Print
ميشلين مبارك

الحضارة النبطية: سحر وأصالة ثقافة الشرق

12 سبتمبر 2024
استعادات

يلعب التاريخ دورًا مهمًا في حياة البشر، وتأتي الجغرافيا لتكشف عن أسرار هذه الحياة. بعض هذه الحياة هي حضارات منها معلوم ومنها ما زال سرّها مخبأ في باطن هذه الأرض. وما الإكتشافات الأثرية على مرّ التاريخ سوى جسور معرفة وثقافة وتواصل مع الحضارات القديمة خصوصًا حضارات الشرق المذهلة في تميّزها الثقافي، التجاري، الهندسي، والطبي وغيرها الكثير من الأمور...

من هذه الحضارات المهمة والساحرة والتي تمّ اكتشافها منذ عقود قليلة الحضارة النبطية، أمّا جغرافيتها فامتدت من شبه الجزيرة العربية وصولًا إلى البتراء التي تقع اليوم في الأردن. ويعتقد المؤرخون بأن البتراء كانت عاصمة الأنباط، منذ فترة طويلة تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد.

لقد بقي تاريخ هذه الحضارة مخبأ لأكثر من ألفي عام، لكنّ اكتشاف علماء الآثار لبقايا معسكر روماني محصن على بعد أربعة آلاف كيلومتر جنوبًا في منطقة الحِجر في شبه الجزيرة العربية هو الذي أعاد تحديد معالم انتشار الإمبراطورية الرومانية. وبالفعل اختار علماء الآثار الذين كانوا يحققون في المقابر المنحوتة في جبل الأحمر، إحدى هذه المقابر للدراسة الأثرية العميقة، ليتبين سرّ وجاذبية هذه الحضارة، وسنعود إلى هذه المدافن لاحقًا في هذا التحقيق.

نسأل بداية الدكتورة ليلى نعمة، مديرة الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS)، وهي المديرة المشاركة لمشروع الهجرة الأثري (منذ عام 2008) في حوار معها من باريس عن سرّ شغفها بالحضارة النبطية، فتجيب:

"غالبًا ما يكون الشغف ثمرة الصدفة أو اللقاءات أو الفرص، واهتمامي بالأنباط ليس استثناءً عن القاعدة. علاوة على ذلك، وبعيدًا عن الأنباط أنفسهم، فإن المشهد القديم بأكمله الذي يتواجدون فيه هو الذي يُبهرني: طرق التواصل لديهم، والموارد البيئية، والاقتصاد، وتطوّر التقنيات وما إلى ذلك. بدأت قصتي مع الأنباط في البتراء، عاصمتهم، في منتصف الثمانينيات، عندما عرض عليّ أستاذي لعلم الآثار للشرق ‘الهيليني‘ في جامعة باريس 1، دراسة موقع البتراء الرائع وفكّ رموزه مرسلًا لي الملف البحثي. بدأ كل شيء هناك، مع الرغبة منذ البداية في الوصول إلى ما نسميه ‘الثقافة المادية‘ أي كل ما تركه الناس وراءهم، بما في ذلك الكتابات! الأنباط رائعون لأنهم أصيلون في العديد من المجالات: الهندسة المعمارية، والطقوس، والعملة، والسيراميك، والكتابة، على سبيل المثال لا الحصر وغيرها العديد من المجالات".

جيروم نوريس وليلى نعمة يلاحظان النقوش على طريق القوافل بين الحجر والبتراء © آلان موريسي


ثم نسأل الدكتورة نعمة: من البتراء إلى شبه الجزيرة العربية وتحديدًا وادي العُلا، إلى أي حدّ أكملت الاكتشافات الرائعة التي اكتشفتها في وادي العُلا مع فريقك الدولي المتخصص صورة الحضارة النبطية، هذه الحضارة التي حكمت مفترق طرق مهم من طريق البخور الذي كان يربط بين شبه الجزيرة العربية بأوروبا وأفريقيا وآسيا؟، فتقول:

"من الصعب أن نقول في بضع كلمات كيف أن عملنا الذي استمر أكثر من عشرين عامًا، أكمل صورة الحضارة النبطية. اليوم، سأذكر لكِ أمرين أساسيين: الأول هو فهم الطقوس الجنائزية النبطية، مع اكتشاف مدافن في مكانها (أي لم تتحرك منذ العصور القديمة) على الأقل في مقبرتين صخريتين ضخمتين. الحالة الممتازة للحفاظ على الرفات البشرية وخصوصًا المنسوجات والجلود والمجوهرات المصنوعة من المواد العضوية (على سبيل المثال: قلادة مصنوعة من التمر) وما إلى ذلك. كلّ هذه الأمور التي غطت الأجساد، جعلت من الممكن دراسة طقوس الجنازة بأكملها. الأمر الثاني، وفي مجال توثيق أثري آخر، قام جزء من الفريق بعدة رحلات استكشافية بحثًا عن مسارات القوافل التي سلكها الأنباط على طريق البخور. ومن خلال البحث في النقوش التي تركوها وراءهم، تمكنّا من إعادة معرفة وبالتالي بناء عدد معين من الطرق، التي سلكها في بعض الأحيان الأشخاص نفسهم مع فاصل زمني عدة سنوات. في الواقع، لقد وجدنا تواقيع الأشخاص أنفسهم في أماكن مختلفة حيث توقف الأنباط وزودوا أنفسهم بالمياه خلال ترحال قوافلهم".

بحسب الدكتورة ليلى نعمة، كانت ثقافة الأنباط غنية ومتنوعة، وشكلت الحفريات الأثرية لقبور أثرياء البخور واللُبان فرصة رائعة لمعرفة المزيد عن فكرتهم عن الحياة الآخرة.

فقد أظهرت الدراسة الأثرية لإحدى هذه المقابر المنحوتة في جبل الأحمر، وهو نتوء جبلي على حافة المنطقة السكنية في الحِجر، عن قبر أطلق عليه علماء الآثار اسم قبر هينات ابنة وهب. كان القبر مليئًا بمواد محفوظة بشكل جيد غير عادي. ويحتوي القبر على نقش جميل للغاية محفور على واجهته، يقال إنه ينتمي إلى امرأة تُدعى هينات. في الواقع غير معروف على وجه التحديد من هي هينات؟ لكنّ علماء الآثار استطاعوا من خلال قراءة لوحة نُقشت فوق مدخل قبرها معرفة لمن يعود هذا الهيكل العظمي داخلها.

وفي صورةٍ من بين الصور التي زوّدتنا بها الدكتورة نعمة، أثبت تحليل أحد القبور أنه كان المثوى الأخير لما يصل إلى 80 شخصًا. وفي إحدى المناطق، كان هناك تابوت خشبي يحمل رفات أربعة أشخاص على الأقل، شخص بالغ وثلاثة أطفال. وفي مكان آخر، كانت العظام والأقمشة والجلد مختلطة مع خيوط التمر المجفف، والتي يبدو أنها صُنعت كقِلادات.

هيمن الأنباط على طرق التجارة القديمة والقوافل بين البحر الأبيض المتوسط وجنوب شبه الجزيرة العربية لعدة قرون. ففي الطرف الجنوبي من أراضي الأنباط، أي في شمال غربي المملكة العربية السعودية، تروي مقابر مدينة الحجر القديمة والتي يبلغ عددها 109 قصصًا عن الماضي المجيد للأنباط.

فالأنباط الذين هم قبيلة من شبه الجزيرة العربية عُرفوا بحلول القرن الرابع قبل الميلاد بأثرياء تجارة البخور واللُبان والتوابل وغيرها من السلع الفاخرة، وبحسب الأبحاث والدراسات، توسعت مملكة الأنباط ليستقروا في الحِجر على بُعد 500 كيلومتر جنوب البتراء في القرن الأول قبل الميلاد. وقد مزجت حضارتهم الفريدة عناصر من ثقافات متنوعة، مدعومة بالثروة نتيجة دورهم في تجارة السلع الثمينة، ولا شك في أنه انعكاسًا لهذه الثروة اهتموا بمدافنهم ونحتوا مقابر متقنة بشكل رائع في المنحدرات الحجرية الرملية.

صورة المقبرة من الخارج حيث تمّ العثور على رفات 80 فردًا بحسب البعثة الاثرية لمدائن صالح (في عام 2012) والجزء الداخلي للمقبرة أثناء التنقيب  بحسب البعثة الأثرية لـمدائن صالح


تُشكل المقابر المنحوتة من الصخور الشاهقة ذات اللون العسلي، والتي ترتفع من الرمال المحروقة بأشعة الشمس، ما تبقى من الحضارة النبطية، ليس فقط المقابر التي صمدت من التآكل، بل وتشهد أكثر من 130 بئرًا باقية أنشأها الأنباط لأول مرة كدليل واضح على خبرتهم في إدارة المياه. كما تضم الغالبية العظمى من المقابر واجهات مزخرفة تُعطي الباحثين والمهتمين لمحة عن العلاقات التي كانت تربط هذا المجتمع بالثقافات الأخرى حتى فقد استقلاله أمام روما في العام 106 ميلادي.

وتبعًا للأبحاث الأثرية، فإن العديد من المقابر تعرض نسورًا منحوتة وشخصيات أسطورية وغيرها من الرسومات. لكنّ الكلمة المكتوبة هي التي تجعل المقابر فريدة من نوعها عند الأنباط، لأنها تحمل نقوشًا محفورة في الصخر وبعضها نصوص قانونية كاسم المالكين وأحيانًا دورهم في المجتمع. وهي مكتوبة بالخط النبطي، وهو نوع من الآرامية، والذي تطوّر لاحقًا إلى اللغة العربية.

إذًا، شكلت المقابر عنصرًا مهمًا لتعزيز هيبة العائلة التي تنتمي إليها، فقد تمّ صنع المقابر الأكثر حجمًا والأكثر زخرفة عمدًا بحيث تكون مرئية من وسط مدينة الحِجر. كما تمّ إيداع العديد من القطع الأثرية داخل المقابر، بعضها مستورد من بلاد ما بين النهرين أو البحر الأبيض المتوسط أو في أغلب الأحيان من البتراء. وقد عُثر داخلها على أسوار برونزية وقلادات من الخرز الزجاجي، فضلًا عن أشياء من الحياة اليومية مثل الأمشاط والعملات المعدنية. كما امتدت العناية بالدفن إلى البقايا الجسدية، فقد أظهر العلماء الذين قاموا بتحليل بقايا المواد العضوية التي تمّ الكشف عنها على العظام والنسيج الموجودة في المقابر، أنّ الأنباط كانوا يغطون جسد المتوفي بمزيج من الدهون والمواد المستخرجة من الأشجار التي تحمل البخور وربما هذا ما حفظها من التلف الكليّ.

ومن اللافت في هذا الموضوع أنّ بعض المقابر سُمّيت على اسم نساء، مما يُشير إلى حقهن القانوني في امتلاك المقابر، كما تنص النصوص التي اكتشفها العلماء على أنّ أحفاد هذه النساء يمكن أن يرثوهن. وكما هي الحال في العديد من المجتمعات القديمة، تتضمن النقوش لعنات موجهة إلى أي شخص ينتهك القبر أو يحاول المطالبة به.

تمثل اليوم المقابر أحد أكثر جوانب الحجر إثارة للاهتمام للزوار وكذلك لعلماء الآثار الذين يواصلون اكتشاف قصص الثقافة النبطية من خلال المسوحات والحفريات وتحليل المواد. وإلى جانب كونها جميلة المظهر، تقوم هذه المقابر كأرشيف حي عن حياة الأنباط ونظرتهم إلى الحياة الأسرية والدين والاقتصاد والمجتمع... ويمتلئ وادي العُلا الذي يمتد لأكثر من ثلاثين كيلومترًا بالكنوز الأثرية التي تشهد على تاريخ الجزيرة العربية الغني منذ عصور ما قبل التاريخ.