Print
جورج كعدي

سيمونّ ڨيل: رفضت يهوديّتها وقسوة إله العبرانيين

28 مايو 2024
استعادات


يهوديّةَ الأب والأم، خرجت سيمونّ ڨيل Simone Weïl (1943 -1909) شابةً على انتمائها المكتسب بالولادة لتعتنق "دين الإنسانية" الأشمل. جريئة، صريحة، مستفزّة، لم تَهَبْ ولم تتردّد في الجهر بأيٍّ من أفكارها في الدين والسياسة، فاستجرّت لنفسها تهم بني قومها الجاهزة مذّاك، من "معاداة السامية" إلى "كره الذات" وما بينهما، فقط لأنّها إنسانة مفرطة الإنسانية، مرهفة وعقلانية، تميل إلى التصوّف من دون كثير إيمان، وفق المعنى الذي خلقته لنفسها وحيّر الدارسين باختلافه وتناقضه، فهي القائلة: "في التناقض توجد الحقيقة".

كيف لا تكون ڨيل مستفزّة ليهود زمنها (غير البعيد كثيرًا في أيّ حال) وقد رأت أن يهوه، إله اليهود، وهتلر هما إلهان بالمعنى ذاته وعلى المستوى نفسه، متّهمة هتلر بأنه خاض على الدوام معركة "إسرائيل" التوراتية سعيًا إلى إحياء إلهها "الأرضيّ القاسي والحصريّ"، في تعبيرها، إنّما تحت تسمية أخرى ولمصلحته الخاصة. كما أنكرت ڨيل على اليهود أيّ مهمة، سواء قبل المسيحية أو بعدها، باستثناء المهمة السلبية المتمثلة في تجسيد نوع من الشرّ، أي العبادة الوثنية لما أسماه أفلاطون "الوحش العظيم". وكما مثّلت روما القديمة هذا "الوحش العظيم" في شكله الماديّ الملحد، مثّلته "إسرائيل" التوراتية في شكله الروحيّ الزائف، أي عبادة الأصنام الاجتماعية كبديل من الدين. اختار اليهود إلهًا قوميًا قَبَليًّا لـ"شعب مختار للعمى، ولقتل المسيح"، كي تبقى "لعنة إسرائيل تلقي بثقلها على المسيحية. فالفظائع، ومحاكم التفتيش، وتصفية الزنادقة والكفّار، تلك كانت إسرائيل. وكانت الرأسمالية ولا تزال هي إسرائيل". عبارتا "معاداة إسرائيل" أو "معاداة اليهودية" تصفان بدقة مذهب ڨيل الفكري في هذا الصدد إذ كانت تزدري معتقدات اليهود. بالنسبة إليها "قطع الله وعودًا زمنية بحتة لموسى ويشوع، في حين كانت مصر تتلمّس طريقها نحو خلاص النفس الأبديّ. بعد رفضهم الوحي المصري، حصل العبرانيون على الإله الذي يستحقونه: إله جسديّ وجماعيّ لم يتحدث إلى أحد حتى المنفى... فلا عجب أنّ أمة من العبيد الهاربين، غزاة أرض اللبن والعسل، دمّروا تلك الأرض بسلسلة من المذابح. ولا عجب ألّا يكون هذا الشعب قادرًا على تقديم شيء حسن للإنسانيّة".

تحدّد ڨيل الدين بأنّه مثل الثقافة يمكن تلقّيه ثم رفضه، ولا يمكن أن يكون وراثيًّا في جوهره. واستنادًا إلى اقتناعها هذا اختارت أن تكون بتعريفها "مسيحية فرنسية وهلنستية". لم تقبل نفسها كيهودية ولم تدافع عن القضية اليهودية فكان ذلك ذنبًا لا يُغتفر لمنتقديها وكارهيها من اليهود. أصرّت على أنّ اليهودية ديانة خالية من الروحانية تقوم على فكرة العِرْق، ما يجعل المجتمع اليهودي "مجتمعًا ذا ادعاءات إلهية" (وليتها شَهدت ولادة "إسرائيل" كي تلمس صدق نظرتها) واليهودية "شيئًا اجتماعيًا بحتًا"، وإذا كانت الكاثوليكية أيضًا "شيئًا اجتماعيًا" إلّا أنّها على عكس اليهودية لا تستبعد إمكانية الحياة الروحية. وتنسب إلى العبرانيين صفة العنصرية المرتكزة على فكرة الشعب المختار، فبمجرّد أن يزرع شعب ما فكرة أنّه فريد تمامًا فإنّه يستبعد بالضرورة الأمم الأخرى المختلفة عنه ثقافةً أو دينًا، كما يستبعد نفسه من أيّ انتماء إلى مجتمع آخر أكثر شمولًا، وبالتالي يمسي مشروع الحضارة المشتركة مستحيلًا. بل دعت إلى تطهير المسيحية من إرث اليهودية وكانت من أوائل المتنبّهين إلى الفجوة العميقة بين العهد القديم والعهد الجديد والتناقض اللاهوتيّ العظيم شأنًا بينهما.

بالنسبة إلى سيمونّ ڨيل، معرفة الخير والشرّ الموجودة في قلب كل إنسان هي التي تجعل البشر يستحقون الاحترام المقدس على قدم المساواة، فكيف لا ترفض بالتالي صورة الإله القاسي. مسألة وجود الله ليست المشكلة الحقيقية، بل هي مسألة الإلهيّ في الإنسان. وتوافق فرويد على أنّه من الأفضل أن تكون ملحدًا من أن تكون وثنيًّا. فكرة ڨيل عن الله هي فكرة أفلاطون القاطعة عنه بأنّه لا يمكن إلّا أن يكون خيرًا، بل إنّ هذا التعريف لله هو الوحيد الممكن. ومن هنا رفضها العنيف لإله العهد القديم، وشعورها بالأسى حيال الأثر الكارثيّ والضارّ الذي خلّفه العهد القديم على المسيحية والعهد الجديد. الحقيقة المسيحية بحسب ڨيل خالدة وقد وُجدت هذه الحقيقة قبل المسيح الذي لا تختلف رسالته جوهريًا عن رسالتي بوذا وأفلاطون (من هنا نزعة ڨيل الهلنستية اليونانية القديمة، واطّلاعها كذلك على البوذيّة وتعلّمها اللغة السنسكريتية وقراءتها الأوپانيشاد).

سيمون ڨيل هي فيلسوفة القلب حين لا يكون الذكاء والعقل كافيين لحلّ إشكالية الوجود والخير والشرّ ومعضلة الله. تشكّل الأم تيريزا مثالًا استثنائيًا لهذه "القداسة الجديدة" التي تدعو إليها ڨيل في الأزمنة الحديثة "حين تتوقف النفس المنهكة عن انتظار الله وتستمرّ مع ذلك في حبه" أي حبّ الخير الموجود في القلب. الخير هو الله. المطلوب أن يحبّ الإنسان الخير ويكفّ عن انتظار الله ("انتظار الله" هو عنوان كتاب لڨيل في أي حال). لا يمكن حلّ مشكلة الشرّ من خلال الذكاء البشري وحده، فنفي قدرة الله المطلقة هو لسيمونّ ڨيل شرط لفهم الوجود. والجسد هو وحده الذي لا يَخْدعَ بل يقول الحقيقة من خلال الألم الحقيقيّ والمنظور.


بدأ اهتمام ڨيل بالفلسفة مذ كانت في سنّ السادسة عشرة تلميذة السنة الأخيرة من الثانوية العامة في مدرسة هنري الرابع في باريس، وكان الأستاذ الذي رعى خطواتها الأولى طوال فترة دراستها هو الفيلسوف الوجودي الفرنسيّ إميل شارتييه الملقب بـ"آلان" فلقّنها مبادئ المقاربة العقلانية والفلسفية وتعرّفت من خلاله إلى كانط وهيغل وماركس ودوركهايم، فضلًا عن ملاحم هوميروس الشعرية وفلسفة ماركوس أوريليوس الرواقية التي تأثّرت كتاباتها الأولى بها. عاشت شبابها وحياتها القصيرة (34 سنة) في ألم ومعاناة وزهد واختبرت الشقاء الذي يعيشه ملايين العمال إذ تركت لفترة تحصيلها العلمي كي تعمل في أحد المصانع وتعاين عن قرب أحوال العمال في فرنسا في النصف الأول من القرن العشرين، مؤكّدة أنها لكي تعرف حقيقة هذا الواقع كان لا بد من أن تخوض هذه التجربة بنفسها، وكتبت مقالة تحت عنوان "العمل في المصنع" جاء فيها: "تلك الوجوه التي يعلوها القلق تبدو مكتئبة صباحًا، يظهر عليها التعب والرغبة في البكاء العميق، بكاء روحيّ أكثر منه جسديّ... حالة من الكراهية والاشمئزاز تلقي بظلالها على أي علاقة بين العمال وتقضي على أي صداقة محتملة". وتحلّل تلك الحالة فتراها نتيجةً لظروف العمل القمعية في المصنع والأوضاع المعيشية التي أجبرت العمال على العمل لكسب قوتهم اليومي، في حالة من الإذلال الذي لا يحتمل ولا مفرّ منه، وسط إداريين يتّصفون بالخسّة، وضجيج آلات يصمّ الآذان، متحوّلين إلى عبيد غير قادرين على التفكير بعد الآن تحت وطأة الإرهاق الجسدي. تطلق ڨيل على حالتهم صفة "العبودية"، فحال العامل في المصنع لا تختلف كثيرًا عن حال العبد في العصور القديمة يوم كان الإنسان يتنازل عن حريته ليبقى على قيد الحياة، وهو هنا في المصنع يتنازل عن إنسانيته لقاء الحصول على قوت يومه. كلٌّ منهما خاضع لقوة أعلى، سواء كانت عسكرية وإقطاعية ماضيًا، أو اقتصادية رأسمالية راهنًا.

ڨيل محسوبة على فكر ماركس بقدر ما هي متأثرة بالمسيحية والفكر اليوناني وسوى ذلك من التأثيرات. هي فيلسوفة البلاء (Le malheur) الذي تنسبه إلى هشاشة الوجود الإنسانيّ، إن على المستوى الجسديّ أو النفسيّ أو الاجتماعيّ، وتظهر آثاره في الجسد المتألم والنفس المعرّضة لأقصى درجات الكآبة والانحطاط الذي يلغي كل صورة من صور الاحترام. البلاء في عرفها هو "اللغز الكبير للحياة الإنسانية". كتّاب ومفكرون وفلاسفة كثر كتبوا عن الألم والعذاب والمأساة والبلاء والشقاء والحرمان والعمال الكادحين وحقوق الإنسان بعامةٍ، إنّما لم تخرج أفكارهم وكتاباتهم في الأغلب الأعمّ على التنظير، فيما قرنت سيمون ڨيل الفكر بالتجربة. شاطرت المعذّبين والمحرومين آلامهم وقال عنها ألبير كامو "إنّها أكبر عقل في عصرنا" ووصفها الشاعر الأميركي تي إس إليوت بأنّها "امرأة عبقرية وعبقريتها أقرب إلى القداسة". ومع ذلك، بقيت في نظر أمها "الفتاة غريبة الأطوار" وفي نظرة أستاذها شارتييه "الفتاة القادمة من المريخ". تركت ذات حين وظيفتها كمدرّسة فلسفة لأربع سنوات في التعليم الثانوي لكي تعمل في المصنع، انسجامًا مع التزامها بقضايا المضطهدين الذين كافحت طوال حياتها من أجلهم في نضالها النقابي والسياسيّ وحملات التضامن والإضرابات القطاعية (شاركت بقوة في إضراب كبير عام 1936)، وجالست العاطلين عن العمل، كما التحقت بالمقاومة الإسبانية عام 1936 إبّان الحرب الأهلية لمواجهة انقلاب فرانكو الفاشيّ. وفي الرابع عشر من أغسطس/ آب عام 1943 توفيت ڨيل بنوبة قلبية بعد معاناة مع مرض السلّ عن أربعة وثلاثين عامًا ودفنت في مدافن أشفورد الكاثوليكية في إنكلترا.

في السنوات الأخيرة من حياتها اتجهت سيمونّ ڨيل إلى الفلسفة الصوفية وتعرّفت إلى الأب جوزف ماري پيرّان Perrin الذي أثّر كثيرًا في تجربتها الروحية التي طمستها في حياتها ولم تظهر إلّا من خلال رسائلها بعد وفاتها. معاناتها الجسدية أطلقت نفحاتها الصوفية في "الخبرة مع الله: حب الله والبلاء" وتحاكي روحانيتها في هذا النص كبار المتصوفين: "البلاء يجعل الله غائبًا لوقت معين، غائبًا أكثر من غياب كائن ميت، أكثر من غياب الضوء في زنزانة يلفّها الظلام. نوع من الرعب يغمر النفس كلّها. خلال هذا الغياب، لا شيء يُحَبّ. المرعب هو إذا توقفت النفس عن الحبّ في تلك الظلمات التي ليس فيها شيء يُحَبّ، يصبح غياب الله نهائيًا. ينبغي أن تستمرّ النفس في الحب من دون غاية".

بحثت سيمون ڨيل عن مناصرة العامل الضعيف والفقير فلم تجد ضالّتها إلّا في فكر ماركس، وعن الخير والحب فلم تعثر عليهما إلّا في المسيحية، وعن الحضور الإلهيّ فلم تقع عليه إلّا في التصوّف... وذلك كلّه لم تجد شيئًا منه على الإطلاق في اليهودية، دينها بالولادة، حيث لم تعرف سوى إله قاسٍ وحصريّ لقومٍ دون سائر الأقوام، فرفضته وازدرته وهربت منه مذعورة إلى حضن الإنسانية الدافئ، داعية إلى الحب المجاني اللاغائيّ، السامي والمترفّع "في انتظار الله" Attente de Dieu أحد أجمل نصوصها الوجودية الفلسفية.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.