Print
مها عبد الله

وإن للقراءة تاريخًا عريقًا

10 مايو 2024
استعادات
"تاريخ القراءة" كتاب عبقري كتبه كاتب "موسوعي" في أدق تعبير... و "متيّم" على أقصى سكرات العشق!
يصطحب هذا المغرم قارئه في رحلة سحرية عبر التاريخ... لا بين الحدود، ولا في معترك الحروب، بل في مدينة عجائب، جدرانها وأبوابها وماؤها ونارها وأرضها وسماؤها وإنسها وجنّها مسبوكون من حبر وورق! يبدو وكأنه يحكي أسطورة تحكي عن فرسان يتجولون بين جبال من كتب، بعضها يُحشر في الجيب لصغره، وبعضها مجلدات يُحمل فوق ظهور الجمال، بعضها من البردي، وآخر من الجلود، بعضها حي حاضر، وبعضها الآخر أثري يقرأ طلاسم عصور ما قبل التاريخ .... وفيها جميعًا يجد القارئ طيفًا من روحه.
هنا تُستحضر العواطف والمشاعر والأحاسيس المدفونة عن قراءات سابقة، مع كل قراءة لكتاب جديد، كأرق شكل للخيانة الزوجية... هنا نظرة ريبة للقارئ المنطوي على نفسه حين يتملّكه سلطان الكتاب، وينعزل ضمن من انعزل من القرّاء... هنا يصبح أولئك المعتزلة مخربين، حين تطالبهم الحكومات الشمولية بالتوقف عن التفكير... هنا يبدو الفرق شاسعًا بين الاستماع إلى قراءة الآخرين كتجربة شخصية يرتضيها المرء، وبين تجربة تلقّف الكتاب ومباشرة القراءة منه في التو... هنا تفصح الكتب عن نفسها من خلال عناوينها وحجمها كذلك، بين الألواح الصلصالية في بلاد الرافدين القديمة، وبين كتب اليوم المحزمة في مجلد واحد... هنا القراءة عن طريق الاستلقاء في الفراش، أو التكوّر على المقعد، أو في العلية، أو في المطبخ، أو على مرج، أو على مقعد في مكتبة عامة، والتي لا تصاحبها أية لذة... هنا القراءة عملية دائرية لا متناهية بين النص والقارئ، فليست هي عملية عقلانية تتناول المعاني والحقائق وحسب، بل هي تلاحمية حين يمتزج القارئ بما يقرأ، ويتشكل به مع مرور الوقت... هنا تعبّر الهوامش التي يخطّها القارئ بقلمه أثناء قراءته، كقارئ من نوع ما، أو قد تستزيد للنص المقروء في مادته الفكرية والأدبية... هنا الحواس تشترك في عملية القراءة، فالعين ترى الخط، والأنف يشم الورق، والأنامل تلمس الصفحات، حتى حاسة الذوق تتذوق النص... هنا يلتقط القارئ النص ليعيد صياغته خالقًا معنى مختلفًا، وباعثًا فكرًا جديدًا... هنا قد تقيم الكتب علاقة روحية مع القارئ، أو قد تدلل على ثراء عقلية، أو على مكانة اجتماعية مرموقة... هنا المهرجانات الأدبية التي يساهم فيها الكتّاب والقراء معًا في الحفاظ على التراث الأدبي، وعلى وفرة الإنتاج، وزيادة عدد القرّاء... هنا تصبح القراءة لغرض الترجمة من أشد أشكال الفهم كثافة في توارد الأسئلة والأجوبة والتقاط أبعاد النص... هنا تواجه المقدّرات الكامنة للقراءة تسلّط القراء السلطويين، وتعصّب القراء المتطرفين، وضيق أفق القراء الرواقيين... هنا تتلبس النظارة هيئتين، هيئة رفيعة المنزلة لقارئ نهم، وهيئة سوء استخدام في ممارسة التكبّر الثقافي... هنا يُشتبه بالقارئ المستعير للكتب في ارتباطه بعلاقة غير شرعية مع شيء لا يمتلكه... هنا مسألة جوهرية عمّا إذا كانت الأحرف تلتقطها العين، أم إنها تتغلغل في حواس القراء، وهي مسألة يحللها عالم البصريات الحسن بن الهيثم... هنا مفاضلة بين القراءة بصمت كما ابتدعها القديس أمبروسيوس، وضمّنها القديس أوغسطينس في كتابه الاعترافات، وبين القراءة الجهرية كما كان يفعل مثقفو أثينا القديمة... هنا الكتب عند سقراط ليست سوى أداة لتذكير المرء بما يعرفه بالفعل، فإنما هو فقط من يضفي عليها الحياة... هنا ينبّه كراتو هوفمان تلاميذ المدرسة اللاتينية إلى أهمية القراءة في تشكيل القلب، لا في الدرس والتحليل ودقة النحو وحسب... هنا يشير دانتي إلى المعاني الثلاثة التي تُستشف من النص، الحرفي والمجازي والباطني... هنا يصرّ القديس نيلوس على تصوير الكتاب المقدس في لوحات تزيّن جدران الكنيسة، وتعين المؤمنين الذين لا يحسنون القراءة على قراءة المشاهد الدينية كما لو كانوا يقرأون من الكتاب المقدس بالضبط... هنا تبدو الإسكندرية مدينة عاشقة للقراءة حين كان يحكمها المقدوني، ويتولى تعاليمها أرسطو... هنا سيدات البلاط الياباني الأرستقراطيات اللاتي تظاهرن بتجاهل المعرفة في حين جاءت أهم أعمال تلك الفترة الأدبية من إبداعاتهن... هنا بابل القديمة، بابل ملحمة جلجامش، وبابل حمورابي، وبابل نبوخذنصر، وبابل آشور، وبابل الإسكندر الأكبر، وبابل يوحنا اللاهوتي في سفر الرؤيا.
أما عن الكاتب، فليس سوى ألبرتو مانغويل (1948م)، الأرجنتيني الأصل، الكندي الجنسية، الذي اشتهر كمترجم وروائي وكاتب مقالات أيضًا، وذاع صيته في العشرين عامًا الماضية من خلال إصداراته الإبداعية الثرية. تعرض سيرته الذاتية من ناحية أخرى معاصرته لزمن المناضلين تشي غيفارا، ونيلسون مانديلا، وفيدل كاسترو، كما أن الحظ قد حالفه بأن يتتلمذ على يد مواطنه الأديب لويس بورخيس، الذي تم تصنيفه كأحد أبرز أدباء القرن العشرين. يُعرف مانغويل كذلك بموسوعية الثقافة، وغزارة الأفكار، وبقدرته على خلق كل ما هو إبداعي، من خلال رؤى فلسفية مختلفة يقتفي بها أصل النص، وما ورائيات المعنى وانعكاساته الضمنية على الواقع، الأمر الذي قد ينغلق على محدودي الثقافة.
وعن مراجعة الكتاب الملحمي الذي انقسم إلى (فعل القراءة) و(سلطان القراءة)، فتعتمد على الطبعة الخامسة الصادرة عام 2016 عن (دار الساقي)، والذي جاء عن ترجمة متقنة من لغته الأصلية (a History of Reading - By: Alberto Manguel) عني بها المترجم سامي شمعون، وقد أهداها إلى روح زوجته (أم مريم)، أو كما أسماها بـ (القارئة العظيمة):
ينتهي الكاتب في (قراءة الظلال) بأن تفسير عملية القراءة لا تتم وفق نماذج آلية، فهي وإن كانت عملية تحتل أجزاء معينة في الدماغ البشري، فإن هنالك أمورًا عديدة تشترك في صياغتها!


وترتبط عملية القراءة كما عملية التفكير، بمدى القدرة على قراءة اللغة وإدراكها واستخدامها، اللغة التي تتركب من كلمات، وتشكّل نصوصًا، وتصوغ فكرًا، غير أن الخوف الذي يعتري الباحثين في كينونة اللغة، والتي بها يعبّرون عن علومهم ومعارفهم، يضع اللغة في حد ذاتها موضع تساؤل، من حيث كونها لا تعتمد على الناطقين بها قدر اعتمادها على مفسريها، والتي تتمثل من خلالها مهمة القارئ في تفسير "ما قد تفصح عنه الكتابة من تلميحات وظلال"، حسب رأي ابن الهيثم. وفي العصور الوسطى المتأخرة، وكما جاء في (القراءة بصمت)، كانت عملية القراءة تمارس بصوت مسموع، حيث افترض الكتّاب تفضيل القراء الاستماع إلى نصوصهم بدل مشاهدتها، وقد شهدت تلك العصور لهذا السبب انتشار ظاهرة القراءة العامة، إضافة إلى قلة عدد القادرين على القراءة عمومًا آنذاك، غير أنه بمرور الزمن أصبح التوجه العام نحو القراءة بصمت، لا سيما كقاعدة من قواعد العمل في دواوين النسّاخ. أما عن المتدينين، فقد راقبوا بحذر التوجه الجديد، تحت شبهة إثارة القراءة بصمت لأحلام اليقظة التي تنزلق بالقارئ نحو الشهوات الحسية، ذلك "الوباء الذي يعبث في وقت الظهيرة"، كما أن آباء الكنيسة ــ في نظرهم ــ لم ينتبهوا لخطر يترافق مع القراءة الصامتة، يتيح للقارئ فرصة الاختلاء بالكتاب بعيدًا عن شهود العيان، ومن ثم تفحّص الكلمات والتفكّر في معانيها، ومحاولة فكّ أسرارها، من دون فرصة التدخل الفوري من مستمع آخر بغية الاستيضاح، أو المعارضة! تلك الخلوة التي من شأنها أن توّلد حسب رأي القديس أوغسطينوس "إنعاشًا فريدًا للعقل". أما القراءة عند ريتشارد دو فورنيفال، سادن كاتدرائية آميان في القرن الثالث عشر الميلادي، فهي "تغني الحاضر وتنعش الماضي، حيث تقوم الذاكرة بحفظ هذه الأمور للمستقبل"، فقد كان يعتقد بأن من يحفظ الذكريات هو الكتاب لا القارئ! غير أن بعض تلاميذه كانوا يتوقفون عند كل مخطوطة وهم يلاحظون بداية المقطع المكتوب وتسلسل كلماته وتتابع جمله، بغية حفظه عن ظهر قلب. وفي (كتاب الذاكرة) يظهر أولئك التلاميذ معتمدين على المكتبات القابعة في أدمغتهم لاسترجاع النصوص ومواضعها ومصادرها، وذلك بفضل تمارين تقوية الذاكرة التي تدربوا عليها في مطلع أعمارهم. وفي حين يعتقد الكاتب أنهم كانوا أسرع في استدعاء المعلومات من أدمغتهم منه في بحثه عنها في حاسوبه "فإنهم كانوا يظنون أن حفظ النصوص عن ظهر قلب يساعد على الراحة البدنية". وحسب رأي طبيب القرن الثاني الروماني آنتيلوس، فإن "من لا يحفظ الأشعار عن ظهر قلب، وإنما يرجع إلى الكتب، لا يستطيع التخلص من العصارات السامة الموجودة في جسمه إلا بمجهود كبير وبواسطة تعرّق فوق العادة، في حين أن الناس المتمرنين على التخزين في الذاكرة، يطردون هذه العصارات السامة عبر الزفير". وعن (تعلم القراءة)، وفي حين تظهر قدرات ما مدهشة، كالقراءة بصمت، أو بجهر، وبتخزين كنوز المفردات اللغوية دماغيًا، فإنه يتوجّب على كل قارئ اكتساب الأدوات البسيطة التي يتواصل بها البشر... بعبارة أخرى: يجب عليه تعلّم القراءة. وبينما يحرص التلاميذ في مناهج التعليم السكولاستية على تطوير ملكاتهم الفردية في الفهم، يصبح تمكينهم من إعادة التعليق على شروح العلماء السابقين وتعليقاتهم الأرثوذكسية، أفضل. يقول الكاتب: "وصف أستاذ الخطابة لورنسو غويديتي من القرن الخامس عشر مهمته التعليمية كما يلي: ’عندما يقدم معلّم حصيف على شرح مقطع ما، فإنه يهدف إلى تربية تلاميذه على طلاقة اللسان والفصاحة، وعلى تبدل حياتي مملوء بالفضائل. أما عند ظهور جملة غريبة ليس من شأنها خدمة أي من هذين الغرضين، حينئذ يُترك المجال للتلاميذ لشرحها وتأويلها. وعندما لا يكون التفسير واضحًا تمامًا، فإنني لا أؤنّب التلميذ الذي فشل في مسعاه. أما من يصرّ على الدخول في أمور جانبية التي يعني تفسيرها هدرًا للوقت ومضيعة له، فإني أسميه متحذلقًا’". وبينما يبدأ الكاتب (الصفحة الأولى المفقودة) بـ(سقراط)، يختتمها بـ (كافكا)! سقراط، أول فلاسفة الإغريق الذي لم يكن مقتنعًا بقدرة القراءة على إيقاظ ما في داخل القارئ إلا بما يعرفه مسبقًا، وبيقينه أن الحكمة المرجوة لا تتأتى من مجرد أحرف متراصة ميتة وصمّاء... والروائي فرانز كافكا، الذي أورد في رسالته الموجهة عام 1904 لصديقه أوسكار بولاك، ظنه في الكتب، قائلًا "على المرء ألا يقرأ إلا تلك الكتب التي تعضه وتخزه. إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا فلماذا نقرأ الكتاب إذًا؟ كي يجعلنا سعداء كما كتبت؟ يا إلهي كنا سنصبح سعداء حتى لو لم تكن عندنا كتب، والكتب التي تجعلنا سعداء يمكن عند الحاجة أن نكتبها. إننا نحتاج إلى الكتب التي تنزل علينا كالبليّة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طُردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس، مثل الانتحار. على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشّم البحر المتجمّد في داخلنا. هذا ما أظنه"..... إن الكتاب أسطوري بحق في ذخائر القراءة!
ختامًا، وبينما تثني صحيفة "نيويورك تايمز" على الكتاب وكاتبه، حيث "تبنى ألبرتو مانغويل تعطشنا إلى الكتب، وحوّل هذا الموضوع بنجاح باهر إلى كتاب رائع"، ينتقل ألبرتو مانغويل والطموح يملأ قلبه من حكايته كقارئ إلى تاريخ القراءة، وكما يعتقد بأن "التاريخ الحقيقي للقراءة هو في الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة".
وفي كلمة أخيرة: هو كتاب ــ وإن أخذ طابع السيرة الذاتية ــ فكاتبه مؤرخ مخضرم، أرّخ للكتب كتراث ثقافي باقٍ ما بقيت الحضارة الإنسانية، ضمن أحداث محفوظة في ذاكرة الماضي، وما استجد منها حتى الوقت الحاضر... غير أن كتاب (تاريخ القراءة) هو في حد ذاته (تاريخ)... وهو يستحق القراءة وإعادة القراءة.