا كبيرًا من أميركا يدعم العناصر الفاشية في إسرائيل، يجب إعلام الرأي العام الأميركي بخلفية السيّد بيغن وأهدافه.

إنّ التصريحات العلنية لحزب بيغن لا تسمح لنا بامتلاك فكرة عن شخصيته الحقيقية. يتحدثون اليوم عن الحرية والديمقراطية ومعاداة الإمبريالية، بينما كانوا منذ وقت غير بعيد يبشّرون علنًا بعقيدة الدولة الفاشية. إنّ أفعال هذا الحزب تشي بطبيعته الحقيقية. تتيح لنا أفعاله الماضية الحكم على ما يمكن أن نتوقعه منه مستقبلًا.

من الأمثلة الصادمة تصرّف هؤلاء في قرية دير ياسين العربية. هذه القرية، البعيدة عن الطرق الرئيسية والمحاطة بالأراضي اليهودية، لم تشارك في الحرب بل صدّت المجموعات العربية التي أرادت استخدامها قاعدةً. في 9 نيسان/ أبريل هاجمت العصابات الإرهابية هذه القرية المسالمة التي لم تكن هدفًا عسكريًا في القتال فقتلت معظم سكانها (240 رجلًا وامرأة وطفلًا) واحتفظت بعدد قليل منهم أحياءً لعرضهم كأسرى في شوارع القدس. أصيب معظم الجالية اليهودية بالرعب من هذا الفعل وأرسلت الوكالة اليهودية برقية اعتذار إلى الملك عبد الله ملك شرق الأردن.

لكنّ الإرهابيين، بعيدًا عن الخجل من فعلتهم، كانوا فخورين بهذه المجزرة وأذاعوها على نطاق واسع ودعوا جميع المراسلين الأجانب الموجودين في البلاد لرؤية الجثث المكدّسة والدمار الذي نزل بدير ياسين.

إنّ حادثة دير ياسين تكشف صفات "حزب الحرية" وتصرفاته. كان يبشّر داخل المجتمع اليهودي بمزيج من القومية المتطرفة والتصوّف الديني والتفوّق العنصري. وأسوة بالأحزاب الفاشية الأخرى، استُخدم لكسر الإضرابات وتدمير النقابات الحرة. وبدلًا من ذلك، اقترحوا إنشاء نقابات للشركات على غرار الفاشية الإيطالية.

خلال السنوات الأخيرة من أعمال العنف المتفرقة ضدّ البريطانيين، دشّنت منظمة الإرغون ومجموعة شتيرن عهدًا من الإرهاب داخل المجتمع اليهودي في فلسطين، وتعرّض المعلّمون للضرب إذ تكلّموا علنًا ضدّهم، وتمّ إطلاق النار على بالغين لم يسمحوا لأبنائهم بالانضمام إليهم. وبأساليب العصابات ضربًا وتحطيمًا للنوافذ وسرقةً على نطاق واسع، أرعب الإرهابيون السكان الذين دفعوا أثمانًا باهظة.

ولم يكن لأعضاء "حزب الحرية" أي دور في الإنجازات البنّاءة التي شهدتها فلسطين، ولم يستولوا على أي أرض، ولم يبنوا أي مستوطنات، ولم يفعلوا سوى عرقلة النشاط الدفاعي اليهودي. حظيت جهودهم المتعلقة بالهجرة واستقدام زملائهم الفاشيين بتغطية إعلامية كبيرة. إنّ التناقضات بين الادعاءات الجريئة لبيغن وحزبه، وسجلّ أفعالهم في فلسطين، تكشف بوضوح أنّه ليس حزبًا سياسيًا عاديًا. إنّها علامة واضحة للحزب الفاشيّ الذي يعدّ الإرهاب (ضد اليهود والعرب والبريطانيين) والبيانات الكاذبة وسيلةً، وإقامة "دولة مهيمنة" غايةً.

على ضوء الاعتبارات المذكورة أعلاه، لا بد من معرفة حقيقة السيد بيغن وحركته في هذا البلد. إنّ ما يضاعف مأساوية الوضع هو أنّ زعماء الصهيونية الرئيسيين رفضوا القيام بحملة ضد جهود بيغن، ولم يشرحوا لناخبيهم الأخطار التي تتعرّض لها إسرائيل نتيجة دعم بيغن.

لذلك، يلجأ الموقعون أدناه إلى هذه الوسيلة لعرض بعض الحقائق الساطعة والعلنية في ما يتعلق ببيغن وحزبه، ولحثّ جميع المعنيين على الامتناع عن دعم هذه الصورة الرمزية الأخيرة للفاشية".

                              نيويورك، 2 كانون الأول/ ديسمبر 1948

 بعد 76 عامًا، ينطبق مضمون هذه الرسالة على المرحلة الصهيونية الفاشية الراهنة، مع نتنياهو وعصابته، أكثر من أي وقت مضى.

لم يكن الدين يعني شيئًا على الإطلاق لبن غوريون إذ كان يحتقر بشدّة رجال الدين  (Getty)


للتواطؤ بين الفاشية الأوروبية والصهيونية تاريخ مديد سآتي إليه في جزء ثانٍ من هذا البحث. أمّا في هذا المستهلّ فإنّ محوري هو التشديد على أن الصهيونية مشروع غير دينيّ يختلف ظاهرًا عن الباطن، لكنّ جوهره فرض عليه التقنّع بالفكر الديني، فيما يعمل ضمنًا ضدّ الدين، حتى أنّه ارتدى ثياب المتدينين وادعى رعاته الصلاة أمام حائط البراق. وكأيّ مشروع قوميّ فاشيّ (لم يُغيَّب الشقّ الدينيّ في العقيدة النازية أيضًا) كان في حاجة إلى مجموعة كبيرة من الأتباع المؤمنيْن بالدين اليهوديّ كرافعة وقاعدة انطلاق عدديّة لبناء دولة قومية لليهود، فبدا الأمر كأنّه لمصلحة الشتات اليهودي ونهاية رحلة التيه عبر الأزمنة. زعم قادةُ الحركة الصهيونية أمام الشعب اليهودي أنّ إقامة دولة لليهود في ما يسمّى "أرض الميعاد" هي تلبية لوعد أو أمر إلهيّ، فاختلقوا تاريخًا وزيّنوا نصوصًا توراتية واستغلّوا الشعور الديني أو العصبيّة الدينية لدفع يهود من بلدان عديدة (في أوروبا الشرقية تحديدًا) إلى الهجرة الجماعية نحو فلسطين.


لم يكن الدين يعني شيئًا على الإطلاق لبن غوريون إذ كان يحتقر بشدّة رجال الدين وله قوله المشهور: "إنّ حياة اليهود لو تُركت للحاخامات لظلّوا حتى اليوم كلابًا ضالّة في كل مكان يرفسهم الناس بأقدامهم". المركّبات الفاشية الدينية الفاشية تتمثل في حزب "عوتسما يهوديت" وفي التيار الديني الصهيوني الذي يتكئ على معتقدات دينية ثاوية في النصوص التوراتية والتلمودية تجيز (بحسب أساطير "العهد القديم") ارتكاب الإبادات والمجازر وتدمير القرى والمدن وطرد السكان. المزيج الشعبوي القومي الديني المسياني هو المكوّن للفاشية الدينية القديمة والراهنة، ويخدم في الواقع النظرية الإثنيّة، الركن الثاني للمشروع الصهيوني الفاشيّ، القائمة مثل الفاشية النازية على نقاء العرق وتفوّقه، ارتكازًا على مقولة "شعب الله المختار" المؤوّلة صهيونيًا على عكس ما يفسّرها كبار علماء الدين اليهود على أنّها تعني شعبًا اختاره إلهه ليكون من أشدّ المؤمنين به والخاضعين لمشيئته وتعاليمه ووصاياه. المقولة التوراتية المنصوصة بيد بشرية كسائر الكتب الدينية المنقولة والمنحولة أمست ذريعة عرقيّة لتمييز شعب عن باقي الشعوب، كما هي الحال مع تميّز العرق الآريّ وتفوّقه بحسب الأيديولوجيا النازية.

وضع الصهاينة المؤسّسون حدًّا لدور الدين في الوطن القومي اليهوديّ، فقد حدّد هرتزل دور رجال الدين على هذا النحو: "سوف يقوم حاخامونا بتكريس جهودهم وطاقاتهم لخدمة فكرتنا، وسوف يغرسونها في نفوس الرعية اليهودية عن طريق الوعظ والإرشاد من منابر الصلاة. لن نسمح إذًا بظهور أيّ نزعات ثيوقراطية لدى سلطاتنا الروحية، وسوف نعمل على إبقاء هذه السلطات داخل الكنيس".
وثمة قول آخر لبن غوريون في هذا الصدد إذ اعتبر الدين بمثابة "وسيلة مواصلات فحسب، ولذلك يجب أن نبقى فيها لبعض الوقت لا كلّه". كلا الرجلين توسّل الدين لجذب اليهود إلى فلسطين ورأى في اليهودية هوية ورابطة قومية وكان حذرًا من هيمنة اليهودية كدين. ولكن مع إقامة "دولة إسرائيل" أضحى للقوى الثيوقراطية حضور قوي، وهم اليوم يستخدمون "وسيلة المواصلات" (الدين، بحسب بنْ غوريون) كلّ الوقت لا بعضه (الحريديم وباقي الفئات الدينية يشكّلون أكثر من نصف المجتمع الإسرائيلي) وانقسم الكيان الصهيونيّ على نحو حادّ بين هويات متعددة لليهود الذين لم يعودوا قادرين على تحديد هويتهم كأفراد وهوية كيانهم وهل هو علمانيّ أم دينيّ، ما يؤهّله لصدام محتمل جدًا في أيّ وقت غير متوقع. كيانٌ بشعوب كثيرة، وقوميّة غير فالحة وغير ضامنة، حتى وهي في ذروة فاشيّتها الإبادية، القاتلة والمدمّرة، المتحدّية للعالم بأسره، على ما فعل أدولف هتلر في الماضي غير البعيد، قبل سقوطه التراجيديّ، وعلى ما يفعل نتنياهو وعصابته اليوم.

لم تواجه المؤسسة الصهيونية مأزقًا أخطر بعد إنشاء كيانها من طرح فئة كبيرة من المتدينين المتمسكين بحرفية النصّ التوراتيّ أسئلةً من نوع: لِمَ تنضوي الجماعة اليهودية في فلسطين يومًا بعد يوم تحت قيادة صهاينة "اشتراكيين" (هم في الباطن فاشيون) ذوي فكر إلحاديّ، في حين ينكفئ اليهود الأرثوذكس على أنفسهم؟ وكيف يمكن إضفاء طابع دينيّ على الصهيونية وهي مسوقة من مجموعة كفّار؟ ولمعالجة هذا المأزق، صاغ الحاخام الأشكنازي الأكبر في فلسطين أبراهام كوك (1865 - 1935) مخرجًا بتقديمه إجابة ترتكز على التراث الكابالي تفيد بأن "كل مظاهر الخلق تشهد على الحضور الإلهي، حتى تلك التي هي غير مؤمنة في الظاهر". فالصهيونية، في فتواه الخبيثة، "تتضمن أيضًا ملامح القداسة" و"الرواد الاشتراكيون الذين قدموا إلى فلسطين لخدمة الأرض شاركوا من غير وعي منهم في مشروع يرعاه الله" (مثلما يرعى اليوم إبادات نتنياهو!) و"لأنّ طبيعة اليهود الحقة لا يمكن إلّا أن تكون دينية"، وبالتالي فإنّ الصهيونية وفق هذا المنطق الدينيّ الهزليّ قدمت في الواقع صورة حية عن خلاص مسيانيّ (مسيحاني) سائر نحو التحقّق. وتُستثمر هذه المسيحانية الأرضية بجلاء في الهيجان الاستيطاني النشط حتى هذه الساعة. إن أمثال الحاخام كوك، وهم كثر في المجتمع الخرافيّ والفاشيّ المريض، جعلوا الصهيونية حركة متماهية مع اليهودية: فالإيمان بـ"خلود إسرائيل" هو مفهوم دينيّ أساسًا. أضحت "دولة إسرائيل"، بباطنها الفاشيّ وظاهرها القوميّ الدينيّ، الصيغة الأكثر فرادةً (وحداثةً، كما شاءها هرتزل وصحبه) لليهودية.

                                                                    (يتبع)