Print
دارين حوماني

ڨيتوريو أريغوني: غيرنيكا المستمرّة في غزة

23 يوليه 2024
استعادات


لا تشبه يوميات المناضل الإيطالي فيتوريو أريغوني تلك السير الذاتية التي يخطّها أدباء ومفكّرون حول العالم، ففي يوميّاته رسائل إنسانية عاجلة إلى عالم غلبه الصمت أو فضّل الصمت. يوميّاته التي كان يوقعّها لجريدة "إل مانفيستو" الإيطالية وفي مدوّنته Guerilla Radio تحت شعار "حافظوا على إنسانيّتكم" قال عنها إنها أفضل دعوة للتسريع في كفّ يد لجنة الأعمال الإجرامية الإسرائيلية... يوميات "ملطّخة بالدماء ومشبعة بالفوسفور الأبيض وحادّة بحدّة شظايا القنبلة"، ولكن ماذا لو بقي أريغوني على قيد الحياة ولم تغدر به تلك المجموعة السلفية التكفيرية عام 2011؟ ماذا لو بقي على قيد الحياة وشاهد غزة الآن، هل كان سيقف على سطح الكوكب صارخًا: "أين إنسانيّتكم؟" كعنوان آخر لكتابه... أتخيّله أمام عشرات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين، جثث بأحجام مختلفة، جثث محترقة وأخرى مرّت آلة المحو عليها فلم يبقَ منها سوى رأس، أو قدم، أو يد، أجزاء من شيء كان اسمه ذات يوم "جسد" تراكم فيه الظلم والحزن إلى أقصاه.  

"غيرنيكا في غزة" هو أحد عناوين يوميات المناضل الإيطالي فيتوريو أريغوني في كتابه "غزة، حافظوا على إنسانيتكم" الذي صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2012، وترجمته من الإيطالية إلى الإنكليزية دانييلا فيليبين، وترجمه عن الإنكليزيّة مالك ونوس، مع تصدير للمؤرّخ إيلان بابيه. إذًا الكتاب ليس بجديد، ولكن الحديث عن كتاب صدر قديمًا ولا يزال يمثّل الحاضر وربما المستقبل هو كتاب حديث دائمًا، فاليوميات هي نفسها، منذ ما قبل صدور الكتاب وبعده، منذ عام 1948 وربما عام 1936، إنها يوميات النكبة الفلسطينية المزمنة، وهو بهذا المعنى من الكتب الحيّة التي لا تموت.

في مكان يتكّئ المنزل على منزل وبناء يتكئ على بناء، تُسقط إسرائيل قنابلها الفوسفورية، وهي تعلم أنها تذبح العشرات مع كل قنبلة، واليوم وغدًا هو يوم حداد، وجثث تأتي إلى المستشفيات ليس بسيارات الإسعاف، بل بعربات خشبية، و"جثث لا تأكل، هي فقط تؤمّن السماد العضوي للتربة" نتيجة تفسّخ الجثث، يكتب فيتوريو عن ذلك: "إسرائيل غير مدركة حجم الكراهية التي جلبتها لنفسها في فلسطين وبقية العالم". لكن فيتوريو يقرّر أنه لن يرحل، فما يلزم برأيه هو تقديم رواية شاهد عيان للجرائم الإسرائيلية بحق مدنيين مجرّدين من السلاح، وهو يقول أيضًا إنه لن يرحل بسبب مناشدة الجرحى الفلسطينيين بأن لا يتخلى عنهم، وكذلك يناشده القتلى الذين يحتشدون حوله كالأشباح في الليالي. ثم يتساءل عند ولادة أحد الأطفال "تلك الأمهات الشجاعات اللواتي ولدنَ بحزن مخلوقات لم تشاهد شيئًا في محيطها سوى اللون الأخضر للدبابات وعربات الجيب العسكرية، أو الومضات السريعة التي تسبق الانفجار. أي نوع من البالغين سيكونه هؤلاء الأطفال عندما يكبرون؟".

"على أحد ما أن يوقف هذه المذبحة"، ينادي فيتوريو، ولا يلقى غير الصمت، مشبّهًا ما يحصل بنكبة عام 1948 وهو يشاهد أطفالًا على عربة خشبية يحملون أعلامًا بيضاء ووجوهًا مرتعبة وشاحبة تحت طائرات لا ترحم، ثم أوقعت إسرائيل أطفالًا في فخ، فحاصرتهم في مدرسة وسحقتهم بقنابلها القوية، قنابل حرّمتها معاهدة جنيف الدولية، يقول عن ذلك "كانت الرعشات تنتابني وتصل إلى أسفل عمودي الفقري... تتحمّل الدول والحكومات الجبانة وغير المبالية والتي تدّعي الديمقراطية المسؤولية الكاملة عن المأساة الجديدة، إنها نكبة جديدة، نوع جديد من التطهير العرقي الذي يلحق الفلسطينيين". ولكن، ألا تنطبق عبارة فيتوريو على الزمن الغزّاوي والفلسطيني كله الآن ومنذ عام 1948؟!

إذًا، هو العالم الذي يدّعي الديمقراطية الذي يجعلنا نفقد الإيمان بكل القيم، لا بل بكل بلاد التنوير والحريات الإنسانية والحقوق الفردية التي قدّمت تبريرات مقلقة لكراهية الفلسطيني... ألا تتمثل حرية البحث في فلسفة التنوير في عبارة ليسينغ "لو وضعوا الحقيقة في يميني والبحث عن الحقيقة في يساري لاخترت يساري"، ألا يجدر بشعوب تلك البلاد "الإنسانية" أن تبحث عن حقيقة ما يجري... يقول فيتوريو بأن الضحية الأولى لأي حرب هي الحقيقة، واضعًا عبارة وسط كتابه "أريد الحقيقة لأعوّض لهؤلاء الموتى"...  

فيتوريو يقرّر أنه لن يرحل، فما يلزم برأيه هو تقديم رواية شاهد عيان للجرائم الإسرائيلية بحق مدنيين مجرّدين من السلاح


يلخّص فيتوريو المشهديّات الغزّاوية "لم يكن بإمكان الشاعر دانتي أليغري تخيّل دوائر جهنمية كتلك التي تحدث في ردهات مشافي جباليا، وكأنها حلّت عليها لعنة ما. كما أن قوانين العدالة الإلهية قد أشاحت بوجهها عن هذا المكان بحيث أنه بقدر ما تكون الضحية بريئة تقلّ فرص تجنّب استشهادها عن طريق القصف"، ويقول "الجنود الذين يحملون نجمة داوود يبدون مرتاحين للأدوار التي يؤدّونها"... هذا تلخيص لما حصل أمام فيتوريو وما يحصل حاليًا، حيث سيسحب دانتي مؤلّفه من التاريخ الأدبي عن الشاطئ المظلم ومدينة العذاب والألم الأبدي، أمام مدينة مظلمة اسمها غزة وأمام غضب الجثث ومحو أجزاء منها، ومن جرحى آخرين تم محو أطرافهم، ينادون العناية الإلهية التي لا تجيب، بل يلقون صدى أصوات جنود يسمّيهم فيتوريو "النازيون الجدد" الذين يشعرون بالفخر من كمية القتل، والوحشية التي يرتكبونها.

الموت يغمر غزة... قد تكون هذه الكلمات الأكثر تعبيرًا عن القصص التي يوردها فيتوريو في كتابه، وحيث "يتعلم الفلسطينيون الأحياء من موتاهم، فمنذ نعومة أظفارهم يتعلمون أن يعيشوا الوقت الذي يموتون فيه"... وأما الهدنات، فهي "هدنات الموت" يحصي فيها الفلسطينيون موتاهم بين مذبحة وأخرى، هدنات مرعبة، "كان الموت هنا وقد ذهب تاركًا آثار أقدامه"، يقول فيتوريو.

لا يترك فيتوريو تفصيلًا حزينًا إلا ويذكره، كأنه يشتغل مؤرّخًا لغزة، يصير الكتاب وثيقة تاريخية عن زمن حيّ... ليست الجثث والأجساد المبتورة وحدها التي تتكلم في كتابه، أيضًا تلك الأشجار المعمّرة تتكلم، تلك التي أزالتها إسرائيل وتريد محوها كما محو البشر ومعالم المدينة... تتكلم أيضًا ممتلكات تلك البيوت التي سرقها الجنود الإسرائيليون بعد توغلّهم بغزة، من مجوهرات ومدّخرات... الحظر على الصيد وعلى إدخال كل أنواع المساعدات، وقنص الصيادين والمزارعين الذين يعملون في حقولهم على طول الحدود، وتعرّف على الجثث من خلال أيديهم أو أصابعهم فقط... وثمة تفصيل حزين آخر، عن لعبة جديدة يلعبها الأطفال الفلسطينيون، حيث يتسلّون بإعادة إيقاد النار، وبكل بساطة، عن طريق ركل الفوسفور الأبيض السريع الاشتعال المتناثر على طول غزة وعرضها، فهذا الفوسفور المتناثر من مخلّفات القنابل الإسرائيلية يبقى قابلًا للاشتعال في حال تعرضّه للاهتزاز. يقول فيتوريو عن كل ذلك: "لقد تبيّن أن هؤلاء الناس هم أكثر الناس وضوحًا قابلتهم في حياتي"، وحيث أن ما يراه أحدهم أكثر بكثير مما يمكن أن يُتاح لأحد في مثل سنّهم أن يراه، فقد كان حظهم أنهم ولدوا "في هذا القطاع المعذّب من الأرض".

يشبّه فيتوريو الحديث الإعلامي الإسرائيلي والعالمي عن التزام الجيش الإسرائيلي بالمعايير الأخلاقية الدولية في الحرب على غزة بعبارة من فيلم "القيامة الآن" لفرانسيس كوبولا يقولها الكولونيل كيرتير: "درّبنا الفتيان على كيفية إلقاء النار على الناس، لكن قادتهم لن يسمحوا لهم بكتابة Fuck على طائراتهم لأنها كلمات بذيئة"، فالإسرائيلي أخلاقي لكن لا مانع من القتل... كما أن ما تقوله إسرائيل عن قتلها للأطفال هو "أخطاء استخباراتية وإجرائية"، علمًا أن فيديوات كثيرة مسرّبة لجنود إسرائيليين يضحكون وهم يستعدّون لقصف مدرسة في غزة محتشدة بالأطفال اللاجئين.

يُنهي فيتوريو يومياته بإعادة صياغة لأحد خطابات الرئيس الأميركي جون كينيدي عن العالم الحرّ والعالم الشيوعي، ولكن فيتوريو يورد هذه الصياغة على لسان المدوّنة الإيطالية ميلينا سبيغاجليا، إذ يقول:

"هناك العديد من الناس حول العالم ممن لا يستطيعون فهم، أو يدّعون أنهم لا يفهمون ما هي المشكلة بين فلسطين وإسرائيل، فليجيئوا إلى غزة. البعض يقولون إن إسرائيل هي قوة المستقبل، فليجيئوا إلى غزة، يدّعي آخرون في أوروبا وفي أماكن أخرى، أنه يمكننا أن نتعاون مع الإسرائيليين، فليجيئوا إلى غزة، حتى إنه يوجد القيليلون ممن يقولون: صحيح إن إسرائيل هي شرّ، لكنها تسمح بتحقيق تقدّم اقتصادي، فليجيئوا إلى غزة".

لا شك في أن هذه الكلمات، لا بل يومياته كلها، هي رسالة إلى العالم من تحت طبقات الموت في غزة التي تنتصب "مثل علامة على العار"... العار الدولي والعالمي... فما يؤلم فيتوريو هو ما يؤلمنا، وهو يردّد مرارًا عن عدم احتجاج الدول الأوروبية والأميركية على "الحصار المفروض لتنفيذ الإبادة الجماعية"، لا بل إن هذه الحكومات على استعداد لأن تسبغ الشرعية على المذابح التي تحصل في غزة، ويقول بأن "غزة هي كتابة عن الإنسانية التي لا تريد أن تغرب شمسها في صمت وعار هؤلاء الذين للتوّ تركوا أنفسهم تنحدر نحو الانقراض، وإن اختيار البقاء صامتًا بعني بطريقة أو بأخرى تقديم الدعم للذين يقومون بالإبادة الجماعية". وليس من شك في أن صوت فيتوريو الذي يوجهّه إلى الغرب هو صوت لعالم عربي صامت في معظمه، وبعضه متكاتف مع فعل الإبادة، وقد تركوا إنسانيتهم تنحدر نحو الانقراض...