Print
مناهل السهوي

عن المكتبات في الرواية: مكان غامض وساحر

25 أغسطس 2024
استعادات
المكتبةُ مكانٌ يحتوي على كل ما نتمنى معرفته، تجربته أو تخيّله، تلّهمنا لمجردِ المشي داخلها، وأعتقدُ أننا في كثيرٍ من الأحيان نحبّ أنفسنا أكثر داخل المكتبة، حتى تغدو جزءًا من رحلتنا وكأنَّ المكتبة الخارجية تنتقل إلى الداخل ليحمل القارئ مكتبة أخرى داخله، قال عنها خورخي لويس بورخيس: "تخيلتُ أن الفردوس سيكون نوعًا من المكتبة"، أمّا ألبير كامو فقال: "لا يمكنني العيش بدون كتب، إذا كان لي أن أعيش في جزيرة مهجورة وأُعطيتُ خيارًا واحدًا، فسأختار المكتبة".

لا شيء يخيفُ المكتبةَ كالنسيان

المكتبةُ هي المكانُ الغامضُ حيث يكمن سحْرُها في هدوءِ الكتبِ على الرفوف، وآلاف الاحتمالاتِ من القصصِ والشخصيات والأماكن. في رواية "ظلّ الريح" للكاتب الإسباني كارلوس زافون، وهي جزء من سلسلة "مقبرة الكتب المنسية"، يأخذ الأبُّ ابنه دانييل، طفل صغير، إلى "مقبرة الكتب المنسية"، وهو مكان سريّ يحوي مجموعة هائلة من الكتب المنسية ليختار دانييل كتابًا بعنوان "ظل الريح" لمؤلف غير معروف يُدعى خوليان كاراكس.
يكمن سحرُ هذه الرواية في فكرة "مقبرة الكتب المنسية"، لا يخيف المكتبة شيء كالنسيان، ولكن على عكس المقابر الأخرى، مجردُ إمساك كتابٍ هنا سيعيده إلى الحياة، فيصبح القارئ قادرًا على إحياء الحكايا، الكتاب ثم المكتبة.



يبحثُ دانييل عن مؤلفات أخرى لكاراكس لكنه لا يجدُ أيًّا منها ويكتشفُ أن هناك شخصًا مجهولًا يدمّر أي نسخة تخصُّ المؤلف، يتعمق دانييل في ماضي كاراكس الغامض ليكتشف سلسلة من الأسرار. المثير في الرواية التي يختارها دانييل أنها تبدو نسخة من حياته هو نفسه، وكأنَّ شخصًا يقرأ رواية عن نفسه بدون أن يدري، إذًا فالمصائر متشابهة أكثر مما نتوقع وتكاد تكون نفسها لولا الاختيارات التي نتخذها على طول حياتنا.
هناك مكتبة أخرى، وهي مكان عمل دانييل ووالده، لكنها تختلف عن مقبرة الكتب المنسية التي تبدو كمصيرٍ غامض لكلّ من يدخلها وقد تقلب حياته كما حدث مع دانييل الطفل. مكتبة دانييل ووالده هي مكتبة تنتظر القرّاء أيضًا لكن ليس ليحيوا كتبها بل ليدخِلوا القليل من المال إلى جيوب أصحابها، أولئك الذين يعقدون آمالهم في العيش على بيع الكتب.
يقول زافون في "ظلّ الريح": "كلّ كتابٍ، كلّ مجلد تراه هنا، له روح، روح الشخص الذي كتبه وأرواح الذين قرأوه وعاشوا وحلموا به، في كلّ مرة يغير فيها الكتاب يديه، في كلّ مرة تنزلق عيون جديدة على صفحاته، تنمو روحه ويقوى".

المكتبات مفتاح لفكّ التاريخ والجرائم

أنشأ أجدادنا مكاتب إبلا ومكتبة آشوربانيبال منذ آلاف السنين والتي احتوت ألواحًا طينية حملت المعرفة وحقائق تلك العصور، تحولتْ المكتباتُ مع الزمن إلى أماكن للمعرفةِ والخبرةِ والغموضِ وحتى الاقتتال في الحروب وكأنَّها، مثل قصصها، تعيش حكايات معقدة مع المكان والزمن والأشخاص.




المكتبةُ هي المكان وهي حياة البلدانِ لذلك كانت أولى الأماكن المستهدفة عند الحروب والاحتلالات، وربما مكتبة الإسكندرية هي واحدة من أكثر المكاتب التي تعرضت إلى التخريب، فقد تأسست في القرن الثالث قبل الميلاد، تعرضت لأضرار متعددة على مر الزمن، وتتضارب الحكايات حول مدمرها وأولهم كان يوليوس قيصر سنة 48 ق. م وكان فيها آنذاك 500 ألف كتاب.
تبدّل دور المكتبات عبر التاريخ، في البداية كانت لحفظ المعرفة. في العصور الوسطى في أوروبا كانت المكتبات تابعة ومرتبطة بشكل أساسي بالكنائس والأديرة وركّزتْ على النصوص الدينية والفلسفية.
لكن دور المكتبة في الروايات بات أكثر تعقيدًا واشتباكًا مع معتقدات الإنسان، مخاوفه وأحلامه، وإذا كانت المكتبةُ بدايةً لتحديد مصير الشخصيات في رواية "ظل الريح" تذهب إلى أبعد من هذا في رواية "اسم الوردة" للإيطالي أمبرتو إيكو، وتدور أحداث الرواية في دير بنيديكتيني في العصور الوسطى حيث يحقق الراهب ويليام في سلسلة من جرائم القتل. المكتبة السريّة في الدير تلعب دورًا مهمًا في هذه الجرائم، حيث تحتوي على كتب محظورة ومخطوطات نادرة، كما أن المكتبة مصممة بشكل معقد بحيث يصعب الوصول إلى بعض أجزائها، ما أضافَ عنصرًا من الغموضِ والإثارةِ إلى الرواية.
يقول إيكو في الرواية: "من عرف كيف يدخل هذه المكتبة سيدرك أنه لا يعرف شيئًا. فقط أولئك الذين عبروا هذه المتاهة كانوا قادرين على معرفة الحقيقة."

المكتبة والدور التحويلي
 
تلعب المكتبة دورًا محوريًا ومعقدًا في تطوّر الأحداث والرمزية في رواية "كافكا على الشاطئ" للروائي الياباني هاروكي موراكامي، إذ يتقاطع مصير الشخصيات في مكتبة كومورا التذكارية، فتتحول ملاذًا لكافكا تامورا، الفتى الهارب من منزله ليبحث عن هويته ومعنى حياته، يمضي الفتى ساعات طويلة في المكتبة بين الكتب، التي توفر له وسيلة للهرب من واقعه وفرصة لاكتشاف أشياء جديدة عن العالم وعن نفسه، كما أنّ المكتبة هي مكان للغموض وللأحداث الغريبة، فيتداخل الزمن والواقع في المكتبة.
هذا الغموض يثير أسئلة حول مصدره، هل هي الكتب أم التفاعل بين القارئ والكتب، فكل قراءة لكتاب هي فرصة لتحريرِ السحرِ ولتداخل الواقع والخيال في عقل القارئ فكيفَ إذ كان صبيًا يبحث عن هويته!



يمكن القولُ إن المكتبات في الرواية كان لها دورٌ تحويليّ، ناقل وحاسمٌ ومغيّر في هويّة الشخصيات وتوجهاتهم، في "مكتبة منتصف الليل" للكاتب والصحافي الإنكليزي مات هيغ تجد نورا نفسها في مكتبةٍ غامضةٍ بعد محاولة انتحار، وبدل أن تموت تجد نفسها في مكتبة منتصف الليل وهي مكتبة سحريّة تقع بين الحياة والموت حيث تمتلك الفرصة لاستكشاف العديد من السيناريوهات البديلة لحياتها، فيما لو كانت خياراتها مختلفة، ليغدو كلّ كتاب في المكتبة حياة بديلة، وتتمكن نورا من عيش تلك الحياة حتى تقرر ما إذا كانت تريد البقاء فيها أو العودة إلى المكتبة وتجربة حياة أخرى.
لا تدورُ فكرةُ الرواية عن المكتبةِ كطريقةٍ للنجاة من الانتحار بل بالأحرى عن الاحتمالات التي تحملها الحياةُ ومدى ارتباطها بقراراتنا، احتمالاتٌ ستأتي منّا نحن ومن خياراتنا، إذ أن أي تصرف مختلف في الحكاية سيغيرها.
وبين مكتبةٍ وأخرى، وحكايةٍ وأخرى، يستمرُّ البحث الإنسانيّ عن المعرفة ويزداد حجم المكتبات بمعناها الواقعي أو حتى المجازي، وحول العالم وفي دول ومناطق مختلفة بقيت المكتبة سرَّ كتّابٍ وروائيين قرروا تحويلها إلى موضوع في رواياتهم.