Print
سمر شمة

"العاديات السورية": "حلب قصدنا وأنتِ السبيل"

10 سبتمبر 2024
استعادات

احتفلت جمعية "العاديات السورية" الأهلية في نهاية الشهر الماضي في حلب وعدد من المدن بمرور مائة عام على تأسيسها، ببرنامج ثقافي وفني منوع، ضمّ معارض للفنون التشكيلية وعرضًا للأزياء الشعبية (أرمنية - فلسطينية - شركسية) وحفلًا موسيقيًا لكورال الجمعية، ومعرضًا للكتاب احتوى على مجموعة من الكتب النادرة التي تعكس ثقافة وتاريخ هذه المدينة العريقة، إضافة إلى ندوة عن التراث اللامادي، وندوات شعرية وفنية عن الموشحات والموسيقى والقدود الحلبية التي دخلت قائمة التراث الإنساني العالمي في منظمة اليونسكو 2021، وحفلات غنائية تراثية ووطنية ولقاء مع الحكواتي العكيد غزوان، القصاص الشعبي الذي سرد حكايات التراث الأصيل والبطولات والأمجاد الغابرة، إضافة إلى معرض للحرف التقليدية والمشغولات اليدوية وذلك في دار الكتب الوطنية ومنارة حلب ومقر الجمعية وأماكن عديدة في المحافظات السورية التي تتواجد فيها فروع للعاديات.

والمعروف أن حلب الشهباء تزخر ومنذ آلاف السنين بتاريخ حافل في سجل الحضارة الإنسانية، ومنها انطلقت معارف عربية هامة في الأدب والشعر والفن والعلوم، وهي تحتضن منذ 16 للهجرة حتى الآن كل العصور العربية والثقافات التي مرت بها إضافة لدورها الاقتصادي الهام الذي لعبته خلال الألف سنة الماضية.

يرجع عمرها كما ذكرت اليونسكو إلى ألوف السنوات، وتغنى بها أهم الرحالة والشعراء والمؤرخين والمستشرقين، فقال ابن بطوطة الرحالة المغربي: "حلب من أعزّ البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع وإتقان الترتيب، واتساع الأسواق، وانتظام بعضها ببعض"، وقال الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري وهو من كبار أعلام الحضارة الإسلامية:

حلب للوارد جنة عدن

وهي للغادرين نار سعير.

وقال الرحالة ومؤلف الموسوعات ياقوت الحموي: "إن الله خصّ حلب بالبركة، وفضّلها على جميع البلدان".

تشتهر مدينة حلب الشهباء بأوابدها التاريخية والأثرية وبالمواقع السياحية الهامة فيها مثل قلعتها الشهيرة: من أضخم القلاع في العالم وأجملها وأبدعها ولها تاريخ حافل بالأحداث، وأبوابها: باب الحديد والنيرب والنصر، والجامع الأموي الكبير أهم المعالم الإسلامية التاريخية، والخانات: خان الحرير والجمرك والوزير، ومدارسها العلمية وكنائسها، إضافة إلى القيسارات والسوق التاريخية "المدينة القديمة"، وتشتهر أيضًا بصناعاتها التقليدية والحديثة وتراثها الإنساني العظيم في المجالات كافة، وقد اعتبرتها منظمة اليونسكو مدينة تاريخية هامة يجب حمايتها، وسُجلت حلب القديمة بالسجلات الأثرية ووُضعت إشارة على صحائفها العقارية تثبيتًا لعدم جواز هدمها أو تغيير معالمها أو مواصفاتها، كما أُدرجت على لائحة مواقع التراث العالمي، هي وبعض المواقع السورية: مدينة حلب القديمة - بصرى - تدمر - قلعتا صلاح الدين والحصن وغيرها.

إنها حلب، سيف الدولة الحمداني والمتنبي وعاصمة سورية الاقتصادية حتى الآن. عبق التاريخ، شيخة المدن وأعتقها. تعرضت للغزو والدمار عدة مرات في التاريخ القديم والحديث، فقد غزاها الصليبيون وعاثوا فيها فسادًا وخربها المغول ودمروها، وبنى تيمورلنك زعيمهم وأكثر العسكريين وحشية في التاريخ من جماجم أهلها جبالًا، وتعرضت أيضًا لحصار خانق من الرومان 974 م، وللكثير من المذابح والمخاطر كان إحداها في عشرينيات القرن الماضي عندما احتلها الفرنسيون وسرقوا أهم الآثار من قلعتها الشهيرة، وأقدم رئيس الحامية المتمركزة داخلها على تفكيك المحراب الموجود في جامع إبراهيم الخليل عليه السلام ضمن القلعة ويعود للفترة الزنكية وهو آية فريدة في الجمال، وليس له شبيه في العالم إلا المحراب الموجود في "المدرسة الحلوية" أو جامع الحلوية التاريخي بحلب والذي كان كما يقولون كاتدرائية وإحدى كنائس المشرق العربي في القرن الخامس الميلادي، ونتيجة لهذه السرقة وهذه الاستباحة أقدمت مجموعة من أهالي حلب ومثقفيها ومفكريها من مختلف الخلفيات السياسية والإجتماعية على تأسيس جمعية هدفها الأساسي صيانة الأوابد الأثرية التاريخية والتعامل مع التراث ودراسته والاهتمام به، هي جمعية العاديات السورية.

تُعد الأولى من نوعها في سورية التي تعمل بهذا المجال، وهي مؤسسة أهلية مدنية تُعنى بالتراث العمراني الآثاري في سورية عامة وحلب خاصة، تأسست عام 1924 في هذه المدينة، بهدف حماية قلعتها الشهيرة في بادئ الأمر ومن ثم حماية التراث المادي الذي يشمل الآثار والأوابد التاريخية واللامادي الذي يشمل العادات والتقاليد والطقوس والعلوم والطبخ واحتفالات الأعراس وكل ما هو منقول من ممارسات وعادات غير ملموسة وتراثية.

مثّل المؤسّسون لها التنوع الثقافي والإجتماعي في مدينة حلب وساهم ذلك في رسم خطها وتوجهاتها. يقع مقرها في قلب "شارع معاوية" القريب من أهم ساحات المدينة "ساحة سعد الله الجابري" في مبنى تفوح منه رائحة التاريخ والذكريات، أنشئ عام 1890 وكان سكنًا لكبار حاشية الوالي العثماني الذي كان يقيم في قصر مجاور له.

ضمت الجمعية، البعيدة كل البعد عن الاهتمام بالسياسة والدين، بين صفوفها شيوخًا وعلماء كبار مثل: الشيخ راغب الطباخ والشيخ كامل الغزي، ومؤرخين مثل: خير الدين الأسدي، وآباء مثل: الأب جبرائيل رباط، إضافة إلى شخصيات أخرى مثل: أدولف بوخا  النمساوي الذي استقرت عائلته في سورية منذ أجيال، والدكتور أحمد أديب الشعار صاحب مخطوط "صور ملامح من حلب التراث" وسمر كيالي وفؤاد هلال صاحب كتاب "حلب القديمة والحديثة"، ووصل عدد المنتسبين لها إلى أكثر من 7000 بينهم شخصيات عامة ومعروفة كالباحث والموسوعي الراحل الدكتور محمد قجة الذي كان رئيسًا لها لسنوات، والأديب الراحل وليد إخلاصي، والروائي والمسرحي محمد أبو معتوق، وخبير الآثار ورئيس مجلس إدارة الجمعية محمد خير الدين الرفاعي.

من الاحتفال بمئوية الجمعية (©غرفة تجارة حلب)


استمر عملها بعد تأسيسها حتى عام 1939 ثم توقفت عن العمل بسبب الحرب العالمية الثانية حتى بداية الخمسينيات، حيث اجتمع أعضاؤها من جديد وأعادوا تفعيلها، وفي عام 1958 صدر النظام الداخلي لها وأُعطيت الحق في إنشاء فروع في المحافظات وفي أي مدينة أو منطقة يريد سكانها فرعًا للجمعية فيها، وهذه الفروع جميعها تحت إشراف الجمعية الأم بحلب.

لم تسع "العاديات السورية" للحفاظ على التراث فقط خلال تاريخها، بل سعت أيضًا للحفاظ على القيم الثقافية والوطنية والإنسانية التي أبدعت هذا التراث، وذلك من خلال الحض على العلم والعمل بإخلاص، وإعلاء قيم الإخاء الإنساني والتسامح الديني وحوار الحضارات. وكانت وما زالت جمعية تراثية وطنية على صلات وثيقة مع جميع الفعاليات، تضمّ بين صفوفها جميع الفئات والشرائح المجتمعية. وقد قامت خلال السنوات الماضية بالدفاع – قدر المستطاع – عن التراث العمراني في سورية وهي متواجدة في جميع اللجان العاملة في المدينة القديمة وكل ما يتعلق بالتراث المعماري وغيره بحلب.

تقوم الجمعية بنشاطات دائمة ومتواصلة تتجلى في تنظيم رحلات لأعضائها إلى الأماكن الأثرية والفنية داخل حلب وسورية عمومًا (تدمر - دمشق القديمة - الساحل السوري - الفرات - حلب وريفها)، ورحلات خارجية إلى الهند واليابان وماليزيا على سبيل المثال لا الحصر، إضافة إلى إقامة المحاضرات والحفلات الفنية والموسيقية وورشات عمل كالتدريب على الموسيقى التراثية والحرف والمشغولات اليدوية، وصناعة الصابون المشهورة، وتُصدر نشرات وكراسات للتعريف بالآثار والعاديات المنتشرة في البلاد وتشجع على زيارتها ودراستها، وتهتم اهتمامًا خاصًا بفن الموشحات والقدود الحلبية ذلك الفن الموسيقي الأصيل الذي تحول من فولكلور شعبي إلى تراث إنساني عالمي، تم إدراجه بجدارة ضمن القائمة التمثيلية لهذا التراث في اليونسكو.

تُصدر الجمعية العديد من المطبوعات منها:

- الإصدار الأول: المجلة الفصلية وهي كتاب سنوي يصدر بالاشتراك مع معهد التراث العلمي العربي بحلب موجه للاختصاصيين في الآثار، حيث كانت البداية مع مجلة العاديات الشهيرة التي استمرت بين عامي 1931 - 1939 وتوقفت لفترة بسبب الحرب العالمية الثانية، ثم عادت للصدور عام 2005 بحلة جديدة وأصبحت فصلية موجهة للاختصاصيين وغيرهم.

- الإصدار الثاني: هو "الكتاب السنوي" الذي يحتوي على نتائج التنقيب والأبحاث الأثرية ويصدر سنويًا.

لعبت الجمعية دورًا هامًا وأساسيًا في دعم احتفالية حلب كعاصمة للثقافة الإسلامية 2006، وتبنّت عام 2009 احتفالية "القدس عاصمة للثقافة العربية" حيث حملت منشوراتها ومراسلاتها شعار القدس، ودارت أنشطتها الثقافية في ذلك العام حول المدينة المقدسة المحتلة وما تعانيه من سياسة التهويد وممارسات الاحتلال الإجرامية التعسفية، إضافة إلى اهتمام مجلتها الفصلية آنذاك بالقضية الفلسطينية وتاريخها ومآلاتها وبالقدس أيضًا.

وضعت الجمعية شروطًا للانتساب إليها تتجلى في أن يكون المنتسب عربيًا سوريًا، حائزًا على درجة جامعية في البكالوريوس فما فوق يعرفه اثنان من أعضائها وتوافق عليه لجنة التزكية والنظام الداخلي إضافة إلى رغبته في العمل التطوعي لخدمة أهداف الجمعية، وقررت أن حق الانتخاب والترشح لمنصب مجلس الإدارة يكون فقط للأعضاء العاملين فيها، أما المشاركة في النشاطات وحضور الفعاليات فهي متاحة لجميع المهتمين بأهداف الجمعية وتوجهاتها.

تضم الجمعية مجموعة من اللجان كلجنة الرحلات التي تنظم زيارات داخلية وخارجية، واللجنة الاجتماعية ولجنة الحفاظ على المكتبة الورقية والتي تضم ستة آلاف مجلدًا والمختصة بالآثار والتاريخ والأدب باعتباره جزءًا من التراث، واللجنة المعلوماتية ولجنة خاصة بموضوع الكتاب السنوي.

تُعتبر "العاديات السورية" جمعية عريقة قامت بدور كبير في حماية تراث سورية وآثارها خلال تاريخها ولكن مهماتها أصبحت أكثر صعوبة بعد عام 2011 وبعد الحرب المدمرة التي طاولت البشر والحجر والاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة والتراث بأشكاله وحياة  الناس وآمالهم وأبسط حقوقهم في سورية، وبعد أن تعرضت الكنوز الأثرية والتاريخية والتي تعود لحضارات متعاقبة على مدى أكثر من خمسة آلاف عام لعمليات نهب وتدمير واسعة النطاق، إضافة إلى لصوص الآثار ومافياتها، وتضررت مواقع ودُمر بعضها أو أجزاء منها كما في قلعة حلب - قلعة الحصن - بصرى القديمة - تدمر - الجامع الأموي الكبير بحلب - سوق المدينة وهو أكبر سوق تاريخية مغطاة بالعالم - ونُهبت المتاحف، وقد عبرت اليونسكو عن قلقها ووضعت مواقع كثيرة للتراث العالمي في سورية على قائمة المواقع المهددة بالانقراض، وبعدها جاء الزلزال المدمر عام 2023 فأثر على المباني الناجية من الحرب وكان أشدها تأثيرًا في حلب، ولكن عمليات الترميم بدأت منذ عام 2016 للجامع الأموي والأسواق القديمة بحلب وشهدت المدينة وغيرها من المدن السورية مشاريع عديدة لإنجاز ذلك ولكن هناك مشكلات كبيرة ما زالت تُعيقها.

كانت حلب وما زالت تتصدى للتتار والمغول منذ القدم إلى القرن الحادي والعشرين ودائمًا كانت تنهض، وهي القادمة من الشهب، ومن أعماق التاريخ، ولأن:

"كل الدروب لدى الأوربيين تُوصل

إلى روما

وكل دروب الحب تُوصل إلى حلب"

ما زال نهرها الحزين وما زلنا جميعًا نقول كما قال المتنبي ذات يوم:

"كلما رحبت بنا الروض قلنا

حلب قصدنا وأنت السبيل".

 

مراجع:

- اكتشف سورية.

- جمعية العاديات السورية.