Print
الجزائر- سارة جقريف

الأفلام الوثائقية التاريخية في الجزائر: خزان لا ينضب

23 يوليه 2024
استعادات


احتفلت الجزائر في الخامس من تموز/ يوليو الجاري بالذكرى الثانية والستين للاستقلال، وقد شهدت الاحتفالات خلال هذا الشهر عرض العديد من الأفلام الوثائقية التاريخية التي أنتجت حديثًا إلى جانب مجموعة من الأفلام الخالدة على رأسها الفيلم الشهير "معركة الجزائر".

وتعتبر الأفلام الوثائقية التاريخية من أكثر الأعمال الفنية إنتاجًا في الجزائر، نظرًا للعدد الكبير من الشخصيات الثورية والبطولات الملحمية التي عاشها الشعب من جهة والمجازر الوحشية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حقه من جهة أخرى، وكلها مواضيع كانت وما زالت تستقطب اهتمام مخرجي ومنتجي الأفلام الوثائقية.

وينتعش هذا الإنتاج ويبرز في المناسبات الوطنية وعلى رأسها ذكرى اندلاع الثورة في الفاتح من تشرين الثاني/ نوفمبر، وبالأخص ذكرى الاستقلال في الخامس من تموز/ يوليو. وقد شهدت احتفالات الذكرى الأخيرة في بداية الشهر الجاري عرض مجموعة متنوعة من الأفلام التاريخية التي تهدف إلى الحفاظ على الذاكرة الجماعية الوطنية، وتستعرض شهادات حية لمجاهدين وأرامل الشهداء، والمؤرخين الذين لا يزالون على قيد الحياة ممن عايشوا فترة الاستعمار الفرنسي وشهدوا سنوات ثورة التحرير الكبرى.

ويمكن القول إن الزخم التاريخي الذي تملكه البلاد، يعتبر أساس تنوع إنتاج الأفلام التاريخية وغزارتها التي توثق للأحداث والبطولات الكبرى وتعرف برموز الثورة من الجزائريين على غرار العربي بن مهيدي وزيغود يوسف ومن غير الجزائريين أمثال فرانز فانون و بيار شولي.

توثيق المجازر، البطولات والمعارك

من بين الأفلام الجديدة التي عرضت في احتفالات الاستقلال الأخيرة، تمكّن الفيلم الوثائقي التاريخي "محرقة غار يحمان بغمراس... شاهد على الجريمة"، للمخرج نبيل آيت شريف، من استقطاب الجمهور خلال عرضه في مدينة بومرداس، وسط الجزائر. ويصور الفيلم لمدة 26 دقيقة، استشهاد 21 جزائريًا عقب مجزرة قام بها جيش الاستعمار الفرنسي داخل مغارة غار يحمان، شرقي مدينة بومرداس، يوم 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1959، وتسبّبت في اختناق المجاهدين بدخان الغازات السامة وبالتفجيرات التي استعملها المحتل لإبادتهم داخلها.

ويؤرّخ الفيلم للتضحيات الجسيمة التي قدّمها الجزائريون في سبيل الاستقلال وما واجهوه من وحشية من قبل الاستعمار الفرنسي، وكيف استغلّ هذا الأخير المخبرين والوشاية في محاولاته للقضاء على الثورة، إذ يعرض الفيلم شهادات مجاهدين تؤكد أن جيش الاحتلال اكتشف المغارة، التي كان يستخدمها المجاهدون كموقع سري عن طريق الوشاية والخيانة. وهو ما جعله يحاصر المغارة من كل النواحي، وبعد فشل محاولات إقناع المجاهدين بالاستسلام، قام بإعدامهم داخلها.  

وخلال نفس الاحتفالات، تم عرض سلسلة أفلام وثائقية في مدينة معسكر، غربي الجزائر، توثق للأحداث التاريخية التي شهدتها المنطقة، منذ المقاومة الشعبية التي قادها الأمير عبد القادر إلى غاية الحركة الوطنية وثورة التحرير الكبرى.

وجاءت السلسلة في أربعة أجزاء، تحت عنوان "أم العساكر مهد الشباب الثائر"، تتضمن شهادات حية لمجاهدين وباحثين أكاديميين عن وحشية الاستعمار، مجازره والمراكز التي استخدمها للتعذيب من جهة والمعارك والبطولات الوطنية والعمليات الفدائية للثوار من جهة أخرى.

وتعتبر هذه السلسلة الوثائقية من أبرز الأعمال التي قدّمت في احتفالات الاستقلال، نظرًا لقيمتها التاريخية واعتبارها بمثابة مرجع للطلاب والباحثين في تاريخ الجزائر، لا سيّما تناولها لمختلف الجوانب التاريخية في المنطقة بما في ذلك الدور الذي لعبته الزوايا في مقاومة الاستعمار وكيف تكفلت المرأة بمداواة ومعالجة المجاهدين في الجبال.

وبمناسبة الاحتفال بذكرى الاستقلال الأخيرة، تم توزيع العديد من الأعمال السمعية البصرية التاريخية على المؤسسات الإعلامية الوطنية والأجنبية من أجل عرضها على الجمهور. وتشمل هذه الأعمال 46 شريطًا وثائقيًا و12 فيلمًا تاريخيًا طويلًا، تؤرّخ كلها لكفاح الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، وتهدف إلى ترسيخ الروح الوطنية والانتماء لدى شباب اليوم، بانتظار الشروع في إنجاز سلسلة أفلام جديدة تحضيرًا للذكرى السبعين لعيد الثورة التحريرية في الفاتح من تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.

تابع الجمهور باهتمام واسع مجريات تصوير حال الفيلم الروائي الطويل "زيغود يوسف" الذي تناول مسار هذا الشهيد البطل وتقدّم إخراجه عبر وسائل الإعلام


أفلام قادة الثورة... الأقوى

ورغم الزخم الكبير في الأفلام التاريخية الجزائرية، تبقى الأفلام التي تتناول حياة قادة الثورة الأكثر حضورًا وإثارة للجدل، وهي حال الفيلم الروائي الطويل "زيغود يوسف" الذي تناول مسار هذا الشهيد البطل، صور حياته وكفاحه منذ انخراطه في الحركة الوطنية وانضمامه إلى المنظمة السرية. وهو الفيلم الذي تابع الجمهور باهتمام واسع مجريات تصويره وتقدّم إخراجه عبر وسائل الإعلام، إلى غاية الإعلان عن الانتهاء من تصويره وجاهزيته للعرض.

من جهة أخرى، حظي الفيلم التاريخي الطويل "بن مهيدي" الذي عرض مؤخرًا، باهتمام واسع من قبل الجمهور نظرًا لمكانة البطل الشهيد العربي ين مهيدي في ذاكرة الجزائريين، والمسار الحافل لهذا المناضل الذي كان أحد مفجّري ثورة التحرير الكبرى. ويصوّر الفيلم حياة العربي بن مهيدي منذ طفولته إلى غاية استشهاده، مع التركيز على الجانب الإنساني والتعريف بمساره التعليمي وأسباب التحاقه بالثورة والجانب السياسي فيها. ومن المنتظر أن تبدأ سلسلة عروض عالمية للفيلم بداية من شهر تشرين الأول/ أكتوبر القادم.

وبنفس القدر من الاهتمام، تابع الجمهور إنتاج الفيلم التاريخي الذي يصور حياة ونضال محمد بلوزداد، واحد من الشخصيات التي مهّدت لانطلاق الثورة الجزائرية.  ويروي الفيلم مسار المناضل الوطني محمد بلوزداد، أو كما يعرف الأب المؤسس للتيار الثوري الاستقلالي في الحركة الوطنية، والمسؤول الأول للمنظمة العسكرية السرية التي كانت تهدف إلى العمل المسلح من أجل مقاومة الاستعمار وتحقيق الاستقلال. يُذكر أن الفيلم الذي بدأ تصويره في شباط/ فبراير من السنة الماضية، أصبح أخيرًا جاهزًا للعرض.

في المقابل، ما زال الجمهور ينتظر الانتهاء من إنتاج الفيلم التاريخي الطويل حول الشهيد العقيد أحمد بوقرة، قائد المنطقة العسكرية الرابعة خلال الثورة التحريرية، والذي انطلق نهاية سنة 2022، إلى جانب الفيلم التاريخي حول الشهيد أحمد بن عبد الرزاق حمودة المعروف باسم سي الحواس، تحت عنوان "حامي الصحراء"، ويصوّر حياة الشهيد وبطولاته ضد الاحتلال الفرنسي ومنعه من التقدم في منطقة الصحراء.

قائمة طويلة ومتنوعة

وتبقى قائمة الأفلام التاريخية الجزائرية طويلة ومتنوعة، تصوّر في مختلف ربوع البلاد وتؤرخ لعشرات الأحداث والبطولات، على غرار تلك التي شهدتها المناطق الشرقية من الوطن، ونشير هنا بشكل خاص إلى العرض الشرفي الأول الشهر المنصرم، للفيلم التاريخي "الساقية"، باعتباره أول فيلم ثلاثي الأبعاد، صوّر على مدار 70 دقيقة، الأحداث التاريخية المشتركة بين تونس والجزائر في مدينة ساقية سيدي يوسف التونسية الواقعة مع الحدود الجزائرية. ويُعتبر الفيلم تجسيدًا وتوثيقًا للملحمة الثورية التي شهدتها منطقة الحدود الشرقية بين الجزائر وتونس في الثامن من شباط/ فبراير سنة 1958، والتي راح ضحيتها عشرات الشهداء الجزائريين والتونسيين.

ويظهر مما سبق التنوّع في مواضيع الأفلام التاريخية الجزائرية، التي تناولت توثيق المجازر، وتصوير مسارات نضال قادة الثورة وتجسيد الأحداث الواقعة على الحدود، ولكن تناولت أيضًا سير وحياة المناضلين من غير الجزائريين الداعمين للقضية الجزائرية وأصدقاء الثورة، وهنا نشير إلى الفيلم التاريخي "فرانز فانون" للمخرج الجزائري عبد النور زحزاح، الذي يتناول حياة ونضال الطبيب النفسي فرانز فانون صديق الثورة، وعرض بداية السنة الجارية في مهرجان برلين السينمائي الدولي، بالإضافة إلى عرض الفيلم الوثائقي "المواطن بيار شولي" للمخرج سعيد مهداوي، الذي أُنتج حديثًا حول حياة ونضال بيار شولي الذي كرس حياته للجزائر ولقب بطبيب الثورة.

هذا الإنتاج المتنوع من الأفلام التاريخية ما هو إلا نتيجة للخزان الكبير من الأحداث التاريخية والشخصيات الثورية الكبيرة لبلد المليون ونصف المليون شهيد، ما يوفر للمهتمين بإنتاج الوثائقيات التاريخية في الجزائر الكثير من الخيارات والفرص للإبداع والتنويع. ويُذكر أن الثورة الجزائرية ونضال الشعب الجزائري، لطالما كانا في قلب الإنتاج السينمائي ونجحت أفلامه التاريخية في الانتشار، وعلى رأسها فيلم "معركة الجزائر". إذ لا يمكن الحديث عن الأفلام التاريخية الجزائرية دون الإشارة إليه، وهو الفيلم الذي ما زال مؤثرًا إلى غاية اليوم، حيث عرض الفيلم خلال الاحتجاجات التي عرفتها الجامعات الأميركية لدعم فلسطين، وإبراز مشاهد من "معركة الجزائر" للتذكير بصبر الشعب الجزائري أمام الاستعمار الفرنسي، ومقارنته بمعاناة سكان غزة من وحشية إسرائيل. وهي صورة تلخّص قوة الأفلام التاريخية في التوثيق والحفاظ على ذاكرة الشعوب.