Print
عبد الكريم قادري

ذكرى محمد بودية: المناضل الجزائري من أجل حريّة فلسطين

9 مارس 2024
استعادات
كان الثائر والمناضل الجزائري محمد بودية (1932 ـ 1973)، الذي مرّت الذكرى السنوية الخمسون لاستشهاده العام الماضي، هدفًا ثمينًا لجهاز "الموساد" الإسرائيلي. وذكرت بعض المصادر بأن أمر تصفيته جاء من أعلى الهرم القيادي، نظرًا للدور المحوري والنضالي الذي لعبه في خدمة القضية الفلسطينية، إضافة للعمليات الناجحة التي قام بها، أو كان له دور بارز في تنفيذها في أوروبا، انطلاقًا من منصبه كممثل لمنظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومناضل حر معتنق للقضايا العادلة. ومن بين الأدوار المحورية التي قام بها، استضافته لفريق الكوماندوس الفلسطيني الذي نفّذ عملية "ميونيخ" الشهيرة سنة 1972، مع توفير الدعم اللوجستي لهم، كما خطط لتفجير مركز "شونو" في النمسا، وهو فضاء خاص بتجميع يهود الاتحاد السوفياتي المهاجرين إلى فلسطين المحتلة، وفجر مخازن إسرائيلية، ومصفاة بترول في روتردام، وخط الأنابيب البترولية التي تربط بين إيطاليا والنمسا سنة 1972، وخطط لإرسال ثلاث ألمانيات شرقيات إلى القدس لتفجير أهداف عدة للاحتلال، ووقف خلف عملية اختطاف طائرة إسرائيلية في مطار اللّد (بن غوريون)، في الثامن من مايو/ أيار 1972، إضافة إلى عدد من العمليات الأخرى التي دوّخت كل أجهزة الاحتلال الإسرائيلي، الأمنية والسياسية.
بعد تلك العمليات الناجحة والنوعية، خاصة عملية أولمبياد ميونيخ، أطلقت غولدا مائير، رئيسة وزراء الاحتلال الإسرائيلي، عملية "غضب الرب"، التي تقضي بتصفية كل من شارك، أو وقف خلف عملية ميونيخ، ومن بينهم محمد بودية، الذي ذُكر في قائمة الاغتيال بتسمية "الرجل ذو الألف وجه"، ورغم الإمكانيات الكبيرة التي كان يملكها جهاز "الموساد"، غير أنه لم يستطع أن يصل إليه، وأسال لهم العرق البارد، خاصة وأن بودية كان يستعمل عددًا من الأسماء المستعارة. كما كان يختبئ في فرنسا خلف صفة المسرحي والمثقف المندمج في المشهد الفني الفرنسي، ولكن "الموساد" وصل إليه في نهاية الأمر، وما كان ليتم هذا إلا بتعاون خسيس ومفضوح ومباشر مع المخابرات الفرنسية، التي دلت على مكانه واسمه الحقيقي، ليتم تفخيخ سيارته من نوع "رينو 16"، لتنفجر به مباشرة بعد تدوير محركها في شارع "فوس برنار"، أمام المقر الجامعي في باريس، يوم 28 يونيو/ حزيران سنة 1973، ليتم تحويله إلى بلده الجزائر ودفنه فيها، بعد أن سمح بذلك الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي كانت تجمعه مع الراحل خصومات سياسية جعلته يعيش في المنفى.

المناضل الذي باع الجرائد ولمّع الأحذية
ولد محمد بودية يوم 24 فبراير/ شباط 1932 في الحي الشعبي المعروف بتسمية "سوسطارة" بأعالي القصبة. وهناك تلقى تعليمه الأولي، قبل أن يتم قطعه كمعظم الجزائريين في عهد الاستعمار الفرنسي، ليبدأ محمد بعدها مرحلة أخرى من حياته، وهي السعي وراء لقمة العيش وشظف الحياة، أي بدأ في بيع الجرائد، وتلميع الأحذية، في ساحة بورسعيد، إضافة إلى ممارسته عددًا من المهن البسيطة الأخرى. سمحت له تلك المهن التي كانت حكرًا على الجزائريين فقط، بأن يتعرف عن قرب على الفرنسيين الذي اغتصبوا أرضه وأرض أجداده، من خلال معاملتهم الفظة وعنصريتهم وغطرستهم الشديدة، حتى أنه دخل في إحدى المرات في مشادات مع أحدهم، بعد أن امتنع عن تقديم أجره. ولهذا تم إرساله إلى مركز إعادة التربية الخاص بالقصر، وهناك تعرف على ميوله الفنية. بعد خروجه من "الإصلاحية"، بدأ يقترب أكثر من العوالم المسرحية، سواء من خلال التكوين، أو الممارسة. كما انخرط في عدد من الفرق، وانطلق في حياته الجديدة، خاصة بعد التحاقه بالمركز الوطني للفنون الدرامية سنة 1954.
فتح المسرح عددًا من الأبواب أمام محمد بودية، وزرع فيه أجنحة مكّنته من السفر والتحليق في عدد من الفضاءات في أوروبا. هناك بدأ مرحلة أخرى في حياته، وبعد سنة من اندلاع الثورة الجزائرية (1954 ـ 1962)، أصبح عضوًا في منظمتها المدنية، وبدأ من خلالها فكر وتوجه بودية يتطور أكثر. وعندما اشتد الخناق على الثورة في الجزائر، فكر الثوار في تصديرها إلى الأراضي الفرنسية، من أجل فك الحصار عليها. ولهذا تم التواصل مع محمد بودية، ليكون مسؤولًا وعضوًا في "فيدرالية جبهة التحرير الوطني فرنسا".




وهناك نفذ عددًا من العمليات الناجحة على التراب الفرنسي، ليتم القبض عليه ورميه في غياهب السجن، لكنه استطاع الهرب منه والسفر إلى تونس، ليستأنف هناك نشاطه النضالي من جديد، خاصة وأن مركز تونس يعد من بين المراكز المهمة لجبهة التحرير الوطني، حيث تم تأسيس فريق جبهة التحرير لكرة القدم، إضافة إلى خلية السمعي البصري التي أنتجت عددًا من الأفلام المهمة المعرفة بالثورة، إضافة إلى فرقة جبهة التحرير المسرحية التي كان محمد بودية عضوًا مهمًا فيها، وقادها لتقديم عروضها الثورية في عدد من البلدان العربية، وقد كان من أعضائها عبد الحليم رايس، ومصطفى كاتب، وسيد علي كويرات، وغيرهم.

من العمل الثوري إلى النضال الثقافي بعد الاستقلال
بعد استقلال الجزائر، عاد محمد بودية ليستكمل نضاله الثقافي، لأنه كان يعرف جيدًا دور الفن والثقافة في بناء الجزائر الجديدة. ولهذا كان دائم الاتصال بالرئيس الراحل أحمد بن بلة، الذي كان مقربًا منه، لحثه على دعم وخلق المشاريع الثقافية، من بينها مساهمته في تأسيس المسرح الوطني الجزائري، ليصبح متصرفًا إداريًا فيه سنة 1963. ومن الصدف أن يصبح مسؤولًا عن المسرح الذي كان يبيع أمام ساحته الجرائد ويلمع الأحذية.
كما ساهم بشكل عملي في تأسيس المعهد العالي للفنون الدرامية ببرج الكيفان. وذكر ابنه مراد بودية، عندما حلّ ضيفًا على حصة "مساءات" التي يقدمها ويعدها الصحافي عبد العالي مزغيش على التلفزيون الجزائري، أن الرئيس الراحل بن بلة أخبره في أحد اللقاءات بأن والده محمد بودية ألح عليه عددًا من المرات بأن يفتح المعهد، وقد فعل ذلك استجابة لتلك النداءات المتكررة.

السيارة التي تمّ تفجيرها بمحمد بودية في باريس من طرف "الموساد"

كما جلب عددًا من الأسماء المهمة من الخارج لتأطير الطلبة وتدريسهم، ليصبح قلعة من قلاع الفن والمسرح في الجزائر، وأكثر من هذا جلب للمعهد حتى المناضل الكبير تشي غيفارا، ووضعه في تواصل مباشر مع الطلبة، كما أضاف مراد من خلال شهادته الثمينة التي قدمها عن كيفية انخراطه في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث قال بأن المجاهد والمناضل الجزائري بشير بومعزة هو من عرفه بالمناضل الفلسطيني وديع حداد (1927 ـ 1978)، وهو أحد مؤسسي المنظمة المذكورة.




لم يكتفِ محمد بودية بالمسرح ممارسة وكتابة، قبل الاستقلال وبعده، بل كان يكتب أيضًا القصص والشعر، إضافة إلى أنه أسس بعد الاستقلال جريدتي "الجزائر هذا المساء"، ومجلة "نوفمبر"، وهما منبران مهمان جمع فيهما عددًا من الأقلام الثقافية والأدبية المهمة في تلك الحقبة، من بينهم مالك حداد، وجون سيناك، ومولود معمري، وهي أسماء وازنة لها تاريخها الكبير.

تصحيح أم انقلاب... هجرة طوعية نحو المنفى
في سنة 1965، عرفت الجزائر الفتية حدثًا بارزًا، تمثل في انقلاب قائد الأركان وقتها هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة. يعرف هذا الانقلاب في أدبيات داعمي بومدين بتسمية التصحيح الثوري، لأن بن بلة، حسب منطلقهم، خرج عن مظلة الثورة الجزائرية وأهدافها. رفض محمد بودية هذا الوضع، وبدأت وقتها الأجهزة الأمنية في متابعة واعتقال المقربين، وما كان من بودية سوى مواصلة النضال من جديد، حين أسس مع مجموعة من الرموز منظمة حملت تسمية "منظمة المقاومة الشعبية"، مع المؤرخ محمد حربي، والمناضل والثوري حسين زهوان، وغيرهما، وقد تناهى إلى مسمعه بأنه صدر في حقه قرار باعتقاله، لهذا فر نحو تونس، ومن بعدها إلى فرنسا. هناك بدأ حياته النضالية بطريقة جديدة، بعد أن انخرط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

انخرط بودية في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

تجتمع في محمد بودية جميع سمات الرجل الرمز، مثله مثل تشي غيفارا، وغيره من الرموز الأخرى، خاصة أنه لم يكتفِ بدور المثقف المنظر الذي يناضل عن طريق الفن والقلم، ولا بدور المسؤول الذي يخطط ويأمر غيره بالتنفيذ، بل كان أكثر من هذا كله، كل مناضلًا ميدانيًا، ليجمع كل تلك الصفات كلها في شخص، وقد انعكست الخبرة الكبيرة التي اكتسبها في الثورة الجزائرية في خدمة القضية الفلسطينية في أوروبا. ولهذا عجزت كل أجهزة الاستخبارات الكبيرة في استشراف أي عملية من عملياته الكثيرة والنوعية، وأكثر من هذا كله لم تستطع أن تحدد مكانه. ولهذا أطلقت عليه غولدا مائير، رئيسة وزراء الاحتلال الإسرائيلي، صفة "الرجل بألف وجه"، لأنه كان يعرف كيف يناور ويختفي وينفذ ويخطط من دون أن يترك خلفه أثرًا يمكن تتبعه. فعل كل هذه الأشياء الثقافية والنضالية والثورية، وأسس لكل تلك المنطلقات، وعمره لم يتجاوز الـ41 عامًا عندما تم اغتياله بتلك الطريقة البشعة. والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو ما الذي كان سيقدمه بودية لو أمهله القدر سنوات إضافية، خاصة للقضية الفلسطينية التي تعيش وضعًا صعبًا في ظل دعم القوى العالمية للكيان الإسرائيلي في العديد من النواحي؟
كان بودية يعرف جيدًا كيف ستكون نهايته، وكان يعي بأنه ملاحق من عدد من الأجهزة الاستخباراتية. وقد طلبت منه الأجهزة الجزائرية بضرورة العودة إلى وطنه لتفادي تلك التهديدات، لكنه رفض، لأن العودة بالنسبة له هي تراجع عن المبادئ التي خرج من أجلها من الجزائر، كما أنه كان يعتقد بأن هامش الحرية لم يكن متوافرًا، ولذا فإن رجوعه بمثابة اختناق، أو موت بطيء، فقرر البقاء ليموت ميتة الأبطال، وهذا ما حدث معه بالضبط، إذ استشهد وهو يناضل من أجل حرية فلسطين.