Print
سمر شمة

نظرة سريعة على فلسطين في القصة القصيرة: "نروي الحكاية"

19 نوفمبر 2024
استعادات

 

تُعد القصة القصيرة من الأجناس الأدبية القديمة، وقد أخذت طابع الانتشار لقربها من الشعوب في حكاياتهم الشعبية التي تتوارثها الأجيال. صورّت حياة الناس تصويرًا دقيقًا، وجمعت بين الحقيقة والخيال واعتمدت الحدث النامي ووحدة الموقف، إنها "حب صغير خائف ينمو في منعطف معتم من منعطفات المدينة، أخت الصمت، وابنة الفراغ، وبنت في الثانوية العامة، ذكية، برّاقة، لكن حزينة دائمًا.

تحتل القصة مكانة مرموقة في المجتمع البشري، وتمثّل دورًا بارزًا في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والإنسانية، ولذلك توجّه الأدباء الفلسطينيون نحوها وسخّروها كشكل من أشكال الثقافة المقاومة للحديث عن القضية الفلسطينية الدامية المؤلمة، والنكبة والنكسة، وحروب غزة وغيرها من المدن والقرى، وأحداث النصر والبطولات، وهمجية الاحتلال ومجازره المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني الذي يعاني منذ عقود من التهجير واللجوء والقتل والاعتقال والتجويع والخذلان من الجميع. وقد برع كتابها من الفلسطينيين في تجسيد حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي ويوميات المقاومة والثوار من خلال قصصهم القصيرة والقصيرة جدًا.

بدأت القصة القصيرة في فلسطين في العشرينيات، ويعتقد معظم نقّاد السرد بأنها خرجت من معطف الكاتب الفلسطيني خليل بيدس، المولود في الناصرة والذي توالت بعده أسماء كبيرة هامة رسخّت هذا الفن وأعطته أبعادًا حداثية منهم: غسان كنفاني- إميل حبيبي- جبرا إبراهيم جبرا- سميرة عزام- نجاتي صدقي- محمود سيف الدين الإيراني وغيرهم. ثم جاء جيل آخر ذهب بهذا الفن إلى اتجاهات جمالية مختلفة منهم: محمود شقير- توفيق فيّاض- زكي العيلة- ماجد أبو شرار- غريب عسقلاني وآخرون.

تبعه الجيل الذي سُمي بجيل التسعينيات من كتاب القصة القصيرة منهم: صالح مشارقة- مالك الريماوي- إيمان بصير وغيرهم.

واليوم تُكتب القصة على يد جيل جديد يكتب كسابقيه عن عدالة قضية فلسطين وعذابات الفلسطينيين أينما حلوا وأحلامهم بالعودة والنصر منهم: يسري الغول، شيخة حليوى وآخرون. وقد كانت ممارسات الاحتلال ومجازره وسياسته العنصرية القائمة على القتل والإبادة والتطهير العرقي مرافقة لغالبية القصص القصيرة في فترات مختلفة.

صدرت أول مجموعة قصصية لمؤسّس القصة القصيرة في فلسطين خليل بيدس بعنوان "مسارح الأذهان" في 1924، وله مجموعة أخرى بعنوان "ديوان الفكاهة" وقد حذّر فيها من خطر وعد بلفور والمخططات اليهودية وتحدّث عن السجون والاعتقالات والقمع ووحشية الاحتلال.

أما الأديب محمود سيف الدين الإيراني والذي صدرت له أعمال قصصية هامة مثل "أول الشوط" و"مع الناس" و"ما أقل الثمن" و"غبار وأقنعة"، فقد عالج في قصصه موضوع الفوارق الطبقية في المجتمع الفلسطيني وأسباب التخلف في الوطن العربي وركّز على حياة الشعب الفلسطيني الصعبة ومعاناته الكبيرة.

وبرز اسم الأديب غسان كنفاني الذي يُعتبر من أهم كتّاب القصة القصيرة في فلسطين والذي أسهم كما قال بعض النقاد مع سميرة عزّام ومحمود شقير في تطوير القصة العربية عمومًا والفلسطينية خصوصًا. وقد جسّدت أعماله التراجيديا الفلسطينية وهموم وأوضاع المخيّمات واللجوء وجرائم الاحتلال، وهو لم يكن أديبًا فقط، بل كان مناضلًا من أجل فلسطين التي رافقته في أعماله الأدبية وفي حياته التي انتهت على يد الموساد الإسرائيلي في تفجير استهدفه مع ابنة أخته في الثامن من تموز/ يوليو 1972 ببيروت.

أصدر مجموعات قصصية كثيرة بعد أن قال: "أن تكتب قصة قصيرة فهذا أدب مقاوم" ومنها "موت سرير رقم 12- عن الرجال والبنادق - أرض البرتقال الحزين- القميص المسروق- عالم ليس لنا" تناول فيها قضايا وطنية وقومية وإنسانية وهمومًا وجودية ومأساة أبناء شعبه المشرد الذي يتعرض للقتل والجرائم دائمًا.

كتب قصة "ورقة من غزة" وفيها أشار إلى المرارة التي يعيشها الشعب هناك ومعاني فقدان الوطن: "غزة هذه أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع"، وتحدّث خلالها في رسالة وجّهها لأخيه المهاجر عن الأرض والذكريات وجرائم العدو في غزة ومجازره المروعة.

وفي أوائل القصص التي كتبها بعنوان "القميص المسروق" عام 1958 تناول آلام الشعب الفلسطيني والظلم الذي تعرض له وإجرام الاحتلال من خلال الاستعانة بالرموز، فالقميص والطحين في القصة جزء من رموز تشير إلى النكبة وسرقة فلسطين. وفي قصته "إلى أن نعود" تحدّث عن فدائي يتسلل لينفذ عمليات في عمق الأرض المحتلة انتقامًا لوطنه وعائلته، وعن حلم العودة والإصرار عليه وذكريات الفدائي حين دخل العدو إلى بيارات البرتقال وارتكب جرائم بشعة وشنق زوجته.

وبرز أيضًا اسم الأديب والقاص إميل حبيبي الذي لعب دورًا بارزًا في إثراء الثقافة الفلسطينية والأدبية، وتناول في قصصه مواضيع النكبة والهزيمة وتأثيرها على البلاد والعباد. أصدر "سداسية الأيام الستة" وفيها جمع ست قصص تدور حول العودة إلى فلسطين وحول الاحتلال الغاشم للضفة وقطاع غزة، وفلسطينيي 1948 وهزيمة حزيران/ يونيو 1967.

وأصدرت رائدة القصة القصيرة في فلسطين سميرة عزام خمس مجموعات قصصية بعد النكبة، تحدّثت فيها عن أحوال اللاجئين ومعاناتهم المتواصلة في الدول العربية والمنافي، وعن الإنسان المقهور وذلك في أعمالها القصصية "أشياء صغيرة" و "الظل الكبير" وهي المولودة في عكا والتي عانت من التهجير مرارًا وتُوفيت بعد هزيمة حزيران/ يونيو إثر صدمة نفسية كبيرة  تعرّضت لها جرّاء هذه الهزيمة التي لم تستطع تحمّلها.

تُعتبر سميرة عزام من أبرز الكاتبات العربيات في مجال القصة القصيرة وقد تحدّثت في قصصها عن جرائم الاحتلال، ولا سيما في "خبز الفداء" وهي عن ضرورة الخبز لاستمرار الحياة وعن امتزاج هذا الخبز بدماء الفلسطينيين من هول القصف والجرائم. وتحدّثت أيضًا في قصتيها "الثمن" و"بنك الدم" عمّا تعرّض له الشعب الفلسطيني من قتل وتدمير بلغة أدبية رفيعة: "إنه يتذكر تلك الليلة، كان مُكلفًا بحراسة مستشفى صغير، وكانت أسرّة المشفى مشغولة بثمانية جرحى، حملهم إخوانهم بعد معركة انصبّ النار فيها من مستعمرة نهاريا اليهودية على القرى العربية في قضاء عكا".

بدأت القصة القصيرة في فلسطين في العشرينيات، ويعتقد معظم نقّاد السرد بأنها خرجت من معطف الكاتب الفلسطيني خليل بيدس


من رواد القصة القصيرة الفلسطينية الأوائل أيضًا الكاتب نجاتي صدقي الذي كرّس حياته في توظيف الأدب الفلسطيني خدمة للقضايا الوطنية ولإبراز المعاناة والأوضاع الحرجة التي عاشها شعب فلسطين بعد النكبة، وللتركيز على المشاهد المؤلمة والحزينة والجرائم التي مُورست بحقه، وهذا ما جاء في مجموعته القصصية "الأخوات الحزينات " التي تعبر عن المأساة التي بدأت بصدور وعد بلفور الذي مهّد لسيطرة الصهاينة وتشريد الشعب الفلسطيني وتهجيره.

أما الروائي وكاتب القصة القصيرة جبرا إبراهيم جبرا، المولود في بيت لحم في عهد الانتداب البريطاني، والذي يُعتبر أحد المبدعين في الأدب العربي الحديث، فقد كتب مجموعات قصصية عديدة منها "عرق وقصص أخرى" وهي تتحدث أيضًا عن حياة الناس اليومية في فلسطين وعن حياة وطبيعة المثقف العربي وقد ألّفها في أمكنة وأجواء مختلفة في القدس وبغداد ولندن.

ومن كاتبات القصة القصيرة من الرعيل الأول أيضًا الأديبة نجوى قعوار التي عالجت القضايا الاجتماعية منذ فجرها وبعد النكبة الكبرى وتحدثت عن الاحتلال وجرائمه وعن الواقع الفلسطيني والناس المهمشين واللجوء والعودة وذلك في قصصها المتنوعة (عابرو السبيل- دروب ومصابيح- لمن الربيع- رحلة الحزن والعطاء) وغيرها.

ومن الجيل الثاني لكتّاب القصة الفلسطينية القصيرة برز الأديب والقاص المقدسي الشهير محمود شقير الذي ركّز في أعماله القصصية على القضية الفلسطينية بعد النكبة وإبّان النكسة وهزيمة حزيران، وجاء ذلك مثلًا في قصة "الخروج" التي عبّر فيها عمّا ألمّ بقرية فلسطينية من قتل وتدمير ومجازر بعد 1967 وأدى لهجرة الكثيرين من أبنائها خوفًا من أن يكرر الصهاينة ما فعلوه من جرائم مروعة في مذبحة دير ياسين الشهيرة. وقد اعتنى في نتاجه الأدبي  باللغة  عناية خاصة وجاء ذلك بوضوح في عمله القصصي الأول "خبز الآخرين". وبرع أيضًا في القصة القصيرة جدًا كما في "طقوس للمرأة الشقية" و"صمت النوافذ" و"أدراج" التي أشار فيها إلى الجرائم الإسرائيلية البشعة وإلى هموم الشعب الفلسطيني وعرّى الواقع بجرأة: "فجأة انتبهت إلى أن القدس تخضع لمنع التجوال. حملونا وألقوا بنا في العراء. ثم وضعوا المواد الناسفة في زوايا البيت ونسفوه".

في الستينيات أيضًا برز الروائي وكاتب القصة القصيرة توفيق فياض وهو من أراضي 1948 والذي كتب في مجموعته القصصية "الشارع الأصفر" عن مناضلي الداخل وما يتعرضون له من اعتقال وتعذيب وحشي وعن التهجير وإشكالية الهوية الفلسطينية: "إنك تعيش في قبر. شعبك كله يعيش في قبر مظلم وقاتل". وأشار أيضًا إلى جرائم الاحتلال في مجموعته القصصية "البهلول"، وقد استدعى في قصصه الحكايات الشعبية والأهازيج وركّز على النزوح واللجوء المرّ القاسي.

وكتب الأديب والمناضل ماجد أبو شرار، ابن دورا قرب الخليل، مجموعته القصصية "الخبز المرّ " وفيها كان يحثّ السير باتجاه الوطن ويرصد تفاصيل حياة الناس ومشاعرهم الإنسانية ويحكي عن المسحوقين والفقراء والأبطال والأمل بالعودة إضافة إلى حكايا عن جرائم المحتل وعنصريته البغيضة: "واقع يغبشه دم. يخنقه دخان قنابل. تهدّمت بيوت مدينتي. تمزقت أجساد أبناء مدينتي. انتشر الموت والدمار في كل أجزاء مدينتي". وكتب في "حكاية الرحيل" عن مدينته التي تنام الشمس في بحرها كل مساء، وعن المزارع، وبيارات البرتقال والأسرة والأحلام الكبيرة والرحيل وعن تدمير المحتل لكل شيء وعن الاغتراب قسرًا قبل أن تغتاله المخابرات الإسرائيلية في روما عام 1981 في انفجار في غرفته بأحد الفنادق هناك.

في السبعينيات، لمع اسم الأديب زكي العيلة في المشهد الثقافي الإبداعي في مجال الفن القصصي وذلك بعد أن كتب مجموعات قصصية هامة، وترك نتاجًا غزيرًا في هذا المجال: "حيطان من دم" و"زمن الغياب" و "العطش"، إضافة إلى مجموعة قصص قصيرة جدًا تحت عنوان "القبض على محمد الدرة" وكلها تحدثت عن قضايا فلسطينية هامة وعن المقاومة وسياسات الاحتلال الإجرامية.

ظهرت أيضًا وعبر سنوات أسماء أدبية كثيرة في مجال القصة القصيرة الفلسطينية وجيل جديد لا يتسع المجال لذكرها جميعًا منها الأديب يسري الغول ابن مخيم الشاطئ بغزة والذي أصدر مجموعات قصصية هامة منها "على موتها أغني" و"خمسون ليلة وليلى" و "الموتى يُبعثون في غزة" وهو الذي رفض الخروج من القطاع بعد بدء حرب الإبادة المتواصلة عليه،  وقصف الاحتلال منزله ودمره بعد خروجه منه بفترة وجيزة ولكنه بقي يبث رسائل وحكايا من غزة التي كتب عنها وعن شعبها الصامد، وعن العدوان الإسرائيلي على كل ذرة من ترابها: "ما يراه الناس عبر الشاشات حول الحال التي يواجهها الناس في غزة يفوق الخيال. ويتجاوز حدود العقل. في حين هو يعبر فعلًا عن مدى إيمان أهل غزة بقضيتهم. وما حدث في السابع من أكتوبر ما هو إلا دليل على أنه لا يمكن أن تتحرر أمة ترزح تحت الاحتلال".

غزة...

الجدير ذكره أن مدينة غزة احتلت مكانًا هامًا في النتاج الثقافي الأدبي الفلسطيني لما شهدته من حصار وحروب دامية، وقد صدرت بخصوصها قبل 2023 مجموعة من الكتب والمؤلفات التي وثقت أحداثها منها: "كتاب غزة" الذي جمع عشر قصص لعشرة كتّاب وثّقوا ما جرى بين عامي 2008 و2009 والهجوم الإسرائيلي الكاسح آنذاك على القطاع. وقد كتبها كتّاب يافعون تحدّثوا فيها عن المجازر وسفك الدماء وخنق الصرخات والاحتجاجات. ومنهم الكاتبة الغزاوية نيروز قرموط في مجموعتها القصصية "عباءة البحر" التي تحدّثت فيها عن غزة وبحرها وأضاءت المعاني العميقة التي تنطوي عليها تجارب سكانها المريرة.

وكتبت القاصّة شذى حنايشة أيضًا قصة "فرانكشتاين في غزة" أثناء حرب 2014 على القطاع، وفيها تحدثت بوجع كبير عن الطفل الذي لم يجد أحدًا من أسرته الكبيرة على قيد الحياة بين الركام ولم يجد ألعابه وصرخ وبكى ولكن لم يسمع أحد صوته لأن هدير الطائرات وانفجار القنابل والصواريخ التي تسقط على المنازل والبشر والحجر كان أعلى من صوته بكثير.

وكتبت الإعلامية هداية شمعون مجموعة قصصية بعنوان "ابنة البحر" رصدت فيها أوجاع غزة وأهلها وواقع المرأة الغزاوية ومسؤولياتها الكبيرة وعمليات القتل المتواصلة هناك.

تجدر الإشارة إلى أنه وعلى الرغم من التمزق والحصار اللذين وقعا على غزة لسنوات طويلة فإن فيها عددًا كبيرًا من كتّاب القصة القصيرة مثل: عبد الله تايه الذي ولد في مخيم جباليا لعائلة هُجرت من منزلها وأرضها، وقد كتب مجموعات قصصية عديدة: "يدق الباب" و"الدوائر برتقالية" و"انفلات الموج" و"جنود لا يحبون الفراشات"، وتحدّث فيها عن هموم القطاع وأهله وعن فلسطين والمجازر وتدمير المؤسسات. والكاتب غريب عسقلاني الذي كتب عن المقاومة ضد الصهيونية وله ست قصص قصيرة تُرجمت لعدد من اللغات، ونشر مجموعات قصصية إلكترونيًا: "أول المرايا" و"مقامات الوجد" و"غناء لقمر بعيد" وتحدث فيها عن غزة والعدوان الإسرائيلي الهمجي عليها وحرب الإبادة.

تبقى حكايات غزة وفلسطين ونضال شعبها الصابر الصامد في الذاكرة والوجدان ولن تُنسى، وهي الشاهد على واحد من أكثر الاحتلالات وحشية في تاريخ البشرية. لقد ردّت غزة على الغازي بدماء أبنائها ودموع الأمهات الغالية وبطولات الشعب الأسطورية ولعلها أيضًا ترد بالكتابة والحكايا ولسان حالها يقول: "إذا كان لا بد من الموت. فلا بد من أن تعيش أنتَ لتروي حكايتي".

مراجع:

- الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.
- مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.
- الموسوعة الفلسطينية.