Print
سمر شمة

الحرف والصناعات التقليدية الفلسطينية: تراث أصيل وتحدّيات كبيرة

20 يوليه 2024
استعادات
تلعب الحِرَف اليدوية والصناعات التقليدية دورًا هامًّا في تمثيل ثقافة وتقاليد أيّ بلد، أو منطقة، وهي وسيلة مهمّة من أجل الحفاظ على التراث والثقافة والمهارات والمواهب المرتبطة بنمط حياة الناس وتاريخهم.
ولذلك تشتهر مدن فلسطين بهذه الحِرَف التي ينتجها الشعب الفلسطيني، وتحتلّ هذه الصناعات مكانة خاصّة بين فروع الصناعة فيها، عبر حضارات متواصلة. وتعكس أيضًا طابعًا تراثيًّا تحمل منتجاته تعابير وملامح تاريخية ودينية، وتساهم في تنمية الدخل الوطني.
وعلى الرغم من محاولات الاحتلال الإسرائيلي المتكرّرة لطمس معالم التاريخ الفلسطيني، والهوية الفلسطينية، فقد اهتمّ أهل فلسطين عمومًا، وغزّة خصوصًا، بالصناعات اليدوية، واعتمدوا عليها، وحاولوا النهوض بها.




قبل عام 2023، كانت هذه الحِرَف من معالم اقتصاد غزّة، عمل فيها آلاف العمّال، وصُدِّرت منتجاتها إلى أنحاء العالم كافة، وكانت شوارع وحارات القطاع تتزيّن بمحالّ الحرفيين الذين ينتجون مستلزمات الحياة اليومية بتصاميم وأشكال جديدة ومختلفة.
ويشتهر قطاع غزّة بمجموعة من المهن اليدوية، ومنها:
* التطريز والنسيج: يُعد التطريز عنصرًا أساسيًّا في الأزياء التقليدية الفلسطينية منذ مئات السنين، وكانت غزّة مركزًا لإنتاج القماش والحرير الناعم، ومن أعرق المدن في زخرفة النسيج، حتى يُقال إنّ اسم الشاش في بعض المدن الأوروبية يسمّى "غوز"، وإنّ أنواعًا من القماش المصنوع من الحرير، أو الكتّان، يُسمّى "غزون"، نسبة إلى غزّة التي يتركّز نشاط هذه الحِرفة فيها، ثمّ في رام الله، والقدس، وبيت لحم. وهنالك جمعيات تعلّم حِرفة التطريز والأشغال اليدوية في هذه المدينة، كجمعية "يد بيد" التي أُنشئت عام 2010، وضمّت ما يقارب 150 امرأة من ذوات الاحتياجات الخاصّة والكبيرات في السنّ، وقد أجرت هذه الجمعية دورات تدريبية متخصّصة في مجال المشغولات اليدوية، والرسم على الزجاج، والأواني الفخّارية.
* صناعة السجّاد اليدوي: اشتُهرت به منطقة الشجاعية في غزّة، وتعتمد هذه الصناعة على الأصواف المحلّية والمستوردة، وكان يعمل فيها عدد كبير من المصانع التي لم يتبقَ منها قبل الحرب الحالية إلّا مصنعين، وكانت هذه الحِرفة تنتج البُسط والسجّاد الذي يُحاك بواسطة آلة النول التقليدية، وهي تواجه الاندثار منذ سنوات طويلة بعد عمر 300 عام، بعد أن أقلع كثيرون عن اقتناء منتجاتها في ظلّ ارتفاع معدّلات الفقر، وتردّي الأوضاع الاقتصادية. وبعد أن أُغلق القطاع في وجه السيّاح، ولم يعد هنالك زبائن بعد الحصار الطويل الذي تعرّض له، إضافة إلى عدم القدرة على توفير المواد الخام اللازمة.
* صناعة الفخّار والأواني الفخّارية: تُعدّ من أقدم الحِرَف اليدوية في تاريخ الإنسان، ووصلت إلى فلسطين قبل 4000 عام، وتحتلّ غزّة المرتبة الأولى في صناعة الأواني التراثية من الطين الأحمر. وبقي الحرفيون يورثون هذه المهنة لأبنائهم باستمرار حفاظًا عليها من الضياع، ولأنّها مورد رزق وطوق نجاة. وبقيت ثماني من أصل 50 ورشة لصناعة الفخّار هي الإرث المتبقّي منها في القطاع قبل الحرب الحالية الوحشية، وذلك بسبب الحصار، واستمرار انقطاع الكهرباء منذ 2006، وغياب السيّاح، وشحّ الإنتاج، والإقبال المحلّي الضعيف جرّاء تدهور الوضع المعيشي.
* حِرفة التنجيد: وهي قديمة ومخصّصة لصناعة الأرائك والوسائد والمراتب، وما يلزم من فرش متنوّع للمنزل، ولكنّها قاربت على الانتهاء بسبب سياسات الاحتلال التعسّفية، ومنعه من دخول الآلات الجديدة التي يحتاجها الحرفيون كثيرًا بعد تآكل آلاتهم القديمة، إضافة إلى ابتعاد الناس عن شراء هذه المنتجات لغلاء أسعارها وضعف القدرة الشرائية لديهم.
* صناعة الخيزران: مهنة عائلية متوارثة ازدهرت في فترة الانتداب البريطاني، ويعود عمرها إلى أكثر من مئة عام، وهي تتركّز في غزّة. استطاع الحرفيون فيها تحويل المواد الأولية البسيطة إلى تحف فنّية شديدة الإتقان والجمال، ولكنّ تكاليف إنتاجها عالية جدًّا، لأنّ المادّة الخام تُستورد عبر موردين إسرائيليين من الشرق الأقصى. وحسب تصريحات قديمة للعاملين فيها، لم يبقَ إلّا ما يقارب ثمانية أشخاص ما زالوا مصرّين على التمسّك بها كمهنة، وذلك بسبب الحالة الأمنية والسياسية المتأرجحة في القطاع، والتي تمنع الأدوات اللازمة لهذه الصناعة من الدخول إليه.
* صناعة الزجاج: حاول العاملون في هذا المجال التمسّك بالمهنة رغم الأضرار الاقتصادية التي يعانون منها منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، ثمّ بدء الحصار على غزّة عام 2007، وهذا ما أدّى إلى تدهور هذه الحِرفة وانكماشها، وتسريح عدد كبير من عمّالها.
وهنالك أيضًا مهنة "الخواصة"، التي تقوم على صناعة المشغولات اليدوية من سعف النخيل، والتي تمسّك بها بعض الحرفيين للحفاظ على تراثهم القديم.

التطريز الفلسطيني محمي بموجب قوانين اليونيسكو (Getty)


وحِرفة صناعة الصدف القديمة، التي تراجع عدد منشآتها من 311 منشأة إلى 25 خلال الأعوام من 1970 ــ 1998 على التوالي، رغم الاهتمام بالصناعات التقليدية في سنوات ما بعد 1994، حسب تصريح لوزارة السياحة، التي أضافت بأنّ لهذا الأمر ما يبرّره، حيث أصبحت الصناعات اليدوية التقليدية تُسوّق عبر الموردين الإسرائيليين إلى الخارج على أنّها صناعات تراثية إسرائيلية، وهذا ما يؤثّر بشكل سلبي وواضح على هوية هذه الصناعات.




تمّ في غزّة أيضًا تشييد "قرية الفنون والحِرَف"، على طراز وبناء تقليدي من الأقواس والقبب والسقف العالي وفق مقاييس الفنّ الإسلامي، وعلى أيدي مهندس معماري فلسطيني وعمّال فلسطينيين، ونُفّذت باستخدام الطين والمواد المتوفّرة محلّيًّا، وهي تتكوّن من أربعة بيوت أساسية: بيت البُسط ــ بيت النحاس ــ بيت التطريز ــ وبيت الخشبيات، وفيها تُعرض منتجات النول القديم من البُسط والحقائب والوسائد، ومنتجات نحاسية وخشبية، وأجمل الأثواب والمفارش المطرّزة، وهذا المشروع ممّول من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ويهدف إلى حماية التراث الفلسطيني من التدمير واحتضانه والحفاظ عليه، وهذا لم يحدث لأنّ إسرائيل دمّرت هذه القرية عام 2018، ودفنت مقتنياتها تحت الركام، ثمّ دمّرتها خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 2023 من خلال الضربات الجوية والقصف الهمجي على القطاع.
الجدير ذكره أنّ هنالك حِرَفًا تراثية عديدة اندثرت بشكل تامّ في غزّة، وأخرى كانت على وشك الاندثار، وذلك قبل عملية طوفان الأقصى، مثل: الأثاث المصنوع من الخيزران والسجّاد اليدوي والأواني الفخّارية، ومهنة "الخواصة" التي ارتبطت بالفلّاحين، وتعمل فيها النساء غالبًا. وكما أشرنا، هنالك عوامل كثيرة هدّدت المهن التراثية بالانكماش والتراجع، أو بالاختفاء، أهمّها الحصار الإسرائيلي للقطاع، وهو حصار اقتصادي وأمني وعسكري، وإغلاق المعابر، وانقطاع التسويق للضفّة الغربية والخارج، ومنع الاحتلال إدخال المواد الخام اللازمة، إضافة إلى الاعتداءات المتكرّرة والقيود الإسرائيلية على الصادرات والواردات، وارتفاع نسبة البطالة والفقر، ممّا أدّى إلى انخفاض الطلب على المنتجات في السوق المحلّية الغزّاوية، وتراجع النشاط التجاري عمومًا، ومنع السيّاح من الوصول للقطاع، وهم الذين يشكّلون مصدرًا هامًّا لتسويق وشراء هذه المنتجات
كما دمّرت الحروب المتكرّرة على غزّة الثروة الحيوانية والسمكية وقوارب الصيّادين والقطاع الصناعي برمّته، ونسفت المصانع والورش الصغيرة والمؤسّسات، وأوقفت حركة الاستيراد والتجارة والتصدير، وبالتالي دمّرت الحِرَف التراثية اليدوية، وقتلت وهجّرت أعدادًا كبيرة من العاملين والعاملات فيها، هذا إضافة إلى أزمات الكهرباء والمياه المتفاقمة.
وأصبحت فاتورة الحرب الاقتصادية والعسكرية باهظة جدًّا بعد حرب الإبادة المستمرّة منذ عشرة أشهر على غزّة، والتي أثّرت تأثيرًا مدمّرًا على الاقتصاد الفلسطيني بفروعه كافة وسبّبت خسائر بشرية ومالية لا تُحتمل، وأزالت أماكن تجارية وصناعية وحِرَفية عن الخريطة في القطاع بشكل كامل، ودمّرت كلّ مقوّمات الحياة فيه، وجعلت الجميع فقراء مشرّدين. دمّرت 80% من قطاع الزراعة، و90% من قطاع الصناعة، واستباحت البشر وكلّ المحظورات والقوانين الدولية وقواعد الاشتباك والاتفاقيات.
ومن المعروف أنّ المهن والصناعات التقليدية موجودة في عدد كبير من المدن الفلسطينية، وهي متنوّعة وعريقة، ومنها: صناعة الخزف التي يعود تاريخها إلى فترة لا تقلّ عن 400 عام، وتُعد مدينة الخليل المدينة الأولى في إنتاجه، تليها بيت لحم، والبيرة، والقدس، التي بُني فيها أوّل مصنع للخزف. وصناعة الزجاج اليدوي التي تتركّز في مدينتي نابلس والخليل، ونحت خشب الزيتون التي بدأت في القرن الرابع الميلادي في بيت لحم، المدينة الرئيسية التي تنجح في هذا المجال، تليها الضفّة الغربية. هذا إضافة إلى صناعة الصابون التي يرجع تاريخها إلى أكثر من ألف عام، وقد وجدت في نابلس البيئة والظروف المناسبة، وأهمّها وفرة زيت الزيتون. وسعت سلطات الاحتلال لتدمير هذه الصناعة بعد عام 1967، وكانت مستهدفة كغيرها من الصناعات الوطنية، إذ كانت المصابن هدفًا لصواريخ الاحتلال وقذائف مجنزراته في أثناء الانتفاضة.
وهنالك أيضًا صناعة الصدف التي تعود إلى القرن السادس عشر، وكانت تتوزّع مشاغله في بيت لحم وبيت ساحور، وتعرّضت كغيرها لفرض ضرائب ورسوم عالية ولحرب اقتصادية إسرائيلية أدّت إلى إغلاق غالبية مشاغلها. هذا إضافة إلى صناعة القشّ في الضفّة الغربية والشمع والنحاسيات في مدن فلسطينية متعدّدة.
اغتالت إسرائيل كلّ تفاصيل الحياة في غزّة وفلسطين، واختفى النول اليدوي، وخوابي الفخّار، وتحف ومقتنيات الخيزران، وغيرها من الصناعات، واختلطت بدماء صانعيها ومبدعيها ودماء الشهداء تحت ركام الورش والمشاغل والمصانع والمنازل والأحياء. ولكنّ أهل غزّة وفلسطين عمومًا لا يمكن أن ينسوا سجّاد الجدّات اليدوي المزركش، والثياب الفلسطينية الشعبية المطرّزة بالعلم الفلسطيني وقبّة الأقصى وبيارات الليمون وشجر الزيتون، ولا يمكن أن ينسوا البساط القديم في البيوت العتيقة ووسائدها الدافئة، ولسان حالهم يقول: سنرجع يومًا إلى حيّنا... سنرجع.