Print
باسم سليمان

المعري: "الكلب مَن لا يعرف للكلب سبعين اسمًا"

16 يوليه 2024
استعادات

يُحكى أنّ المعرّي دخل مسجدًا في بغداد، والمعروف أنّه قد أصيب بالعمى في صغره، فاصطدمت رجله بأحد النوّام في المسجد، فصاح النائم شاتمًا: "من هذا الكلب؟" فأجابه المعرّي فورًا: "الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا!". لا نستطيع أن نعد تلك الحادثة مجرد صدفة بحتة، فقد كانت مدبّرة من أهل المعرفة في بغداد! لكن لنتجاوز قصة المؤامرة، ولنوجّه انتباهنا نحو إجابة المعرّي الحاسمة، فهو الوحيد الذي يعرف للكلب سبعين اسمًا، وبالتالي هو من يستحق أن يكون إنسانًا، أمّا من دونه في المعرفة، فعليهم صعود سلم أسماء الكلب السبعين؛ وهنا يقصد المعرّي درجات المعرفة، وإلّا فهم الكلاب؛ بهذه الإجابة أعلن لأهل بغداد من هو؛ هكذا حدّد المعري صفة الإنسانية بالمعرفة لا بشيء آخر، أليس هو القائل: "لا إمام إلّا العقل". وعلى الرغم من ذلك لم يسلم حتى في كبره من الشتيمة ذاتها، فقد لقبه من يدّعون العلم في زمنه: بــ "كلب معرّة النعمان".
لم يتحرّج أفلاطون في وصف طبقة الجنود والقادة في مدينته الفاضلة بالكلاب، لأنّه ليس هناك أحسن منها للحراسة والكر على العدو؛ وهذا دور طبقة الجنود والقادة في المدينة الفاضلة، فهم ودودون كالكلاب نحو أهل مدينتهم، وقساة شرسون نحو أعدائهم. ولقد شرح أفلاطون فكرته عن طريق أمثولة الكلب المنزلي الذي يعرف الأصدقاء من الأعداء، فالكلب في حياة الإنسان كثيرًا ما يكون المشبّه به، لما فيه من صفات ونعوت يحبذها الإنسان.
لقد كان الذئب من أوائل الحيوانات التي تم تدجينها من قبل الإنسان، هل قلنا الذئب؟ ينحدر الكلب من الذئب، ذلك الحيوان المفترس! تبيّن حفريات تعود إلى خمسة عشر ألف عام، قبل أن يكتشف الإنسان الزراعة، بأنّ الكلب كان جنبًا إلى جنب مع إنسان العصر الحجري القديم يدفنه مع موتاه. لقد تم استدراج الذئب الذي كان يدور حول الكهوف والخيم التي يسكنها الإنسان؛ حتى انسلخ عن قطيعه، وتحوّل إلى كلب يذود عن صاحبه هجمات بني جنسه. يسرد الكاتب الصيني يانغ رونغ، في رواية "رمز الذئب" الصادرة عام 2007، حياة الرعي والصيد في سهوب منغوليا، ويصوّر كيف كان يتم سرقة جراء الذئاب من أوجارها، ومن ثم تدجينها حتى تصبح حارسة منيعة في وجه بني جلدتها من الذئاب. لا ريب في أنّ الإنسان القديم أقدم على أساليب مشابهة وهو يدجن الذئاب ويحوّلها إلى كلاب.




إنّ تدجين الذئاب يعدّ إحدى الخطوات المهمة في بدء سيطرة الإنسان على الطبيعة بعد اكتشافه النار، فلأول مرّة أصبح له عين لا تغفل خلال النوم، وتحرسه من الحيوانات الضارية، ومساعد لا يخيب مسعاه في الصيد، وصديق لا يخون؛ وليس أدلّ على ذلك من المثل العربي الجاهلي: "أجوع من كلبة حومل"، وحومل امرأة عجوز كانت تربط كلبتها في الليل للحراسة، وتطردها في النهار ولا تطعمها، فلما رأت الكلبة البدر ظنّته رغيف خبز، فنبحته! وعندما فتك بها الجوع، أكلت ذيلها ولم تخن صاحبتها! والأحرى، بناء على وفاء الكلبة لصاحبتها، أن يكون المثل: أوفى من كلبة حومل! ولقد جاء في القرآن الكريم ذكر كلب أهل الكهف، حيث ربض الكلب على باب الكهف يحرسهم، وهذا دليل على مدى ثقة الإنسان بالكلب كحارس ليلي عندما يأخذه موت النوم. إنّ استخلاص الكلب من جينات الذئب يعدّ من أولى الاستعارات الثقافية التي جردها الإنسان من عالم المحسوس إلى عالم الفكر، وحينما يميل الإنسان إلى التوحش يتحوّل إلى ذئب عندما يكتمل القمر بدرًا؛ البدر الذي حسبته كلبة حومل من جوعها رغيف خبز.

الكلاب حارسة عالم الموتى
تدور حياة الإنسان بين قوسي الموت والحياة/ المفترس والطريدة والصراع بينهما. وقد أتتنا هذه الصورة من زمن الصيد الذي شكّل جسد وعقل الإنسان كما نعرفه حاليًا. ومن هذا المنطلق رسمت الأساطير السلتية إله الغابات محاطًا من جانبيه بذئب وأيل، فالوجود ليس إلّا مطاردة وصراعًا بين الذئب والأيل، بين الموت والحياة. وهذا ما نجده في القصيدة الجاهلية عند العرب في صراع كلاب الصيد والبقر الوحشية، وقد اختصر جوهر هذا الصراع الجاحظ بالقول: "ومن عادة الشعراء إذا كان الشعر مرثية أو موعظة، أن تكون الكلاب هي التي تقتل بقر الوحش، وإذا كان الشعر مديحًا، أن تكون الكلاب هي المقتولة". وكأنّ الشاعر الجاهلي يرى الحتوف كالكلاب تطارد الإنسان الممثّل له بالبقر الوحشي.
لعبت الكلاب في الأسطورة أدوارًا عديدة، فقد كان لزيوس كبير آلهة اليونان كلبٌ يُسمى (الكلب الذهبي) ربض عند مهده عندما كان زيوس طفلًا صغيرًا، وقد كافأه زيوس بأن رفعه إلى نجم في السماء يُدعى كوكبة الكلب الأكبر. مُثّل إله الموت أنوبيس في الحضارة الفرعونية برأس ابن آوى؛ وهو نوع من الكلاب الأفريقية، التي كان لها أدوار عدّة؛ من مرشد الأرواح بعد الموت، وحارسة المقابر، إلى أنوبيس الذي كان يزن الأرواح بميزان إلهة العدالة (ماعت)، فيتقرّر مصيرها بين الجنّة والنار. وعادة ما كان يوصف الموت في بلاد الفراعنة بالكلب الذي ابتلع الملايين. أمّا في الأسطورة اليونانية فقد كان العالم السفلي، حيث يذهب الموتى محروسًا من الكلب (سيربيروس) برؤوسه الثلاثة، وقد عهد إليه حاكم العالم السفلي الإله هاديس أن يحرس أبواب العالم السفلي، وعندما هبط البطل هرقل إلى العالم السفلي ترجّاه الإله هاديس أن يعامل كلبه بلطف. إنّ محاولة تفسير هذه الأساطير تحيلنا مباشرة إلى دور الكلب في حراسة البيت الإنساني من الأشرار، فإذا كان هذا دوره في الحياة، فلماذا لا يكون دوره مشابهًا لذلك في ما بعد الموت.
كانت للكلاب في الأساطير الرومانية رمزية خاصة، فالإلهة ديانا، المكافئة للإلهة اليونانية أرتميس، كانت غالبًا ما تُصور مع كلاب الصيد، ممّا يعكس ارتباطها بالبرية، ودورها كحامية للطبيعة. وعندما خرق أحد الصيادين حرمتها، حوّلته ديانا إلى أيل، فانقلبت كلاب صيده عليه، وبدأت بملاحقته. بالإضافة إلى ذلك، كان إله الحرب الروماني مارس يرتبط أحيانًا بالكلاب، ممّا يرمز إلى الولاء والحماية في سياق المعركة. تتميّز الأساطير والفولكلور الصيني بظهور بارز للكلاب، فإحدى الأساطير الشهيرة هي قصة (بانهو)؛ الكلب التنين الذي ساعد الإمبراطور (دي كو) في هزيمة أعدائه. وكدليل على الامتنان، منح الإمبراطور بانهو يد ابنته للزواج، وأصبح بانهو سلفًا لمجموعات عرقية صينية عدة. فهذه الأسطورة تؤكّد على أهمية الولاء والشجاعة والمكافأة على الخدمة المخلصة في المجتمع الصيني. بالإضافة إلى ذلك، يشمل التقويم الصيني برج الكلب كواحد من اثني عشر حيوانًا تمثل بقية الأبراج. يُعتقد أن الأشخاص المولودين في عام الكلب يمتلكون صفات مثل الولاء والأمانة، مما يعكس الصفات الإيجابية المرتبطة بالكلاب في الثقافة الصينية. فيما عدَّت الديانة الزرادشتية الكلاب جنودًا مع إله الخير أهورا مزدا تخوض الحرب ضد إله الشر وأتباعه من قطط وصراصير وجرذان، ولذلك كوفئت بأن تصبح حارسة الطريق الذي يقود إلى الجنّة. لقد تنوّعت دلالات الكلاب في الأساطير بين قناع الموت وقناع الحياة.

عندما تفلسف الكلب

لم يتحرّج أفلاطون في وصف طبقة الجنود والقادة في مدينته الفاضلة بالكلاب


تحتل الكلاب مكانة متميّزة في حياة البشر، وتمتدّ أهميتها إلى فضاءات الفلسفة والتأمّل الفكري، فقد استلهم الفلاسفة عبر العصور الكلاب كرموز وأدوات لفهم طبيعة الإنسان ومفاهيم الأخلاق والولاء.
إنّ معنى كلمة الفلسفة هو: حبّ الحكمة، لكن الجذر اللغوي القديم لكلمة الفلسفة: (phur)، والتي تعني: (الفراء). ولكي تُفهم الفلسفة جيدًا يجب أن نتذكّر معناها الأساسي: (التفكير بالفراء). وهذا يعني أنّ الإنسان لأنّه ليس لديه فراء، كالكلاب على سبيل المثال، لا يستطيع أن يفعل كما يفكّر، فستقف العادات والأخلاق في وجهه! فادعاء الصدق الكامل بالتفكير والأفعال في الفلسفة سيصبح مدار شكّ، وهذا ما كشفه الفيلسوف ديوجين.




يتساءل سقراط: "أليس الشاب النبيل يشبه إلى حدّ كبير الكلب المهذب في الحراسة والمراقبة؟". ويضيف سقراط، أيضًا، بأنّ الكلب يشبه إلى حدّ كبير الفيلسوف، لأنّه: "يميّز وجه الصديق والعدو بموجب معيار المعرفة وعدم المعرفة". وبناءً على تفكير سقراط، يمكننا وضع قياس منطقي بمقدمات رئيسية وثانوية يوضح لنا فكرته: الفرضية الكبرى: كلّ شاب نبيل مثل الكلب المهذب.
الفرضية الصغرى: كلّ كلب مهذب يشبه الفيلسوف.
النتيجة: كلّ شاب نبيل كالفيلسوف. لقد أثبت أفلاطون على لسان سقراط، باستخدام أمثولة الكلب، بأنّ الشاب النبيل من الممكن أن يكون فيلسوفًا.
كان ديوجين من مواطني مدينة سينوب على البحر الأسود، لكنّه فرّ منها إلى أثينا بعدما حدثت فضيحة بشأن العملات المزوّرة، فقد كان أبوه مسؤولًا عن دار صكّ العملة فيها. قصد ديوجين معبد دلفي في أثينا، وسأل عرافات المعبد عن مصيره، فجاءه الردّ بأن يستمر في تزوير العملة، ففسر ديوجين أنّ معنى كلمات العرّافات أنّه دعوة منها لقلب العادات والأعراف الأخلاقية في أثينا. التحق ديوجين بالمعلم (أنتيسثينيس)، الذي كان أحد أتباع سقراط، ويدعو إلى التقشّف في العيش. تبنّى ديوجين هذه المبادئ ونبذ حياة البيوت واختار جرّة فخارية لتخزين الحبوب في ساحات أثينا للعيش فيها، ومارس بلا حياء حياة الكلاب، بالتبول وممارسة التصرفات الشائنة علنًا، وعندما عيب عليه ذلك قال: "ليت تلمس البطن يوقف الجوع". هذه التصرفات دفعت أهل أثينا إلى شتمه وتلقيبه بالكلب، وكان سعيدًا بذلك، فكان يقول: "أنا أتودّد إلى الأشخاص الذين يمنحوني شيئًا، وأنبح على أولئك الذين لا يفعلون ذلك، وأغرز أسناني في الأوغاد". لكن تصرفات ديوجين ألا تعيدنا إلى المعنى العميق للفلسفة؛ التفكّر بالفراء، أي العيش بصدق كالحيوانات، بلا تقية؟
سُمي المذهب الفلسفي الذي ابتدعه ديوجين: (kynikos/ شبيه الكلب) أي الكلبي؛ والكلبي هو الذي يتهكّم من عادات وأعراف المجتمع مبينًا العور فيها. في قصة أخرى عن كلبية ديوجين بأنّ لقب الكلب قد ناله من شتم أفلاطون له، فقد كان ديوجين يسخر من تعاليمه، فوصفه أفلاطون بأنّه (شبيه الكلب). وعلى الرغم من أن أمثولة الكلب في كتاب الجمهورية كانت إيجابية، إلّا أنّ شتم أفلاطون لديوجين بالكلب لم تكن مجرد شتيمة عابرة، فهي تذكّرنا بالمثل الذي يقول: "مثل الكلب يعضّ يد صاحبه"، وهذا يعني أنّ ديوجين بعد تعلّم الفلسفة من آراء سقراط عضّ اليد التي منحته المعرفة. سأل أحدهم ديوجين ما الذي تعلّمته من الفلسفة، فقال بأنّه إنّ لم يكن فيها أي شيء فقد منحتني القدرة على أن أقبل أي حظوظ تسوقها الأقدار إليّ، بكل سعادة، فلا فرق أن أكون في البيت، أو أن أنفى، أو أسكن جرّة في السوق، أو حتى أن آكل أخطبوطًا نيئًا. أمّا على سيرة الأخطبوط فقد مات متسممًا بعد أن أكل أذرع أخطبوط حيّ في تحدّ مع أهل أثينا. ويقال، أيضًا، بأنّ كلبًا مصابًا بالكلب عضّه، فمات، إلّا أنّ قصصه الساخرة والمتهكّمة من السلطات السياسية والدينية والاجتماعية في أثينا خالدة خلود سيرة الإسكندر المقدوني الذي لم يقف جيش في وجهه، وفتح العالم القديم، لكن ديوجين بكل بساطة أمر الإسكندر في القصة المشهورة بأن يبتعد عن طريق شمسه، فما كان من الإسكندر إلّا أن تمنّى أن يكون ديوجين، لكن ديوجين تمنّى أن يبقى ديوجين كما هو!
لم تغب الكلاب عن الفلسفة في الأزمنة الحديثة، فلطالما استُخدمت الكلاب كمرآة تعكس القيم الأخلاقية للبشر. يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أنّ تعامل الإنسان مع الحيوانات، وبالأخص الكلاب، يُظهر مدى تطوره الأخلاقي. كما يرى كانط أن القسوة تجاه الحيوانات تُعري انحدار الإنسان في التعامل مع بني جنسه.
بالتالي، فإنّ الرفق بالكلاب يعزّز من قيمة الرحمة والشفقة في المجتمع البشري. أمّا الفيلسوف آرثر شوبنهاور، فقد رأى في الكلاب تجسيدًا للإرادة والعاطفة النقية. فالعلاقة الصادقة بين الإنسان والكلب تبرز نوعًا من البراءة والصدق الذي تفتقر إليه في كثير من الأحيان العلاقات البشرية. من هنا، يدعو شوبنهاور البشر إلى التعلّم من إخلاص الكلاب وإيثارها، لتعزيز قيم التضحية والمحبة في حياتهم. ساهمت الكلاب في فهم طبيعة العلاقات الإنسانية ومفهوم: (الآخر). يستذكر الفيلسوف إيمانويل ليفيناس تجربته مع كلب ضال خلال فترة وجوده في أحد معسكرات النازية، حيث أكّد له هذا الكلب إحساسه بالإنسانية والكرامة. يعتقد ليفيناس أنّ قدرة الكلاب على تكوين علاقات حقيقية مع البشر تجسد العلاقة الأخلاقية التي يجب أن نطمح إليها مع الآخرين. هذا التفاعل مع الآخر، كما تمثّله الكلاب، يعزّز من مشاعر التعاطف والاحترام والفهم المشترك لوجودنا.
إنّ حضورالكلاب في النقاشات الفلسفية يدل على أهميتها ليس فقط كرفقاء للبشر، بل ككائنات تتحدّانا للتأمّل في طبيعتنا ومكانتنا في العالم. من خلال التفكّر في فضائل وسلوكيات الكلاب، يمكننا السعي لتحقيق وجود أخلاقي أكثر تعاطفًا وأصالة.

أنت كالكلب في حفاظك للود

عوليس تعرف عليه كلبه فقط عند عودته


هذا العنوان الفرعي يعود إلى الشاعر علي بن الجهم عندما دخل على الخليفة المتوكّل مادحًا، ولم يكن وقتها قد تبغدد! وهو الآتي من ثقافة البادية، حيث كان الكلب دليلًا على الوفاء. لم يخرج ابن الجهم في مدحه للمتوكّل عن تقليد قديم يضع الكلاب في قمة الوفاء لأصحابها، فهوميروس في الأوديسة لم يكن بين يديه من وسيلة لتبيان أن رحلة عوليس الطويلة عن دياره جعلت الجميع ينسونه، إلّا كلبه (أراغوس)، فبعد عشرين سنة من الغياب دخل عوليس بيته كشحاذ، فلم يعرفه خادمه، ولا ابنه، ولا زوجته، ولا أحد ممن كانوا يواظبون على الحضور إلى بيته كضيوف وأصدقاء، ما عدا كلبه العجوز أراغوس، الذي كان مهملًا كذكرى صاحبه، ينام على الروث. وعندما اشتم الكلب رائحة صاحبه بصبص له، فبادره عوليس بدمعة انحدرت من عينه.
لقد كانت الكلاب رفيقة مخلصة للإنسان منذ آلاف السنين، ليس فقط في الحياة، ولكن أيضًا في صفحات الأدب، فغالبًا ما تكون الكلاب أكثر من مجرد حيوانات أليفة، بل أبطالًا، أو مرشدين، أو حتى رموزًا للصراع الداخلي للشخصية. ففي رواية "نداء البرية"، التي صدرت عام 1903، والتي تعدّ من أهم روايات جاك لندن، وتروي قصة كلب اسمه (باك) يُخطف من منزل صاحبه، فيغادر حياة الرفاهية والغنى إلى منطقة نائية، يصبح فيها كلبًا يسحب الزلاجات على الجليد. وهناك يكتشف الكلب غرائزه الطبيعية التي غيبتها حياته في المدينة كلما داهمه الخطر. يختار باك في نهاية الرواية أن يعود إلى الطبيعة تاركًا حياة البشر نهائيًا. إنّ رحلة الكلب/ الإنسان باك ليست جسدية فحسب، بل عاطفية وروحية أيضًا، حيث يكتشف هويته الحقيقية بعيدًا عن الحضارة الإنسانية. توصف رواية "فنّ السباق تحت المطر" للروائي جارث شتاين بأنّها من الروايات التي أعطت الكلاب بطولة مطلقة، بل وحكمة تذكرنا بالحكماء الصينيين، حيث تُسرد الرواية على لسان الكلب (إنزو)، وتدور حوله وحول مالكه سائق سيارات السباق.
تكثر في الآداب استخدام ثيمة الكلاب إيجابًا أو سلبًا، فالكلب هو بمثابة مرآة لطبائع الإنسان الجيدة والشريرة، ففي رواية تشارلز ديكنز يكون الكلب الشرس ممثلًا لطبائع شخصية صاحبه. وهناك كثير من القصص والحكايات والروايات عن الكلاب في أدبنا الحديث، ليست مجرد رمز كما في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، وإنّما هي كلاب من لحم ودم. إنّ سيرة الكلاب من أراغوس، إلى كلب عالم السلوكيات بافلوف، إلى الكلبة الروسية (لايكا)، التي كانت أول كائن حي يرسل إلى الفضاء، إلى (ميلو) كلب المحقق (تان تان) بطل مجلات الرسوم المصوّرة، إلى كلاب الاحتلال الإسرائيلي المتوحشة القاتلة، إلى الكلاب التي تقود العميان، نستطيع أن نقول إنّ الكلاب تخلّت عن كثير من جينات الذئاب، واكتسبت كثيرًا من جينات الإنسان، فالذئب هو من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا.

*كاتب من سورية.