Print
صقر أبو فخر

جاد تابت وتاريخ لبنان الاجتماعي

26 مايو 2024
استعادات
كان بعضهم يُعرّف التاريخ بأنه "علم البحث في الماضي". لكن مارك بلوخ، مؤسس مجلة "الحوليات" الفرنسية، صاغ تعريفًا آخر هو: "علم البشر في الزمان". وهذا التعريف يتضمن العقائد والتطلعات السياسية والاحتفالات والطقوس الدينية المرافقة لها، وحتى التأملات والأحلام والمشاعر. وكان التاريخ القديم عبارة عن تراجم/ Memoirs، للقادة والملوك والأمراء وللأشخاص المهمّين، وسردًا للحوادث من دون النظر في صحتها؛ وهذا هو التدوين بعينه، وليس التأريخ في ذاته. والمؤرخ المعاصر اليوم بات يستند، علاوة على المصادر والوثائق، إلى التاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي والتاريخ الثقافي والفني، فضلًا عن حكايات المهمشين والهجرات، وحركات السكان، ومكتشفات الأنثروبولوجيا والأركيولوجيا، وفوق ذلك الدراسات العمرانية/urban studies، كالمكان، والعمارة، وتصميم المنازل، ووسائل الترفيه. وفي هذا الميدان، أصدر المعمار جاد تابت كتابًا مهمًا وممتعًا وَسَمَهُ بعنوان "لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2023، 335 صفحة). احتوى الكتاب 127 صورة لأَعلام وأشخاص وأمكنة، ومعامل الحرير، وسكك الحديد، وغير ذلك من المشاهد التي تساهم بصريًا في رصد تطور لبنان العمراني. وتصدرت الغلاف لوحة للفنان الفرنسي جورج سير، الذي أقام شوطًا من حياته في لبنان، وكان له تأثير في النهضة التشكيلية اللبنانية.
ينتمي هذا الكتاب إلى التاريخ الشامل فعلًا؛ فهو ليس سيرة للمعمار المشهور أنطون تابت (والد المؤلف)، وليس تأريخًا للتحولات الكبرى التي عصفت بجبل لبنان منذ انهيار حرفة شيل الحرير، وليس سردًا للوقائع المتراكمة التي جعلت بيروت مدينة مزدهرة بعدما كانت مدينة متداعية ومتخلفة قبيل سنة 1835، وإنما هو ذلك كله معًا. ولهذا صاغ المؤلف عنوانًا فرعيًا لكتابه هو "رحلات في الثقافة والهندسة والسياسة مع أنطون تابت ورفاقه". وهذا الكتاب الممتع يتضمن رحلات استقصائية وعلمية إلى عوالم جبل لبنان في زمن كرخانات الحرير، ونمو تلك الحرفة، والرساميل الأجنبية التي وُظّفت في هذا الميدان، وكذلك ما شهده جبل لبنان في الانتقال من بناء البيوت القديمة إلى العمارة الحديثة. ويمعن المؤلف في استكشاف أحوال لبنان إبان الحرب العالمية الأولى حتى إعلان "استقلال" هذا البلد وفصله عن سورية، وما أعقب ذلك من حوادث سياسية شديدة التقلب.

سيرة الناس

أنطون تابت، الشخصية المحورية في هذا الكتاب، هو مصمم فندق السان جورج في بيروت، وفندق قصر الشرق في دمشق orient palace، والليسيه الفرنسية للبنات (صار اسمها ليسيه عبد القادر نسبة إلى عبد القادر الجزائري)، ومدرسة الحكمة في محلة الأشرفية في بيروت أيضًا، وغير ذلك من المعالم العمرانية المرموقة. ويُسهب جاد تابت (المولود في 12/ 12/ 1944) في الكلام على بدايات والده أنطون تابت، وعلى أصدقائه الأوائل، أمثال أنطوان موراني (الذي كان يعمل في سكة حديد دمشق ــ حماة)، ونعمة إدة (المقيم في دمشق)، والشاعر جورج شحادة (الذي كان مساعدًا لغبريال بونور، مستشار المفوض السامي الفرنسي لشؤون التعليم في سورية ولبنان)، ويروي قصصًا عن هؤلاء الأربعة، وعن ولعهم بالشعر والمسرح، وتطلعاتهم الإبداعية، وخيباتهم وطرائفهم، وتفرقهم هنا وهناك بين دمشق وبيروت وباريس. وفي غضون تلك الرواية نعثر على قصة والده المعمار ورفاقه، وتحول أنطون تابت لاحقًا إلى الشيوعية. وفي الكتاب لمحات مهمة عن السريالية في موطنها الأوروبي، وعن تحول بعض شعرائها إلى الماركسية، أمثال أندريه بروتون، ولويس أراغون، وبول إيلوار، وبنجامين بيري، وعن الخلاف الذي دبّ بينهم وأدى إلى تنافر الذين ظلوا على ولائهم لشيوعية الاتحاد السوفياتي (أراغون وإيلوار)، والذين رفضوا النهج الستاليني وناصروا ليون تروتسكي (بروتون وبيري).
تعج صفحات هذا الكتاب بتحليلات ووقائع ومعلومات عن التاريخ الاجتماعي والثقافي للمنطقة التي عُرفت ابتداء من عام 1920 باسم "لبنان"، وتتضمن بحوثًا شائقة في الآثار والعمارة والهوية والحداثة وغيرها؛ ولعل هذه العناصر الأربعة، فضلًا عن الماركسية والوجودية، هي التي قادت خطوات أنطون تابت نحو ضرب من الالتزام السياسي، والانخراط في جهد جماعي في سبيل السلم العالمي، ومقاومة انحياز لبنان إلى المعسكر الغربي في زمن الحرب الباردة، والدعوة إلى اتباع سياسة عدم الانحياز.




وهنالك تفصيلات جديدة ومهمة عن الحياة الثقافية في بيروت تحت الانتداب، ولا سيما تأثير جورج سير (أحد مؤسسي مدرسة بيروت للفنون التشكيلية)، وغبرييل بونور (أبو النور)، وروز ماري أولييه، التي كانت لها علاقة غرامية بأنطون تابت في إحدى المراحل. ولما انتقلت إلى أستراليا في سنة 1947 اتُهمت بنقل معلومات إلى الاستخبارات الفرنسية، وأُقيلت من منصبها (ص 261). 

لبنان والحرير وعبودية النساء

قدّم لهذا الكتاب الكاتب والروائي المرموق إلياس خوري، الذي تساءل عن السر الذي ساعد أنطون تابت، ابن قرية بحمدون الجبلية، في الإفلات من كرخانات الحرير، وأن يضع لنفسه ولأبناء جيله حلمًا بالتغيير (ص 11). والكرخانات التي اكتسبت معنى يشير إلى البغاء، أحيانًا، هي في الأساس مكان العمل فحسب (كار كلمة تركية تعني المهنة، وخانة تعني المكان، على غرار شايخانة، أي مكان شرب الشاي). أما كرخانات سورية وجبل لبنان فهي المكان الذي كانت النساء يحتكرن فيه عملية شيل الحرير، بينما كان الرجال هم الذين ينقلون شرانق القز من المنازل إلى الكرخانات. وهناك، في ذلك المكان، كانت تنمو علائق غرامية متعددة الوجوه بين الشبان والشابات. ولهذا اكتسبت الكرخانات سمعة سيئة بالمعايير الأخلاقية السائدة في ذلك الزمان. وكان أن غمرت هذه التسمية أماكن بيع اللذة في المدن إبان العهد العثماني، وصارت الكرخانة تعني المبغى.

أنطون تابت: الشخصية المحورية في هذا الكتاب

سيغيّر شق طريق الشام (الكروّسة) في سنة 1862 الحياة برمتها في بلدة بحمدون والمناطق المحيطة بها. وهذه الطريق التي ربطت بيروت بدمشق نقلت الاقتصاد المحلي (زراعة الحبوب كالقمح والشعير والعدس والحمص) إلى زراعة أشجار التوت لاستخدام أوراقها في تربية دود القز، وأدت إلى إنشاء معامل صغيرة لحلّ الشرانق في "الخلقينة" (الخنق)، وغزل خيوط الحرير على الدولاب، ثم تصديرها إلى معامل مدينة ليون الفرنسية (ص24 و25). وكان التحول في الاقتصاد المحلي في جبل لبنان قد بدأ في أوائل القرن التاسع عشر. وقد أُسس أول معمل لحل الشرانق في سنة 1810 في قرية "القريّة" بين بحمدون وحمانا، ثم ظهر معمل ثانٍ في قرية بتاتر في سنة 1841 (ص 26). وحتى اليوم لا تزال هناك بحمدون الضيعة (أي القرية الأصلية)، وبحمدون المحطة، أي القرية التي نشأت حول محطة الاستراحة للذاهبين إلى دمشق والعائدين منها. والمعروف أن تكوين لبنان ورسم ملامحه الأولى بدأ حول منطقة مسيحية ــ درزية ذات غلبة مارونية (دُعيت متصرفية جبل لبنان)، وقد ضُمت إليها، لاحقًا، مناطق تابعة لولاية دمشق في الشمال والشرق والجنوب. وهكذا اكتسب هذا الكيان الجديد ملامحه المعروفة. وقد كان للحرير شأن مهم جدًا في تكوين لبنان بحدوده الحالية، إذ إن المعامل أُسست في مناطق المسيحيين بالقرب من الأديرة والكنائس ومقار الإرساليات الفرنسية. أما خارج متصرفية جبل لبنان فقد أُنشئت المعامل، في عكار مثلًا، في قريتين مارونيتين هما عندقت والقبيات، وفي سورية في منطقة وادي النصارى، وبالتحديد في قرى صافيتا، ومشتى الحلو، والكفرون. وحتى عام 1913، امتلك المسيحيون 171 معملًا من مجموع 195 معملًا في لبنان وسورية (امتلك الدروز 10 معامل، والمسلمون 5 معامل). وكان عدد العمال في مهنة الحرير 14 ألفًا (13 ألف مسيحي، وألفًا من الدروز)، منهم 12 ألف امرأة (أنظر: فادية علي إسماعيل، وطن من حرير، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023). واستطرادًا، يمكن القول إن اختيار شجرة الأرز شعارًا للدولة اللبنانية الحديثة لم يكن ملائمًا البتة من وجهة نظر تاريخية، بل إن ورقة التوت ربما كانت الأجدى بهذا الامتياز، كما كان يردد النائب جورج زوين: "كان أولى بشجرة التوت، لا الأرز، أن تزيّن العلم اللبناني" (أنظر: ميشال ليّون، الحرير في لبنان مرفق إنمائي، مجلة مرايا التراث، العدد 8، تشرين الأول/ اكتوبر 2015، ص 147، نقلًا عن "وطن من حرير"، مرجع سبق ذكره).
كان العمل في الكرخانات يقوم على زنود نساء الفلاحين الفقراء وأولادهم، وكانت شروط العمل قاسية جدًا ومهينة. وفي رسالة من شارل غيران (مدير شركة الأرملة غيران) إلى إدارة الشركة في مدينة ليون مؤرخة في سنة 1907 ورد ما يلي: "لقد قمتُ بجلد الجميع بالسوط طوال أسبوع كامل، إلى أن أتى رؤساء الأديرة يترجوني أن أتوقف عن الضرب احترامًا لذكرى مئات الآلاف من الموارنة الذين قُتلوا دفاعًا عن الفرنسيين خلال الحروب الصليبية. لكنني اعتذرت عن عدم الاستجابة لمطالبهم، وتابعتُ الضرب العنيف أمام أعينهم حتى بُريَ السوط الجلدي" (ص 34). ويذكر فواز طرابلسي أن الأخوين بورتاليس (صاحبي معمل الحرير في قرية بتاتر) استقدما من فرنسا في سنة 1841 رئيسة راهبات العازرية في مدينة ليون، الأم جيلاس، كي تؤسس ميتمًا يزوّد المعمل بفتيات يتامى يعملن مجانًا (راجع: فواز طرابلسي، حرير وحديد: من جبل لبنان إلى قناة السويس، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2013). وحتى اليوم ما زال اسم الأم جيلاس يُطلق على أحد شوارع العاصمة. ولعل أخبار تلك المشاهد المأسوية والأحوال التي عاشت فيها العاملات شكلت بداية التزام أنطون تابت السياسي، ورفضه استغلال الإنسان للإنسان (ص 35).




والمعروف أن 55% من سكان جبل لبنان، مع إعلان المتصرفية في سنة 1861، كانوا يعملون في إنتاج خيوط الحرير، وهؤلاء أنتجوا 40% من الدخل العام، فيما كانت أشجار التوت تغطي 40% من الأراضي الزراعية (ص 25). وقد أصيب إنتاج خيوط الحرير بضربة قاسية في الحرب العالمية الأولى جراء أوامر جمال باشا بقطع أشجار التوت لاستخدامها وقودًا في القطارات العسكرية. وتسببت المجاعة في انهيار تلك الحرفة لأن البريطانيين والفرنسيين ضربوا الحصار على شواطئ متصرفية جبل لبنان في أثناء الحرب لمنع وصول الإمدادات إلى الجيش العثماني. وأصبح جبل لبنان، والحال هذه، غير قادر على تصدير منتوجه الأساس، أي الحرير، إلى معامل ليون في فرنسا، وغير قادر على استيراد السلع الضرورية من أوروبا وغيرها، فعمّت المجاعة في أرجائه، وهاجرت آلاف الأُسر إلى حوران اتقاء للموت. وقد حمّلت الروايات "التاريخية" الفاسدة الدولة العثمانية المسؤولية عن تلك المجاعة، بينما كانت بريطانيا وفرنسا هما الدولتان المسؤولتان عنها بالدرجة الأولى، مع أن الدولة العثمانية تتحمل بدورها جانبًا من أسباب المجاعة. وفي أي حال، فقد تهاوى إنتاج خيوط الحرير برمته في أوائل ثلاثينيات القرن المنصرم جرّاء منافسة الحرير الصيني والياباني الأرخص، وجراء شيوع الحرير الصناعي المستخرج من لب الخشب، وبسبب الكساد العالمي الذي أصاب أوروبا بين 1929 و1933، وبسبب انخفاض أسعار الحرير، الأمر الذي أدى إلى إفلاس معظم شركات إنتاج خيوط الحرير في لبنان.

شيوعيون متفرقون 

يستعيد جاد تابت في كتابه "لبنان البدايات" بعض أوجه الخلافات التي دبّت في أوساط الشيوعيين السوريين واللبنانيين غداة الموقف السوفياتي المؤيد لقرار تقسيم فلسطين في سنة 1947 (قصة رئيف خوري)، ثم التحول الكبير الذي نشأ بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في سنة 1956 (انقلاب خروشوف على ستالين). وفي هذا السياق، يتفقد المؤلف أسماء شيوعية بارزة من طراز خالد بكداش، ورئيف خوري، وعمر فاخوري، وإميلي فارس إبراهيم، وقدري قلعجي، وجورج حنا، وحسين مروة، ومحمد دكروب، وإميل توما، وفرج الله الحلو (بما في ذلك رسالته المشهورة إلى قيادة الحزب الشيوعي الموسومة بعنوان "رسالة الرفيق سالم")، ويروي مقادير من حيرة والده أنطون تابت أمام تلك التقلبات والانقلابات الفكرية والسياسية. ولا ينسى، في خضم المعلومات الغزيرة التي يسردها المؤلف، الكلام على المؤتمر الأول للكتاب العرب في دمشق (أيلول/ سبتمبر 1955) الذي انبثقت منه أول رابطة للكتاب العرب، والتي صار اسمها في ما بعد "اتحاد الكتاب العرب"، فضلًا عن المناظرة المشهورة بين طه حسين، ورئيف خوري، التي جرت في قصر اليونسكو في بيروت بمبادرة من الأديب سهيل إدريس في أيار/ مايو 1955.
ولا أجازف في الاستنتاج إذا قلت إن هذا الكتاب هو تاريخ حقيقي لمكان يدعى جبل لبنان، ولمدينة اسمها بيروت، وللحياة العمرانية والثقافية وحتى السياسية، لفضاء بشري كان يحبو نحو الازدهار والنهوض قبل نحو مئة سنة، ثم هوى وتهاوى، ويكاد اليوم يندثر مثلما اندثرت ديدان القز، والكرخانات، ومخانق الشرانق، وخيوط الحرير.