Print
عزيز تبسي

عبد الكريم رافق: عزيمة المؤرخ أمام حقل التاريخ الشائك

19 يوليه 2024
استعادات

وُلِدَ عبد الكريم سمعان رافق بمدينة إدلب في 21 أيّار/ مايو في عام 1931، لأسرةٍ أرثوذكسيّةٍ امتهنت العلم. أدارت والدتُه مؤسَّسةً إنجيليّةً مشيخيّةً، وعمل والدُه في خدمة الكنيسة الأرثوذكسيّة التابعة لأبرشيّة حلب وإسكندرون، وكانت إدلب تتبع لها. التحق بالمدرسة الثانويّة البريطانيّة في إدلب، وأكمل تعليمه فيها. انتقل بعدها إلى حلب، وأمضى أربع سنوات في كليّتها الأميركيّة (معهد حلب العلميّ في ما بعد). غادر بعدها إلى كلية الآداب في جامعة دمشق، التي استحدثتها الحكومة بعد الاستقلال 1946، وحصل فيها على درجة الامتياز.
حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة لندن عام 1963 عن أطروحته (ولاية دمشق بين عام 1723 ــ 1783)، التي أشرف عليها عضو الأكاديميّة البريطانيّة بيتر هولت. ثم عاد إلى جامعة دمشق، وعمل أستاذًا لتاريخ العرب الحديث والمعاصر من عام 1964 حتّى تقاعده في عام 2000. تزوّج من تريز لقطينة من أبناء بلدة جديدة عرطوز، وهي خرّيجة كليّة الجغرافيا في جامعة دمشق، وأنجبا أربعة أبناء: سمعان (طبيب صدريّة)، وزاهي (طبيب قلبيّة)، وزاهية (باحثة في الآداب الفرنسيّة)، وسامر (طبيب داخليّة). وانتقل الأبناء ليعملوا في مشافي وجامعات الولايات المتّحدة الأميركيّة.
توفي سمعان في 9 حزيران/ يونيو 2024 في حادث سير وهو عائدٌ إلى بيته، بعد لقاء أصدقائه في مقهى في مدينة بوسطن.
كتب عشرات الأبحاث باللغتين العربيّة والإنكليزيّة عن أحياء دمشق، ومحمل الحجّ الشاميّ، والعلاقات الزراعيّة في بلاد الشام... اعتمد على محفوظات مركز الوثائق التاريخيّة بدمشق، ومركز الوثائق العثمانيّة في إسطنبول، وبحث في محفوظات المحاكم الشرعيّة، وكتابات الرحّالة والتجّار ورجال الدين البعيدة نسبيًّا عن التأثير المباشر للسلطة. دأب على تثقيل أبحاثه التاريخيّة بالوثائق والشهادات والأرقام، كأنّه مصارعٌ يريد تثبيت كتفي النصّ التاريخيّ ومنعه من المراوغة.
ارتبط اسمه بكتابات التاريخ الجديد لبلاد الشام والوطن العربيّ في العصر الحديث، في الفترة العثمانيّة وما أعقبها من مرحلتي الانتداب الفرنسيّ والاستقلال. تميّزت كتاباته بالجمع بين التاريخ العامّ، كما في مؤلَّفه "العرب والعثمانيّون 1516 ــ 1916"، وسلسلة من الدراسات الاجتماعيّة اعتمد فيها على وثائق المحاكم الشرعيّة، وسجلّات التركات، لسبر التاريخ الاجتماعيّ، وتركيبات تنظيمات الحرف اليدويّة، وعلاقات الطوائف ببعضها، والإضاءة على علاقات المدينة بالأرياف. شارك جورج حدّاد بترجمة المؤلَّف الموسوعيّ تاريخ سورية ولبنان وفلسطين للمؤرّخ فيليب حتّي، كما ساهم في تأليف المعجم الجغرافيّ للقطر العربيّ السوريّ.
أثبتت مؤلَّفاته أنّه مؤرّخٌ اجتماعيٌّ، إلّا أنّه لم يتخلَّ عن تأريخ المواضيع الفكريّة والسياسيّة، التي طبعت الفترات العثمانيّة وما تلاها. ألف كتاب "تاريخ الجامعة السوريّة: البداية والنموّ 1901 ــ 1946" كأوّل جامعة حكوميّة في الوطن العربيّ، وقدّمه بمناسبة العيد المئويّ ــ الذهبيّ لكليّة الطبّ، والعيد التسعينيّ لكليّة الحقوق في جامعة دمشق عام 2004، وأهداه إلى زوجته وأبنائه خرّيجي هذه الجامعة العريقة.

تاريخ الجامعة السوريّة 1901 ــ 1946
شهدت السنوات الأولى من القرن العشرين اهتمامًا متزايدًا ببلاد الشام من قِبَل السلطان العثمانيّ عبد الحميد الثاني (1876 ــ 1909)، الذي أعلن نفسه خليفةً للمسلمين، متبنّيًا فكرة الجامعة الإسلاميّة، لتوطيد نفوذه ضدّ دعاة القوميّين الأتراك والعرب، ومدخلًا شرعيًّا للضغط على بريطانيا وفرنسا، اللتين كانتا تحتلّان عددًا من البلدان ذات الأغلبيّة الإسلاميّة، في شمال أفريقيا، وآسيا.




تقرّب الخليفة بهذه السياسة الإسلاميّة من العرب الذين باتوا العنصر الأكبر في السلطنة العثمانيّة. وخصّ بلاد الشام بعدد من المشاريع بتأثير نفوذ السوريّين الذين شغلوا مراكز حكوميّة هامّة في إسطنبول، كأبي الهدى الصيّادي، وعزّة باشا العابد، وصادق باشا العظم. وفي هذا السياق التاريخيّ، أصدرت الإرادة السلطانيّة في عام 1901 أمرًا بإنشاء مدرسة طبّيّة عثمانيّة في دمشق، وأقرّ السلطان في العام نفسه إقامة خطّ حديديّ يربط دمشق بالمدينة المنوّرة، وتمّ ذلك بين عامي 1901 ــ 1909، وواكبه إنشاء خطّ تلغرافيّ ربط دمشق بمكّة المكرّمة، كما مُدّت في دمشق خطوط للحافلات (الترامواي)، وأُدخلت إليها الإنارة بالكهرباء، التي بدأ بتنفيذها في أيلول/ سبتمبر 1905.
وكانت هنالك حاجة لتأهيل كادر على درجة عالية من التعليم، لإلحاقه بإدارات الدولة، والجائحات المتكرّرة للتيفوس والكوليرا، التي لم تجد كادرًا طبّيًّا مؤهّلًا لمواجهة تبعاتها، والتأكيد على الهويّة العثمانيّة بعمقها الإسلاميّ أمام تدفّق الكوادر الجامعيّة الآتية من جامعتي بيروت الموسومتين بالمسيحيّة، حيث كانت هنالك مدرستان للطبّ في بيروت، إحداهما أميركيّة تأسّست عام 1867 (وهي جزء من الكلّيّة البروتستانتيّة السوريّة)، والأخرى فرنسيّة تأسّست في عام 1883 (عُرفت بجامعة القدّيس يوسف، أو الجامعة اليسوعيّة).
عهدت الحكومة العثمانيّة إلى وزارة المعارف، وحاكم ولاية سورية (ولاية دمشق) ناظم باشا، مهمّة إنشاء المدرسة الطبّيّة في دمشق.
استغرق الأمر سنتين (1901 ــ 1903) لإيجاد الموارد الماليّة والمكان المناسب، وإعداد ما يلزم للبدء بالتدريس. تقرّر مبدئيًّا رصد عشرة آلاف ليرة عثمانيّة من الضريبة المجباة من مسالخ السلطنة، لإنشاء الأبنية اللازمة للمدرسة الطبّيّة، وحُدّدت أرضها بالقرب من مشفى الحميديّة (مشفى الغرباء الذي سيُعرف لاحقًا بالمشفى الوطنيّ) في منطقة البرامكة.

ساطع الحصري 


وصلت في الأوّل من تمّوز/ يوليو 1902 أوامر ملحّة من القصر السلطانيّ، ووزارة المعارف، تطلب من والي دمشق تدشين المدرسة الطبّيّة في الأوّل من أيلول/ سبتمبر ليتزامن مع الاحتفال السنويّ بعيد جلوس السلطان عبد الحميد الثاني. ونظرًا لضيق الوقت اضطرت حكومة الولاية إلى استئجار بيت لبدء التدريس، ريثما يتمّ تشييد الأبنية الخاصّة بالمدرسة، التي لم تكن قد بدأت بعد. يقع هذا البيت في حيّ الصالحيّة، وكان قوناق (مضافة) من دار زيور باشا، وظلّت المدرسة الطبّيّة في هذا المكان لغاية 1913، انتقلت بعدها إلى بناء خاصّ بها شُيّد في حديقة المشفى الحميديّ.
تألّفت المدرسة الطبّيّة من فرعي الطبّ البشريّ والصيدلة، مدّة دراسة الأوّل ستّ سنوات، والثاني ثلاث سنوات، وتقرّر أن يكون التدريس بالمجّان، ولغة التدريس التركيّة.
اشتُرط على الطلبة معرفة اللغة الفرنسيّة، وقُبل فيها الطلبة المتخرّجون من المدارس الإعداديّة، وطُلب من غيرهم التقدّم لامتحان المدرسة الإعداديّة، إضافة لقيد نفوس، وشهادة صحّيّة تثبت اللياقة البدنيّة والذهنيّة، والقدرة على الدراسة وممارسة المهنة. بلغ عدد الطلّاب في السنة الأولى أربعين طالبًا، وأتاح نظامها للطلّاب من خارج دمشق المبيت والطعام في قسم داخليّ لقاء ستّ ليرات عثمانيّة (ذهبيّة) في السنة.
طبّقت المدرسة المناهج المتّبعة في مدرسة الطبّ في إسطنبول، واستخدمت اللغة التركيّة في التدريس لأنّ أساتذتها من الأتراك، أو العرب ممن درسوا الطبّ في معهد إسطنبول.
انتقلت مدرسة الطبّ في عام 1913 إلى البناء الجديد، الذي تألّف من طابقين: أرضيّ ضمّ المخابر، وعلويّ حوى قاعات التدريس للطبّ والصيدلة. وكان التدريس في السابق يتمّ في القوناق المؤجّر في الصالحيّة بالنسبة للسنوات الأربع الأولى، وفي المشفى الحميديّ في السنتين الأخيرتين، حيث تتمّ الدراسات السريريّة.
خضعت المدارس الطبّيّة الثلاث، العثمانيّة في دمشق، والأميركيّة والفرنسيّة في بيروت، لسلطات إسطنبول الطبّيّة، التي يعود لها وحدها حقّ تعيين لجنة عثمانيّة لامتحان السنة النهائيّة وتصديق شهاداتهم.
افتُتحت إلى جانب المدرسة الطبّيّة بدمشق مدرسة الحقوق في بيروت في تشرين الأوّل/ أكتوبر عام 1913، وكانت قد تشكّلت في أعقاب إعادة إعلان الدستور ووصول جماعة الاتّحاد والترقّي إلى الحكم في عام 1908 هيئة من الطلبة العرب طالبت الحكّام الجدد بإعطاء مزيد من الحرّيّات للعرب ضمن السلطنة العثمانيّة. ووافق هؤلاء على طلبهم، في محاولة منهم لكسب ودّ العرب عشيّة انعقاد مؤتمر باريس (المؤتمر العربيّ الأوّل) في عام 1913، الذي سعت إليه الجمعيّة العربيّة الفتاة، وشاركت فيه مجموعة من أحرار العرب، وافتتحت مدرسة للحقوق، حيث اختيرت بيروت مركزًا لها، في مدرسة الفنون والصنائع، وجُعلت مدّة الدراسة فيها أربع سنوات. وكانت التركيّة لغة التدريس فيها، باستثناء أحكام الفقه والفرائض والزواج، فكانت تُدرَّس بالعربيّة. ومع اندلاع الحرب العالميّة الأولى، نُقلت مدرسة الحقوق من بيروت إلى دمشق عام 1914، واستقرّت في المدرسة الإنكليزيّة ــ الهولنديّة في حارة اليهود. أدّى تجنيد عدد من أساتذتها وطلّابها إلى اضطراب وضعها، لكن لم تتوقّف الدراسة فيها، رغم أنّه لم يبقَ فيها سوى ثلاثة طلّاب. كانت المشكلة الأساسيّة للتعليم الجامعيّ في كلّيّتي الطبّ والحقوق، الذي أتى في أواخر الحكم العثمانيّ، في تعدّد المناهج، وعدم استقرار المعلّمين والأمكنة. كما أظهر ضعف التأهيل التعليميّ للطلبة القادمين من المدارس الرشديّة والإعداديّة، وارتجاليّة القرار السياسيّ الذي وقف خلف الخيار التعليميّ.

الجامعة السوريّة في عهد الحكومة العربيّة (1918 ــ 1920)
تلك الفترة اتسمت بشرط تاريخيّ انتقاليّ، بين سيطرة حكومة فيصل باشا الركابيّ المعيّنة من الجنرال البريطانيّ إدموند اللنبي، والحضور الميدانيّ للأمير فيصل، وتواجد مشترك للقوّات العسكريّة البريطانيّة والفرنسيّة، قبل إعادة صياغة اتّفاقيّة سايكس ــ بيكو، الأمر الذي تطلّب تنازل فرنسا عن ولاية الموصل الغنيّة بالبترول، وتحوّل فلسطين من تحت الحماية الدوليّة، إلى الانتداب البريطانيّ، وهو إعادة صياغة للاتّفاقيّة، وترتيب جديد للجغرافيا السياسيّة للمنطقة. ممّا يعني أنّ أوّل من مزّق الاتّفاقيّة هم من صاغوها وتفاوضوا على فقراتها وحيثيّاتها.




بعد حسم ثنائيّة السلطة وإعلان المؤتمر الوطنيّ في 8 آذار/ مارس 1920 فيصلًا ملكًا على سورية، أسّس الملك فيصل مجلسًا للبلديّة، وآخر للشورى، ومجلسًا للمديرين، ثمّ مجلسًا للوزراء ووضع أسس التعليم العالي، فأُعيد افتتاح معهدي الطبّ والحقوق، وتمّ إنشاء الجامعة السوريّة. وأُعيد النشاط لمدرسة الطبّ العثمانيّ، التي كانت قد استُخدمت مبانيها أثناء الحرب لتحضير القطن الطبّيّ للجيش. وعُيّن الدكتور رضا سعيد عميدًا للمعهد، الذي أضاف إليه فرع طبّ الأسنان إلى فرعي الطبّ والصيدلة.
وعلى غرار المعهد فقد أُعيد تأسيس معهد الحقوق العربيّ في عام 1919، وكان الشبّان المجتمعون في النادي العربيّ بدمشق، بعد قيام الحكومة العربيّة، قد رفعوا مذكّرة إلى ساطع الحصريّ، مدير المعارف في حكومة رشا باشا الركابيّ، دعوه فيها إلى إعادة افتتاح مدرسة الحقوق لإتمام دراستهم التي توقّفت بعد إغلاق مدرسة الحقوق العثمانيّة، وشاركهم في المذكّرة الشبّان الذين أنهوا دراستهم الثانويّة، ورغبوا في دراسة الحقوق. وافقت الحكومة على طلبهم، وتمّ افتتاح معهد الحقوق في 25 أيلول/ سبتمبر 1919، وعُيّن عبد اللطيف صلاح من نابلس عميدًا للمعهد.
حاول اتّجاه من سلطة الانتداب الفرنسيّ، بخلفيّة تعالٍ استعماريّ، نزع الشرعيّة عن الجامعة السوريّة، إلّا أنّه وُوجه باتّجاه انتدابيّ آخر سعى إلى تثبيت شرعيّة الجامعة السوريّة ودعمها بمعلّمين فرنسيّين واللغة الفرنسيّة، بما تحمله الجامعة من قيمة اعتباريّة تساعد على الانفتاح المتبادل مع العالم العربيّ والإسلاميّ، لقدرة الجامعة على استقطاب طلبة من الدول العربيّة وبشكل خاصّ من دول المغرب الكبير. تمكّن الاتّجاه الثاني من إقناع سلطة الانتداب وما وراءها السلطة في فرنسا. وبهذا تأسّست في دمشق تحت اسم الجامعة السوريّة، وضمّت معهد الحقوق، والمعهد الطبّيّ الذي توسّع ليضمّ قسمًا خاصًّا بطبّ الأسنان وآخر للقابلات، والمجمع العلميّ والمتحف. نشأ بعد هذا نمط آخر من الصراعات بين اتّجاه سعى إلى استقلال الجامعة واتّجاه عمل على تتبيعها لوزارة المعارف، أي لهيمنة شرط سياسيّ متبدّل، كما برز اتّجاه عمل على فصل الجامعة السوريّة عن المجمع العلميّ والمتحف لاختلاف وظائفهم.
أُضيف بمسعى وزير المعارف محمّد كرد عليّ في عام 1928، معهد جديد للجامعة عُرف بـ"المدرسة العليا للآداب"، عُيّن شفيق جبري مديرًا بالوكالة للمدرسة، كما كان هناك ضغط من مشايخ دمشق لإقرار كلّيّة الإلهيّات، وهي بمثابة كلّيّة للشريعة الإسلاميّة.
لم تكن الجامعة السوريّة، رغم العقوبات التي وقعت على الطلبة بما فيها الفصل من التعليم، بعيدة عن الصراعات السياسيّة والوطنيّة... الشرط السياسيّ الدوليّ الذي سبق الحرب العالميّة الثانية، الذي حرّك إدارة الانتداب الفرنسيّ لإبرام معاهدة 1936، التي وُوجهت باعتراض الكتلة الوطنيّة لأنّها لا تحقّق الوحدة السوريّة، كما التضامن مع ثورة الشعب الفلسطينيّ 1936 التي قادها عزّ الدين القسّام، كما الكفاح ضدّ تواطؤ سلطة الانتداب الفرنسيّ مع ضمّ تركيا للواء إسكندرون 1939 وإسناد الإضراب الستّينيّ في دمشق. ونقلوا فاعليّتهم إلى فرنسا حيث كان العديد من الطلّاب السوريّين الموفدين يتابعون في جامعاتها دراستهم العالية.
وتفاعلت بإيجابيّة مع دخول المرأة إلى قاعات التعليم وسجّلت الجامعة السوريّة تخرّج لوريس ماهر في حزيران/ يونيو 1930 كأوّل طبيبة سوريّة. ظهرت إشكالاتٌ سياسيَّةٌ وحقوقيَّةٌ وعسكريَّةٌ جديدةٌ، في المرحلة الممتدَّة بين الحرب العالميَّة الثانية والاستقلال (1939-1945)، فبعد الإطاحة بحكومة ليون بلوم الاشتراكيَّة، رفضت سلطة الانتداب التَّوقيع على المعاهدة بين البلدين، كما أنهت الحكم البرلمانيَّ وعلَّقت العمل بالدُّستور وحلَّ مجلس النُّوَّاب ومجلس الوزراء... ألَّفت بديلًا عنهم حكومة المديرين، التي عُهِد إليها تأمين السُّلطة التَّنفيذيَّة تحت مراقبة المفوَّض السَّامي الفرنسيّ. منحت حكومة المديرين سلطة اتِّخاذ قرارات تعيين كبار الموظَّفين والقضاة، وإصدار مراسيم لها قوَّة القانون، لا سيَّما في شؤون الميزانيَّة العامَّة. وكان أبرز حدثٍ داخليٍّ ببداية حكمهم، اغتيال الدُّكتور عبد الرَّحمن الشَّهبندر، رئيس حزب الشَّعب في 7 تمُّوز/ يوليو 1940، ومن ثمَّ تحوُّل تابعيَّة سلطة الانتداب إلى حكومة فيشي الخاضعة للاحتلال الألمانيّ لفرنسا. حكم ممثِّلو حكومة فيشي سورية ولبنان مدَّة عام من تمُّوز/ يوليو 1940 لغاية تمُّوز/ يوليو 1941، وشهد تعاظم النُّفوذ الألمانيّ في سورية، لحين إسقاطها بتدخُّلٍ عسكريٍّ وقتالٍ عنيفٍ بينها وبين القوَّات البريطانيَّة وقوَّات فرنسا الحرَّة، التَّابعة للجنرال ديغول، واختارت حكومة فرنسا الشَّيخ تاج الدِّين الحسنيّ لرئاسة الجمهوريَّة السُّوريَّة في أيلول/ سبتمبر 1942. تمرَّست أجيال الطَّلبة في الكفاح في صفوف الحركة الوطنيَّة السُّوريَّة، التي بدأت تتجذَّر أطروحاتها السِّياسيَّة في أحزابٍ جديدةٍ، جنبًا إلى جنب مع كفاحهم لاستقلاليَّة الجامعة، والحفاظ على دورها الرِّياديّ في التَّعلُّم المرتبط بحاجات المجتمع وتقديم الخدمات المجَّانيَّة للفئات المحتاجة، وانتزاع المبادرات الثَّقافيَّة على المستوى الوطنيّ كإحياء ذكرى أبي الطَّيِّب المتنبِّي وأبي العلاء المعرِّيّ... والتي جذبت لقاعاتها عشرات الشُّعراء والمثقَّفين العرب من العراق ولبنان ومصر.

اعتمد المؤرِّخ عبد الكريم لتحقيق بحثه على مئات الوثائق العثمانيَّة والفرنسيَّة والبريطانيَّة والصُّحف التي تصدر في دمشق وبيروت وكتب المذكِّرات وشهادات الطُّلاب والمدرِّسين، بالتَّوازي مع وثائق التَّاريخ السِّياسيّ والاجتماعيّ، لينجز في النِّهاية كتابًا غير مسبوقٍ في تاريخ سبر فتوَّة المؤسَّسة التَّعليميَّة وشبابها، متجنِّبًا الدُّخول في المراحل التي أسَّست لكهولتها المبكِّرة وفشلها التَّعليميّ.