متأمّلُ سيرة الممثل الفرنسي آلان دولون (1935 ــ 2024) الشخصية، ومتابع مسيرته المهنية، سيلتقط، ربما بسهولة، البعد الإشكالي الثاوي خلف العينيْن الملوّنتيْن والملاحة المعتّقة. فذلك الشاب الذي ولد نجمًا، صاحب الوسامة الاستثنائية، "الوردة وسط حقل الأشواك"، كما يصفه كاتب سيرته الذاتية، عانى في طفولته من اضطهاد أسري كبير أدّى في نهاية الأمر إلى إرساله إلى الجيش في سن السابعة عشرة، ما رأى فيه دولون (أو ديلون) لاحقًا خيانة أولى لبراءته.
فمن خضم الفقر والتبعثر الأسري ولدت شخصية متناقضة ومثيرة، إنه الوسيم الشرير الذي كان يحمل السكاكين، ويرد في شبابه بأجوبة عنيفة وعدوانية على منتقديه، معنّف النساء الذي تهيم به النساء، وفي الوقت ذاته يستمتعن بإهاناته لهن. في هذا السياق، تسجل سيرته الذاتية عديد حالات صفعه عشيقاته، أو ضربه لهن، لكن ذلك لم يقف حائلًا دون انجذاب المنتجين له، وإعادة تصنيعه لتقديمه كأحد مغويي السينما في العالم، فهو النجم الذي كانت تضع أغلب مراهقات العالم صوره على جدران غرفهن في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينياته.
اللافت أن الجزء غير المرئي، أو غير المعلن عنه من شخصية النجم الذي رحل قبل أيام قليلة، يتناقض، ربما تمامًا، مع صورة البطل الوسيم العاشق بهيّ الطلعة. ولا نبالغ إنْ قلنا إنّ هذه الطلّة كانت تخفي خلفها وحشًا متربصًا؛ هذا ليس كلامنا وحدنا، بل هو ما وصف به نفسه غير مرّة، أما الإصدارات والكتب السينمائية فقد أطلقت عليه لقب "الوحش المقدس"، كنموذجٍ جديدٍ لسينما ما بعد الحداثة، مقدمًا نفسه في سياقها بوصفه الوسيم الشرير، لا الوسيم طيب القلب الذي يقبل بأن ينهي حياته كَرْمى لوشائج الحب والعشق والغرام، وكان ذلك شأنًا مثيرًا وجديدًا في السينما، ترافق مع تقديم هيتشكوك رائعته "سايكو" (1960)، الشريط الذي قدم فيه الممثل الأميركي أنتوني بيركنز، بشكلٍ صادمٍ واستثنائيّ، شخصية قاتل مأزوم نفسيًا يقوم بقتل الزبائن في فندق يديره مع والدته التي تركها فوق كرسيها الهزاز لتتيبّس، ولكن ولأول مرّة لم تكن علامات الشرّ واضحة عليه، بل على العكس كان شابًا وسيمًا سمح الملامح، وإذ بالصدمة القاتلة للمشاهدين بأن يكون هو القاتل.
كانت تلك الانعطافة في تاريخ السينما من صالح ذلك الذئب الفرنسي، دولون، الذي أعجبته تلك الوصفة، فهي تعكس بشكل من الأشكال شخصيته الحقيقية العنيفة المحتقنة بالغضب من ماضيه، غير المتصالحة مع سلوكيات تفرضها وسامته الملائكية، بل على العكس كانت دافعًا له ليكون نموذجًا لكسر النمطية المستمرة في الأعمال الفنية الأوروبية منذ القرون الوسطى، تلك التي تنمّط وتنمذج الشرير انطلاقًا من شكله، أو أنفه المعقوف، أو ثيابه الرثة.
آلان دولون المحظوظ بعشرات العلاقات الغرامية مع جميلات عصره، كان أيضًا محظوظًا بعمله مع كبار مخرجي السينما حينها: لوتشينو فيسكونتي الذي أدار له الكاميرا مرّتين، وكان أول من صنع له اسمًا سينمائيًا احترافيًا، ومايكل أنجيلو أنطونيوني الذي قدم معه رائعته "الكسوف"، وجان لوك غودار الذي قدم معه "الموجة الجديدة"، وآخرون كثر بالطبع.
لكن ذلك الشاب الذي ولد نجمًا قدم اعتذارات سينمائية عن ترشيحات قدمت له، تكاد تبكي معجبيه أينما كانوا، هذا ما ذكرته وسائل الإعلام الفرنسية، التي كشفت منذ سنوات عن اعتذاره عن تقديم دور "سوني" في العراب، لفرانسيس فورد كوبولا، واعتذاره عن دور "لورانس العرب" مع عمر الشريف.
في ستينيات القرن الماضي، وبحرْقِ مراحلٍ لافت، تحوّل الشاب العابث إلى ممثل، ومن ثم إلى نجم، ومن ثم إلى أسطورة حقيقية، انتشرت صوره وذاع اسمه عبر العالم في زمن ما قبل الإنترنت، وبات اسمه مضربًا للجمال الرجولي، وعلامة للسينما الفرنسية التي كانت تواجه تهديدًا كبيرًا من السينما الأميركية التي اجتاحت العالم في فترة ما بعد الحرب الكونية الثانية، ليصبح اسمًا تجاريًا وضع على العطور والكريمات.
يعرّف إدغار موران النجومية بأنها "النجم هو ذلك الشخص الذي تسمع عنه وتشاهد صوره في كل مكان، من دون أن تحلم بأن تلمسه أو تشاهده في مكان عام، إنه نجم في السماء"، وهكذا كانت نجومية آلان دولون. على أنه لم يكن نجمًا سينمائيًا لا يمكن لمسه، بل كانت غرامياته تحظى بمتابعة واسعة تكاد تكون تفصيلية، فحكايته مع رومي شنايدر، نجمة ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، كانت علاقة حب خالدة وصفتها الصحافة بالغرام الأوروبي، لأنها كانت تمثل تجسيدًا لإعادة العلاقات بين فرنسا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، شنايدر ذات الأصول الألمانية، ودولون محبوب فرنسا الأول، كانا نموذجًا أوروبيًا صافيًا للجمال والانفتاح في أوروبا. أما علاقته بداليدا الإيطالية المولودة في الإسكندرية، فكانت كذلك قصة عشق متوسطية سال خلال الحديث عنها كثير من الحبر والخمر، وتوّجت بواحدة من أجمل أغاني العشق التي لا تزال تسمع حتى اليوم.
وصفته بريجيت باردو بأنه "نسر ذو رأسين، الأفضل والأسوأ"، وتحدثت الصحافة عنه وعن فضائحه بالقدر ذاته الذي تحدثت عنه وعن إنجازاته، لكن الوجه الأكثر إشكالية بالنسبة لدولون هو انحيازه لليمين المتطرف في السياسة الفرنسية، فهو في غير مرّة أعلن عن إعجابه بجان لوبن، مؤسس الجبهة الوطنية اليمينية، التي ورثتها ابنته مارين لوبن، وغيّرت اسمها إلى التجمع الوطني. دولون، ومنذ شبابه، كان مأسورًا بشارل ديغول، وأيد اليمين الوسط في فرنسا، ولكن مع تقدمه في السن بدأ يزحف نحو اليمين، مبتعدًا عن التمرّد اليساري الفرنسي، وحتى عن يمين الوسط الذي رأى أنه لا يستجيب لتطلّعات الفرنسيين وطموحاتهم. كما دعم وأيد نادين مورانو، اليمينية التي هزت تصريحاتها الوسط السياسي الفرنسي حينما أعلنت في عام 2016 عن رؤيتها لـ"فرنسا بيضاء".
في عام 2019، منحه مهرجان كان السينمائي سعفة الشرف التكريمية، كواحدٍ من كبار صنّاع السينما في التاريخ، مثلما فعل مع كلينت إيستوود، وفرانسيس فورد كوبولا، وغيرهما. وفوق المنصة، في لحظة تسلّم الجائزة، بكى وأعرب عن خشيته من رحيله الجسدي القريب، معلنًا نهاية مسيرته المهنية السينمائية، وبعد أسابيع أصيب بجلطة دماغية مزدوجة أقعدته تمامًا، وأبعدته عن الصحافة والشأن العام، ليرحل في قصره الصغير في دوشي، بعد خمس سنوات قامت فيها الصحافة ولم تقعد بعد فضائح طاولت أولاده الثلاثة وصراعهم على الإرث الكبير الذي خلفه، وكآبته المطلقة في أثناء إقامته في سويسرا برفقة مدبّرة منزله التي اتهمها أولاده بتعنيفه وضربه حينما يكونان وحيدين، مما ترك آثارًا على وجهه وصحته النفسية، ولكن الطلب الذي صدم عشاقه وجمهوره كان طلبه بأن يطبّق عليه "الموت الرحيم" في سويسرا التي تسمح قوانينها بهذا الإجراء، على عكس فرنسا، مما سبب صدمة كبيرة أدت إلى تداول حكايته بشكل كبير بين المختصين حتى تدخل القضاء الفرنسي ليضعه تحت الوصاية الحكومية كإرث وطني.
رحل آلان دولون بعد رحلة صاخبة بين السينما والسياسة والعمل العام. رحلة بدأت بمكابدات وانتهت بآلام، تخللها سطوع نجم أعاد تعريف معنى النجومية من جديد.