Print
جورج كعدي

كارل كراوس: لا مستقبل للصهيونيّة

7 أغسطس 2024
استعادات

مفكّر، لغويّ، شاعر، كاتب مسرحيّ، ناقد، هجّاء ساخر... مِرتدّ مرّةً عن دينه الأصليّ، اليهوديّ، ومرّةً ثانية عن المذهب الكاثوليكيّ الذي كان قد اعتنقه لاثنتي عشرة سنة، كي يستقرّ في النهاية عند موقفه اللادينيّ.

قبل تناول آرائه الجدّية في اللغة والصحافة والصهيونيّة، أودّ أن أعرض صورة استهلالية قريبة من القلب لهذا النمساويّ الفريد والرائع كارل كراوس Karl Krauss (1936 - 1898) عبر سلسلة أقوال له طريفة ومعبّرة، حادّة السخرية أحيانًا، مثل: "أنا وجمهوري في حالة تفاهم رائعة: لا هو يسمع ما أقول ولا أنا أقول ما يريد أن يسمع"، "بلاط شوارع ڨيينا من ثقافة، شوارع المدن الأخرى من إسفلت"، "تبقى قصيدة ما جيدة حتى نعرف من كتبها"، "لتمتلك حكمًا واضحًا على أصدقائك، استشر أحلامك"، "آن الأوان للأطفال أن ينيروا ذويهم حول أسرار الجنس"، "تعرّفتُ إلى رجل يحمل ثقافته في جيب سترته الأكثر سعة من رأسه"، "يكتب الصحافيون إذ لا يملكون شيئًا ليقولوه، وإن كان لديهم شيء يقولونه فلأنهم يكتبون"، "اللغة هي الوهم الوحيد الذي لا نهاية لقدرته الموهمة، معين لا ينضب، يحافظ على الحياة من فقر مدقع. فليتعلّم الناس خدمة اللغة"، "ما يهضمه المعلّمون، يبلعه التلاميذ"، "أدب اليوم وصفات طبية يكتبها مرضى"، "إذا كان هناك خطأ مطبعيّ في جملة ولا يزال لها معنى، فإنها ليست فكرة"، "كاتب ما، من قلّة الاعتراف به، قد يصبح شخصًا مهووسًا بالعظمة"، "يا رب أغفر لهم لأنهم يدرون ما يفعلون"، "لغتي هي البغي المبتذلة التي أحوّلها إلى عذراء"، "الجملة صفٌّ لا يعرف الهدوء"، "لدى اليهود الصحافة، ولديهم البورصة، والآن لديهم اللاوعي أيضًا" (غامزًا من قناة فرويد)، "ندعوكم لحضور مسرحية ᾿لير̔ لشكسبير في ترجمة ليهوديّ"، "الصحافة والصهيونية وجهان لعملة واحدة: التلاعب بمشاعر الأفراد"، "المحلّل النفساني يسرق أحلامنا كما لو أنّها جيوبنا"، "العالم سجن، حيث من الأفضل للمرء أن يشغل زنزانة فردية"، "الشيطان متفائل إذا كان يعتقد أنّ في إمكانه أن يجعل البشر أسوأ ممّا هم عليه".

كراوس والهوس باللغة

كارل كراوس سليل قاطني بيت اللغة القديم، بحسب تعبير الشاعر النمساوي جورج تراكل، يرى أنّ أهمية اللغة تتجاوز أهمية الماء والهواء للحياة. اللغة بالنسبة إليه هي المجتمع، وأيّ هزيمة تلحق بها إنّما هي هزيمة لهذا المجتمع. كان كراوس هائمًا باللغة وبالأخص الألمانية، فهي على عكس اللغات الأخرى غير مهذبة بل متصدّية. مدّ لها يد المساعدة لينقذها من الانحطاط الثقافي، علمًا بأنّ اللغة تعرف كيف تثأر لنفسها من الذين يحطّون من شأنها ويهزمونها في معارك الحياة. اللغة، لكراوس، خليلة الفكر "ولو شاء أحدهم تغيير هذه العلاقة فإنّ اللغة تؤدي له الأعمال المنزلية لكنّها تقفل رحمها في وجهه". بالنسبة إليه، على المرء أن يريح اللغة من تشنجاتها لتكافئه بفكرة في كلّ فقرة. يقول إنه غَرَفَ من بئر اللغة أفكارًا لا يمتلكها ولا يمكن حتى التعبير عنها بكلمات. كان كراوس يفكر مليًّا لساعات طويلة في الوقع الملائم للفاصلة في الجملة (هنا أملكُ ذكرى خاصة مع "فاصلة كراوس" يوم كنتُ متولّيًا تحرير الصفحة الثقافية في صحيفة "النهار" اللبنانية في نهاية القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين لأعوام ثمانية، وكنت والصديق الكاتب والباحث الفذّ محمود شريح، صاحب الذاكرة المدهشة، في بحثٍ عن عنوان لزاوية مقالات أدبية وفكرية، فاستقرّ خيارنا على "فاصلة"، باقتراح من محمود الذي عاش ردحًا في ڨيينا الفنون والثقافة، وهو على معرفة جيدة بكراوس).

كان كراوس مقتنعًا بأنّ أكبر شرور العالم والعصر تنكشف في أصغر تناقض يبدو ذا أهمية محلية وزمنية. هكذا كان يسعه أن يرى في "فاصلة" مفقودة أحد أعراض حالة العالم التي جعلت الحرب العالمية ممكنة. أحد الاهتمامات الرئيسية في كتاباته كان لفت الانتباه إلى الشرور الكبرى من خلال المظالم الصغرى. وفي نظره، اللغة هي المؤشر الأهم لمظالم العالم. وفي الاستخدام المتراخي للغة من قبل معاصريه رأى إهمالًا لها وانحرافًا عن الأفكار وإظهار أوضاع العالم الحقيقية حتى الأكثر تشوّهًا، فعلى سبيل المثال يشير المستفيدون من الحرب بلا وعي إلى مذبحة وحشية وهم يصفون الحرب بالمحكية النمساوية على أنها "متعة كبيرة"! ويحصل تهشيم اللغة بالنسبة إليه في الصحافة وعلى أيدي من يسمّيهم "الصحفجيّة" و"أفّاقي الحبر" و"كلاب صيد الرأي العام". لم يكن كراوس يحترم صحافة زمنه، ولذلك أنشأ مجلته النقدية الساخرة "المشعل" (Die Fackel) التي ظلّ يحرّرها وحده حتى وفاته وعرفت نجاحًا باهرًا إذ وصل توزيعها إلى أكثر من ثلاثين ألف نسخة ما جعله مشهورًا ومحط إعجاب وتقليد وحسد في دنيا الصحافة. كما لقيت مسرحيته الملحمية الكبيرة، المناهضة للحرب، "آخر أيام الجنس البشري" نجاحًا عظيمًا، وامتدحه كلٌّ من توماس مان وبرتولت بريشت وستيفان زڨايغ، فيما دخل بسجال طويل مع الشاعر الألماني هاينرش هاينه، اليهودي الأصل مثله، إذ اتهمه بأنّه "حلّ مشدّ اللغة الألمانية حتى صار أيّ امرئ قادرًا على العبث بثدييها" وفي قوله هذا دليل على حدّة سخريته وروح دعابته.

كتيّب كراوس المناهض للصهيونية "كرونة لصهيون" ومجلته النقدية الساخرة "المشعل" (Die Fackel) التي ظلّ يحرّرها وحده حتى وفاته 


عداؤه لهرتزل والصهيونية

التناقض بين أصل المرء ونظرته إلى "الخصائص اليهودية" المفترضة بكونها سلبية، لم يكن أمرًا غير مألوف في عصر كراوس، فقد اصطدمت في ڨيينا جالية يهودية مستعدة للاندماج والذوبان بموجات من اليهود المهاجرين من غاليسيا شرق الإمبراطورية النمساوية – المجرية عهد ذاك (بولندا وغرب أوكرانيا اليوم) بمظهرهم غير الحداثي إذ يرتدون القفطان والجبة ويطيلون خصلات الشعر ويمارسون طقوسهم الخاصة، فشعر اليهود الغربيون المندمجون بأن عليهم عدم الاختلاط بهؤلاء اليهود "الشرقيين" الوافدين، وازداد تعلّقهم بالنمسا وألمانيا وسعوا إلى تقديم أنفسهم أكثر جرمانيةً ومسيحيةً من الألمان المسيحيين. وكانوا نشطين ثقافيًا وناجحين اقتصاديًا (والد كراوس كان صناعيّ ورق ثريًا). وإذ بدا أنّ العداء الأوروبي التاريخي لليهود قد تمّ تجاوزه، أرادوا ترك ذكريات الغيتو المذلّة وراءهم من دون أن يذكّرهم بها أولئك القادمون من شرق أوروبا. خشي يهود النمسا وألمانيا أن يتسبّب القادمون من الشرق بعودة مظاهر معاداة اليهود القديمة، خاصة في ظلّ انتشار موجة معاداة السامية في أوروبا.

لم يرَ كراوس أن أصله اليهوديّ يرغمه بأيّ شكل على الانجرار خلف الفكرة الصهيونية والسعي إلى دولة يهودية خاصة، بل بقي يشعر بأنّه نمساويّ، بل "ڨييناويّ"، واتهم الصهاينة بارتكاب خطأ تاريخيّ حين يتركون الطريق الوحيد الممكن وهو الاندماج في المجتمع الأوروبي. كما اتهمهم بخدمة الذين يريدون فصل اليهود عن غير اليهود. كما رأى أنّ الصهيونية نجحت في شكل خاص بإقناع المسيحيين الذين لم يعرفوا حتئذٍ مذاق معاداة السامية "بفوائد فكرة التمييز"! لم يتوقع كراوس للصهيونية أن تنجح. وردًّا على "الدولة اليهودية" والمؤتمر الصهيوني الذي نظمه هرتزل، نشر كراوس عام 1898 كتيّبًا تحت عنوان "كرونة لصهيون" (Eine Krone fϋr Zion) وفي العنوان معنى مزدوج بالألمانية لكلمة Krone التي تعني التاج والعملة النمساوية في تلك الحقبة، ليسخر من المؤتمر الذي كان التبرّع للاشتراك فيه "كرونة" بالحدّ الأدنى. في هذا الكتيّب المناهض للصهيونية يلخّص كارل كراوس برنامج الصهيونية بهذه المفارقة: يبدو أنّ اليهود يتبنّون الشعار المعادي للسامية "أخرج مع اليهود" ويريدون طرد أنفسهم. منذ بداية الحركة الصهيونية أدرك كراوس بوضوح الخطر الذي تواجهه القومية اليهودية في "استبطان" معاداة السامية.

رأى كراوس أن هرتزل يجمع الأموال اللازمة لطرد اليهود إلى "الغيتو الجديد" (الكيان الصهيوني الحالي على أرض فلسطين)، مع التذكير بأنّ "الغيتو الجديد" هو عنوان مسرحية لهرتزل يكرهها كراوس كرهًا شديدًا. إنّه بالنسبة إليه السجن في مكان إلزاميّ. وها هي تجربة الانغلاق تعكسها حالة الإسرائيليين اليوم الذين لا تستطيع قوتهم العسكرية التعويض عن عزلتهم حيال جيرانهم جغرافيًا، رغم الاتفاقيات التي لا تنطوي على حوار فعليّ أو تبادل علاقات بين الناس. ويشير كراوس بوضوح إلى أن المشروع الصهيونيّ هو مشروع استعماريّ طوّرته نخبة مثقفة وبورجوازية ونفّذه عدد قليل من أعضاء الطبقة الأرستقراطية اليهودية، وينهض هذا المشروع على أفقر اليهود الأوروبيين الشرقيين وأكثرهم اضطهادًا، ولا سيّما من غاليسيا حيث ينتشر الفقر والمذابح. "الجهاز العاطفي"، بحسب تسمية كراوس، الذي أطلقته الصهيونية يجمع بين استحضار "البؤس اليهودي" و"النشوة المسيانية"، كما يستحضر "الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا". لكنّ الصهيونية تستدعي أيضًا الوسائل والرموز الموحدة للقومية الحديثة: المدرسة، اللغة، الثقافة، العلم...  ويشكّك كراوس، الذي يشبّه مؤتمر بازل ببرج بابل، في إمكان نجاح مثل هذا المشروع للتوحيد الوطني بما يتجاوز الحواجز اللغوية، ويسأل: "ما الرابط الذي يمكن أن يوحّد مصالح اليهود الألمان والإنكليز والفرنسيين والسلاڨ والأتراك (يقصد العرب) في مجتمع مشترك؟ ولاية؟"، واضعًا الإصبع على ما سيصبح إحدى الصعوبات الرئيسية التي تواجه الكيان الإسرائيلي اليوم. هذه العقيدة الصهيونية بالنسبة إلى كراوس توحّد وتقسّم في الوقت عينه. ولم ينجُ كراوس من محاولات هرتزل استقطاب الإنتلجنسيا اليهودية ضمن حركته الصهيونية، فقد زار كراوس أكثر من مرة، لكنّ الكاتب النمساوي سخر منه بقوله المشهور "هرتزل ملك اليهود الباحث عن مملكة". "لا مستقبل للصهيونية" خلاصة رؤيا كارل كراوس البعيدة.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.