Print
أحمد طمليه

محمد كامل القليوبي: قدم السينما كما يجب أن تكون

5 يوليه 2024
استعادات
يستحق المخرج المصري محمد كامل القليوبي (1943 ــ 2017) التنويه والكتابة عنه، فهو من المخرجين القلائل الذين راعوا في أفلامهم القيمة، وما يريده الجمهور، على نحو لا يوقعهم في الإسفاف. فعلى الرغم من شيوع الأفلام التجارية السهلة في زمنه، التي لا يحتاج إنتاجها إلى أكثر من علاقات عامة، ونزهة تصوير في شرم الشيخ على سبيل المثال، إلا أن القليوبي قدم أفلامًا ليست سهلة، فهي أفلام تقرأ على أكثر من وجه لتستدل على مدلولاتها، وهو لا يحيد عن ذلك حتى وإن ضاق الخناق عليه، وتضاءلت الفرص أو انعدمت أمامه، إذ يقول "ما يهمني هو أن أؤدي عملي بإتقان وإخلاص، وأن أعتني بكل التفاصيل التي ينبغي على المخرج الجاد الاهتمام بها، وبعد ذلك تكون النتائج بحسب الجهد".
ما ميزه أنه تعامل مع السينما على النحو الذي يجب أن تكون عليه، فالفيلم السينمائي ليس مجرد حكاية تنتهي بمجرد انتهاء الفيلم، بل الفيلم حالة يجب أن تزخر بالإيحاء والدلالات.
في فيلمه "البحر بيضحك ليه"، خاطر القليوبي في تقديم فكرة فلسفية بحتة تحكي عن عزلة ووحدة الإنسان في محيطه، وبحثه عن الخلاص الذي لا يجده إلا بالحرية. الفكرة فلسفية، ومع ذلك فقد غامر القليوبي في تقديمها ليس للنخبة، بل للجمهور عامة. وكان قادرًا على حل إشكالية العرض والطلب التي تسيطر على السينما المصرية فتأتي الأفلام حسب ما يريده الجمهور. إذ تجده قد قدم للجمهور ما يريده هو، وينال في المقابل احترام هذا الجمهور.
في تجربته الأخيرة مع فيلم "خريف آدم"، تبدو المعضلة أمام القليوبي كبيرة، ففكرته هنا بلا بهارات، كما في أفلامه السابقة، كاعتماده على الكوميديا والمفارقات الاجتماعية، فهو في هذا الفيلم يتحدث عن الثأر في صعيد مصر، بكل ما يكتنف هذا الموضوع من جدية ورتابة.
فكرة الفيلم المأخوذة عن قصة للكاتب محمد البساطي تحكي عن أهالي قرية صعيدية توقفت حياتهم عمليًا إثر عملية قتل، والكل بالتالي ينتظر الثأر. القصة صامتة بلا حوار، بل إن أبطاله (هشام عبد الحميد، سوسن بدر، حسن حسني، جيهان فاضل، سعاد نصر) لم يتحدثوا سوى كلمات قليلة، وبقي التعبير للكاميرا التي راحت تصول وتجول في أرجاء القرية راصدة الأمكنة وتعابير الوجوه. ونجح القليوبي في إضفاء الحياة على الفيلم رغم الصمت البليغ. الفيلم فاز بجائزة مهرجان القاهرة السينمائي لعام 2003، وسبع جوائز في المهرجان القومي للسينما، وهو رقم قياسي لم يبلغه فيلم سينمائي مصري من قبل. كما فاز في مهرجان مسقط السينمائي الدولي.
ليست مجرد قصة "ثأر" تلك التي طرحها المخرج محمد كامل القليوبي في فيلمه "خريف آدم"، بل هي تداعيات الثأر، وتداعيات الموروث الذي نتوارثه ونلتزم بحذافيره، حتى لو جاءت معطيات الأمر الواقع على عكس ما تقتضيه تلك المحاذير، فالعين لا يمكن أن نقايضها دائمًا بالعين، خاصة إذا الحال تغيرت، والظرف اختلف، والحرب باتت تدق كل الأبواب، فالهم هنا لا يمكن أن يواصل انحساره بأنين الذات، إذ ثمة انصهار، وثمة غليان، وعلى الجميع أن يزيح "البلاطة" التي تضغط على سقف أفقه كي ينخرط في الهم العام.




تدور أحداث الفيلم في الفترة من 1940 الى 1967، ويحكي قصة رجل صعيدي (هشام عبد الحميد) اسمه آدم، يموت ابنه الوحيد قتلًا في يوم زفافه بسبب الثأر في الصعيد، فيقرر الانتقام لمقتل ابنه، ويبحث عن القاتل ويتعرف عليه، ويبدأ بالتقرب لابنه ويقوم برعايته، بل وينقذه من مشاكل عدة يقع فيها حتى يوم زفافه، حيث يقرر أن يقتله بظروف مشابهة لمقتل ابنه.
قرية صعيدية نائية يلفها الحزن، وموسيقى تشيع أفراح أهل القرية صباح مساء، وآدم قابض على جرحه متطلعًا لليوم الذي يصبح فيه ابن قاتل ابنه شابًا بعمر ابنه الفقيد. القصة تبدو مكررة في السينما، غير أن القليوبي أضفى عليها جديدًا، حين نزع عنها قصة الثأر، وجعلها قصة قلب (قلب آدم) الذي يراوح ما بين واجب الثأر، وما بين ما أصبحت عليه حال الأمة.
نرى في المشهد الأخير آدم وقد قص شعره وارتدى هندامًا أبيض نظيفًا، ووضع بندقيته على كتفه وخرج لأخذ الثأر ليلة زفاف غريمه، فيما زوجته تشيعه بنظرات التوفيق. نرى آدم وقد وضع إصبعه على الزناد، وصوب فوهة البندقية نحو قلب شاب يعبق بالحياة، شاب يرقص في فناء بيته فرحًا بعروسه التي تتزين بثوبها الأبيض في الغرفة المجاورة، وأصابع آدم مرتجفة على الزناد، فالضحية قد آن قطافها الآن، بعد أن غدت متوردة، تمامًا كما سقط ابن آدم قبل عشرين عامًا في ليلة عرسه مضرجًا بدمائه نتيجة طلقة عابرة من سلسلة طلقات تبادلتها بنادق عتيقة في أيدي رجال أوحت لهم تجاربهم أنه بمقدورهم مقايضة ماء وجههم بدماء بريئة تلبية لثأر لا يفضي إلى عزاء، لتستمر الطلقات وتغلق بيوت العزاء، ويرتدي الجميع ثيابهم السوداء حدادًا على من فقدوهم، أو حدادًا على من سيقتلونهم.
أصابع آدم المرتجفة على الزناد والصور تتوالى في مخيلته منذ أن كان شابًا حين زف فلذة كبده فسقط بعد لحظات صريعًا بين يديه برصاصة أخمدت الزغرودة في فم أمه، وانقلب الفرح إلى ترح، فقرر آدم أن يفجر رصاصته في قلب غريمه، والغريم طفل يحبو خطواته الأولى، وعلى آدم أن ينتظره عشرين عامًا حتى يكبر وينضج، وتحين فرصة قتله.
أثناء سنوات الانتظار، تحدث أحداث تقيم الدنيا ولا تقعدها، بدءًا بنكبة 1948، وثم تأميم قناة السويس، ثم العدوان الثلاثي على مصر، ثم نكسة حزيران/ يونيو 1967. أحداث مفصلية تمر وآدم يراقب الفتى حتى يشتد عوده، يرعاه ويحميه ليكون قتيلًا لائقًا عند الوقت المناسب.
لقد أراد القليوبي في توظيفه للأحداث الكبار التي أصابت الوطن العربي خلال العشرين سنة، والتي يتحدث عنها الفيلم، الإشارة إلى أن هنالك أحداثًا ومصائب تستدعي الانتباه أكثر من الاهتمام بثأر شخصي، وإذا كان لا بد من الثأر فليكن ثأرًا للأوطان التي اغتصبت، وللشباب بعمر الورد الذين ذهبوا إلى الجبهة وعادوا في الأكفان. الفيلم يناقش العقلية المتزمتة في صعيد مصر، إذ يرى القليوبي في هذا السياق أن فيلمه يذهب أبعد من قضية الثأر، فالمقصود من تناول موضوعة الثأر هو مناقشة مواقف الدول العربية، عن طريق إظهار العقليات الماضوية، شارحًا أن تناوله للثأر الشخصي هو سعي للقول إن هنالك من يهتم بالمفهوم الضيق للثأر، ويتناساه في أبعاده الواسعة المتمثلة في الثأر لأوطان مغتصبة. ويوجه القليوبي خطابه إلى المتغافلين ليقول لهم "إن الأوطان محتلة، وعلينا أن نكون مدركين لما يجري حولنا وإلا تحولنا إلى ضحايا لا كرامة لهم".
فيلم "خريف آدم" اقتفاء دقيق لأثر ثأر دام عشرين عامًا، فتغيرت الحال والأحوال، وحين هم آدم بالضغط على الزناد سبقته دموعه أسفًا على موروث يدفعه نحو استباحة دم بريء، فيما الجناة الحقيقيون يعيثون الفساد في أرجاء البلاد.
قدم القليوبي خمسة أفلام روائية فقط، وهي: ثلاثة على الطريق/ أحلام مسروقة/ اتفرج يا سلام، إضافة إلى فيلميه المشار إليهما في المقال. وعلى الرغم من قلة أفلامه الروائية الطويلة، إلا أنه اشتغل على كثير من الأفلام الوثائقية الهامة. وهو أستاذ دكتور في علم السينما وكان يشغل قبل وفاته منصب رئيس المجلس القومي للسينما في مصر.