Print
منذر مصري

مديح لشاعر آخر

2 نوفمبر 2024
استعادات
[في الذكرى الخامسة لرحيل أمجد ناصر 1955-2019]

1- سأصارحكم بأنّ النصّ الذي أضعه الآن أمام أنظاركم ليس عملًا ناجزًا، أو لأقل، ليس عملًا ناجزًا مائة في المائة. وبأنّي، منذ ما يقارب العقدين من السنين، فاقد القدرة على متابعة الكتابة فيه حتّى نهايته كما ينبغي. وأيضًا، أنّه حدث وأخبرت أمجد في لقائنا لأول مرّة خلال مهرجان جرش 2004، بأنّي أقوم بكتابة (قراءة طليقة) هكذا أسميتها منذ البداية، لمجمل أعماله الشعريّة التي حرص على أرسالها لي مع أختي مرام آن صدورها مباشرة، آب/ أغسطس 2002! وبأنّي قطعت فيها شوطًا لا بأس به، إلّا إنّي لم أنهها بعد! بعد هذا بأربع سنوات، في لقائنا الثاني، في معرض لندن الدولي للكتاب 2008، هو من سألني ما إذا أنهيت ما كنت أكتبه عنه؟ عندها لم أجد مفرًّا من الاعتراف بأنّي لم أفعل، لم أفعل لأنّي لم أحاول كفاية، هكذا كان تفسيره! ثم بعد ثماني سنوات أخرى، وفي إحدى مراسلاتنا، بداية انطلاقة موقع "ضفّة ثالثة" وتولّي أمجد إدارته، نهاية سنة 2016، فاجأني بطلبه إرسال ما كتبت عنه كيفما كان، لرغبته في الاطّلاع عليه؟ وكنت قد أهملت النصّ كلّيًّا، كما نصوص كثيرة أبدؤها ولا أنهيها، لسبب أو لآخر، إلّا أنّي أحتفظ به جانبًا في أحد ملفّات جهازي الكومبيوتر، وكنّا سابقًا، نحن جماعة الكتّاب، نقول: "في أحد أدراج مكتبي"! فأرسلته له، بشعور أنّي أفعل هذا لأثبت له أنّ ما أخبرته به لم يكن مجرّد ادّعاء! فإذ به يفاجئني مرّة ثانية بعرضه عليّ نشر النصّ كما هو، بإضافة مقدّمة توضيحيّة كما أفعل الآن، أو كحلقة أولى من مادة طويلة تنشر على دفعتين أو ثلاث، هذا إذا ما وعدته بأنّي سأنهيها حتمًا، لأنّه لم يجد أيّ سبب منطقي لعدم إنهائها! ورغم الاهتمام الزائد الذي أبداه أمجد بالنصّ ورغبته بنشره، إلّا أنّي رجوته، حينها، إمهالي بعض الوقت ريثما أعود وأحاول إنهاءه بطريقة أو بأخرى! ووعدته أن أوافيه به كاملًا... قريبًا. انتظرني أمجد لأفي بوعدي هذا ثلاث سنوات، أو قل خمس عشرة سنة، ولم أفعل:
[كنتُ قليلًا ما أفي بوعودي
وإذا وعدتُ
فصدقُ غرائزي
هو كلُّ ما أعِدُ بهِ]...

2- الخميس 31/10/2024، أي أوّل البارحة، مرّت الذكرى الخامسة لرحيل الشاعر يحيى النميري النعيمات المعروف في الساحة الأدبيّة باسم أمجد ناصر، وقراءتي هذه عن شعره ما زالت غير ناجزة، ولدي شعور بأنّي لن أستطيع انجازها أبدًا! نصّ لم أستطع إنجازه طوال كل تلك السنين، كيف لي إنجازه الآن؟ وها أنذا أدفع بها للنشر، متبنّيًا اقتراحه الأوّل بكتابة هذه المقدّمة التي راحت تبدو أقرب إلى التبريريّة منها إلى التوضيحيّة! آملًا أن يجد محبّو شعر أمجد وأصدقاؤه ما وجده يومًا فيها هو نفسه. كما أنّه يقتضي التنويه بنقطتين: الأولى، بأنّ ما يتضمّنه النصّ من معارف ومعلومات موقوف بتاريخ كتابته، أي من نهاية 2002 وحتّى لا أذكر متى بالتحديد. والثانية، وهي تحصيل حاصل، بأنّ النصّ يتوجّه أكثر ما يتوجّه للمهتمّين بالشعر والمتبعين له، كثرًا كانوا أو قلّة. أولئك الذين يوافقونني على أنّه يكفي اسم أمجد ناصر ليعرف من هو، أقصد، من دون حاجة لوضع صفة (شاعر) قبله. ويعلمون أيضًا أنّ العنوان الذي اخترته لهذا النصّ: (مديح لشاعر آخر)، ما هو سوى تحوير لعنوان مجموعة أمجد ناصر الأولى (مديح لمقهى آخر).
3- 25/8/2002: صدرت مؤخّرًا عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت - عمّان، الأعمال الشعريّة للشاعر الأردني أمجد ناصر، وهو يتضمّن المجموعات الستّ التي صدرت للشاعر، بدءًا من (مديح لمقهى آخر. دار ابن رشد. بيروت 1979) و(منذ جلعاد كان يصعد الجبل. اتّحاد الكتّاب الفلسطينيين. بيروت 1981) مرورًا بـمجموعة (رعاة العزلة. دار المنارات. عمّان 1986) و(وصول الغرباء. دار رياض الريس. لندن - بيروت 1990) وصولًا إلى (سُرَّ من رآكِ. دار جلجامش لندن 1994) ثم أخيرًا (مرتقى الأنفاس. دار النهار. بيروت 1997). وأظنّ أنّه لا محالة من موافقة عبّاس بيضون في ملاحظته: "ستّ مجموعات ليست رقمًا كبيرًا لحياة شعريّة بدأت باكرة وتواصلت دون انقطاع". ومن الزيادة عليها بأنّ المجموعات جميعها محدودة الصفحات، ما عدا ربّما (رعاة العزلة) التي أيضًا ليست بذلك الحجم، أمّا المجموعتان الأخيرتان (سُرّ من رآكِ) و(مرتقى الأنفاس) فهما في الواقع كراسان صغيران.




4- السؤال الأوّل: "ترى ما هو الدور الذي لعبه في تكريس اسم أمجد ناصر كشاعر له هذه المكانة كون المجموعتين الأولى والثانية، ثم الرابعة والسادسة، صادرة عن دور نشر لبنانيّة؟" يتبعه السؤال الثاني، الذي يمكن أن يكون بدوره جوابًا: "ترى ما هو الدور الذي لعبه عمل أمجد ناصر في الصحافة الأدبيّة، متبوّئًا تلك المناصب ذات الاعتبار، وتكريس جلّ وقته لها في صحّة ملاحظة عباس بيضون أعلاه؟". غير أنّ سؤالًا ثالثًا يفرض نفسه علينا وهو: "هل يحتاج الشعراء على أنواعهم أن يكون لكل واحد منهم كمّ كبير من الشعر؟ ألم يخلّد العرب أصحاب القصيدة الواحدة، اليتيمة كما لقّبوها؟ ألم تكف 154 قصيدة صغيرة، تجمع عادة في كتاب واحد، هو بدوره ليس كبير الحجم، لتكريس أسم قسطنطين كفافي كواحد من أشهر شعراء العالم!".
5- ورغم أنّ أمجد ناصر يعدّ، بدون أدنى محاباة، من أهمّ شعراء الجيل الثالث للحداثة الشعريّة العربيّة، إلّا أنّه كبقيّة أقرانه لا يعرف إلّا من قبل جمهور محدود. جمهور، إذا استحقّ هذه التسمية، مؤلّف من الشعراء أنفسهم على كثرتهم وتنوعّهم، ومتتبعي الشعر الجديد في مختلف أنحاء الوطن العربي، وهم جماعة في منتهى الغموض بالنسبة إلي. لهذا أجد أنّ جمع وطبع أعماله الشعريّة في مجلّد واحد، وهي لليوم، على حدّ علمي، أعماله كافّة ما عدا كتابين في أدب الرحلات، والسيرة الشخصيّة ـ يكاد يكون أمرًا ملفتًا للنظر. لأنّ لا سابقة له بين مجايليه من الشعراء الحداثيين، أعود وأستخدم ذات الصفة، وخاصة شعراء قصيدة النثر منهم، من هم أكبر سنًا منه بقليل أو أصغر بقليل، مثل عباس بيضون (صدرت لاحقًا)، بول شاوول، بسام حجار (صدرت لاحقًا)، وغسان زقطان، ونوري الجراح (صدرت لاحقًا)، بندر عبد الحميد، ما عدا نزيه أبو عفش (الذي تناهى لي مؤخّرًا بأنّه قد أصدر بدوره مجلّدين سميكين يتضمّنان أعماله الشعريّة)، وأغلبهم قد تعدّى الخمسين وربّما الستّين من العمر، وصار له من التجربة ما يقارب الأربعة عقود! وإذا قلت أوّل الغيث قطرة، فإنّ التجربة الشعريّة لأمجد ناصر تعتبر قطرة ثقيلة، أو ربما هطولًا غزيرًا لمطر حقيقي، إن لم يكن له القدرة على إرواء الصحراء ذات العطش الأبدي التي جاء منها صاحبه، فهو قادر على إلصاق أحاسيسنا بجلودنا، كثيابٍ مبللة! لذا فأنّي أجد لزامًا علينا، نحن أولئك الحفنة من البشر الذين ما زالوا يتبعون تعاليم هذا الدين القديم ويقومون بطقوسه، أن نقدم له أشد الاحتفاء الأمر الذي لم ألحظه رغم تتبعي لأغلب الدوريات والصفحات الأدبيّة العربيّة!



6- ليس ما سيأتي من كلام دراسة أو نقدًا لشعر أمجد ناصر، بل قراءة طليقة متحرّرة من كلّ قيد، آمل منها أن تترك أثرًا ما حيثما تمرّ أو تتوقّف أو تستظلّ بفيء شجرة لتأخذ قسطًا من الراحة، وليس كما يقول عباس في مقدمته: "الكتابة عن الشعر، في الغالب، مثل الشعر. تمحو آثارها وتتقدّم في الفراغ ولا تقوى على تذكر رحلتها... إذ سرعان ما تتحوّل إلى أضغاث أفكار وأحلام وذكريات". وأيضًا لن أبخل بخواطر واستطرادات قد تأتيني من خلال هذه القراءة الخاصة، عسى أن يكون بها القدر الكافي من الفائدة والمتعة اللتين لا ضمانة أستطيع تقديمها لكم، سوى أنّي سوف استلهمهما من قصائد أمجد ذاتها.
7- من المثير للانتباه أنّ كافّة قصائد مجموعة أمجد الأولى (مديح لمقهى آخر، 1979) كتبت في بيروت، مدينة مقاهي الأرصفة الشهيرة، ما عدا خمسًا منها كتبت في عمّان في الأردن. أمّا (منذ جلعاد كان يصعد الجبل، 1981) مجموعته الثانية، فبالرغم من انشغالها بأحداث وشخوص وأمكنة أردنيّة فقد كتبت كلّها في بيروت، ونستطيع أن نستدل من تواريخ القصائد أن الفترة التي قضاها في بيروت، 1979 – 1982، كانت من أغزر الفترات إنتاجًا في حياة الشاعر. ولكن، للأسف، لا توجد أيّ قصيدة موقّعة في دمشق! رغم أن أمجد كثيرًا ما زارها وجلس في مقاهيها وسهر مع شعرائها ومثقفيها في تلك الآونة!
8- (مديح لمقهى آخر) خليط من القصائد والأناشيد، ولكن يخيّل لي، وبعد أن قرأت عددًا لا بأس به من قصائد مجموعة (منذ جلعاد يصعد الجبل)، أنّ أمجد يذهب باتجاه غنائي أحادي، المجموعة بكاملها نشيد متتابع، حتّى القصائد النثريّة التي تتخلّلها اتّسمت باستخدام كثيف للصور والتشبيهات الرعويّة والجمل ذات النفس الطويل:
[الصبيةُ التي يجرى في شرايينها دمُ الخيولِ المطعونةِ في معاركِنا القديمة].
9- كما تنبهت إلى أنّ أمجد لسبب ما قد آثر (في الأعمال الشعريّة) حذف مقدمته لمجموعة (منذ  جلعاد يصعد الجبل) وأرى أنه من الجيد تثبيتها هنا:
       [وجوه، أيد، قرى، مداخن، قبائل، صقور، مضارب، مدن، أجداد، أشجار، قمصان، أحفاد، معادن، خيول، صحراء، أمّهات، أسفار، مقاه، تبغ، عربات أزهار، شهداء، أوطان أوطان أوطان، وغير ذلك وغير ذلك] نعم أوطان مكرّرة ثلاث مرّات!




10- لا أجد نفسي إلّا وأنا أكتب عنوان (منذ جلعاد يصعد الجبل) من دون (كان). أهو ميل لاختصار العنوان، لأنّها برأيي كلمة زائدة؟ أم حفاظًا على موسيقيّة الجملة التي أشعر بأنّ كلمة (كان) تفسدها؟
11- وكأنّ علاقة أمجد ناصر بالشاعر الفلسطيني غسان زقطان، في أحد وجوهها، شبيهة بعلاقة محمود درويش مع سميح القاسم! ففي قصيدة (السنجاب) ما قبل الأخيرة في مجموعة (منذ جلعاد يصعد الجبل) يخاطبه:
[ أيُّها الجارُ المتوَّجُ بهرطقةِ النحاس!
وغُبارِ الصداقة.]
فهمت "الجار"، وفهمت "المتوّج بغبار الصداقة". ولكن في الحقيقة لم أستطع فهم "هرطقة النحاس". (بما أنّه بات متعذرًا سؤال أمجد عمّا يعنيه بها، فإنّه يبقى لدينا غسان علّه ينيرنا).
12- (هجاء) القصيدة الأخيرة في مجموعة (منذ جلعاد يصعد الجبل) والوحيدة من بين قصائد المجموعة كافّة، تبدو بها واضحة، تأثيرات محمد ماغوط، التي كانت تصيب كلّ من كان يقرأ شعره تلك الأيام:
12-1: التشبيه بالكاف كأداة بلاغيّة أساسيّة:
[كصقرٍ محطَّمِ القلب
كعاصفةٍ بلا أسنان]
12-2: السخرية والتهكّم على الذات الفرديّة والجماعيّة:
[ولن أتوهَّمَ فتوحاتِ العرب
وبعدَ ذلكَ لن أعتقدَ أنَّ باريسَ مربطُ خيلِنا
...
وحينَ يمرُّ موكبُ ملوكِ بني حمر
لن أكلِّفَ حاجبي بالتحيّة]
12-3: التشرّد والصعلكة:
[سأظلُّ أذكرُ الجوعَ والفيافي
سأظلُّ أذكرُ الصعاليكَ والأيائل
وأنا متّكئٌ على حافَّةِ المدينة]
وكأنّ أمجد بعد قراءته للماغوط أراد تجربة أدواته الشعريّة. وقد تمّ له ذلك على نحو أو آخر، حيث أنّه كتب قصيدة ماغوطيّة مثاليّة.
13- أحبُّ أن أصف كتابة شاعر ما لقصيدة عابرة بأدوات شاعر آخر، بأنّها تحيّة.
14- (مديح لشاعر آخر) هو أيضًا عنوان قصيدتنا المشتركة (أمجد ناصر – منذر مصري)، المشكّلة من جمل ومقاطع من شعر أمجد قمت باختيارها وإعادة تركيبها لتغدو قصيدة جديدة، أسمح لنفسي بوضع اسمي بعد اسم صاحبها، وذلك لوجوب تحمّلي مسؤوليّة مستواها الفنّي بالكامل، وذلك على منوال قصائد عديدة كتبتها وجمعتها في ما يمكن أن يعدّ بدعة شعريّة غير مسبوقة بعنوان (منذر مصري وشركاه):
[إذا ارتحلت المقاهي
أين تلوذُ الأحزانُ والقصائد؟
...
ولكن
ما الضيرُ في ذلك؟
ما الضيرُ في أن لا تجدَ
الأحزانُ والقصائدُ ملاذًا
وتبقى طليقة؟
/
ما الضيرُ في صيفٍ
لا سبيلَ لإطفاءِ حرائقِه
وفي مدنٍ لا يصلُها
صفيرُ القطارات.
/
تركني وجهُكِ المستديرُ
وحيدًا
كبدرٍ في الماء
تحت سماءٍ تكسرُ الظهر
وفي شقاءٍ
ليسَ لأصحابِهِ بديل
قضى به الرجالُ واحدًا
واحدًا.
/
لم أكن واضحًا
حين فاجأني اختلاطُ كلُّ شيءٍ بكُلِّ شيء
كنتُ أقول:
"إذا طعنتموني
اطعنوني
بمديةٍ من ذهب".
/
ها أنذا
صالحٌ للعزاءِ في كلِّ وقت.]
15- وأخيرًا ما الضير في أن أتوقّف الآن عند هذا الحدّ، مجدّدًا أمامكم الوعد الذي وعدته يومًا لأمجد بأن أتابع قراءتي هذه عنه وأنهيها في أقرب وقت، لا أبعد من ذكرى رحيله القادمة!