Print
هاني حوراني

عارف العارف كمؤرخ بصري: النكبة الفلسطينية بالصور (4-4)

13 سبتمبر 2024
استعادات
خلاصة وملاحظات ختامية
شكل "النكبة بالصور"، أي الجزء السابع من موسوعة عارف العارف "النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود" مساهمة ريادية وفريدة في بابها، على صعيد التأريخ العربي للنكبة، وبالأحرى للقضية الفلسطينية منذ نشأتها المبكرة، مع ظهور المشروع الصهيوني في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر وحتى السنوات الأخيرة من أربعينيات القرن السابق.
فقد جاءت مساهمة عارف العارف، بخلاف المحاولات الفلسطينية السابقة للإستعانة بالصور الفوتوغرافية لتوثيق الأحداث التي مَرّ بها الشعب الفلسطيني، على هيئة كتاب مصور من ألفه إلى يائه (1)، وهو مصمم مسبقًا ليروي وجوه النكبة وأحداثها، وليضمنه صور صانعيها، فضلًا عن صور ضحاياها والمناضلين العاملين على منعها.
وبهذا فإن كتاب العارف إتسم بالريادة في مجاله. وقد أعد بصورة منهجية، بقصد رواية أحداث النكبة والفاعلين فيها، عن طريق المواد البصرية، ولا سيما الصور الفوتوغرافية، في حين اقتصرت المادة النصية فيه على مقدمات كل من الكاتب والناشر، وكذلك على تعليقات مقتضبة تضيء الصور بمعلومات توضيحية تساعد على قراءة هذه الصور، سواء لجهة توثيق الحدث، أو للتعريف على الفاعلين في صنع النكبة والممهدين لها، وكذلك على الفاعلين المقاومين لها. وقد تجلت نتائج هذا الجهد في كتاب مصور ضخم في عدد صفحاته، إذ بلغت 502 صفحة من القطع المتوسط (16 × 23سم)، وكذلك في عدد الصور الذي ضمها، وهي تربو على 600 صورة فوتوغرافية ومادة بصرية (2).
ورغم أن العارف كان قد أعد "النكبة بالصور" أولًا باللغة العربية، ونشره بهذه اللغة أيضًا عام 1961، حيث شكل إختراقًا في الكتابة التاريخية العربية، نظرًا لإعتماده بكامله، على الصور الفوتوغرافية، إلا أن إستدراك نشره باللغتين الإنكليزية والعربية معًا، كان واحدًا من المحاولات المبكرة لتعريف الرأي العام الغربي على طبيعة النكبة الفلسطينية، وضحاياها، في الوقت الذي كان فيه أسيرًا للدعاية الصهيونية والاستعمارية التي صورت قيام إسرائيل بإعتباره فعلًا إنقاذيًا لليهود، ضحايا المحرقة النازية، على أرض بلا شعب، وليس على حساب الشعب الأصيل الذي واصل العيش على أرض فلسطين منذ آلاف السنين.
يمكن قياس حجم الجهد الذي بذله العارف منفردًا، وتقدير قيمته، عند مقارنته بالجهود اللاحقة لرواية التاريخ الفلسطيني الحديث من خلال الصور الفوتوغرافية. فهذه الجهود (وأبرزها كتاب د. وليد الخالدي "قبل الشتات" الصادر بالإنكليزية عام 1984، وبالعربية، عام 1987)، استندت إلى أُطر مؤسسية ومساهمات بحثية جماعية مساندة للمؤلفين الرئيسيين(3).
كما أن هذه المؤلفات التاريخية المصورة الحديثة، استعانت على رواية التاريخ الفلسطيني بأراشيف صور محترفة متوفرة لدى المتاحف والمكتبات الغربية الكبرى، ووكالات التصوير العالمية. وقد توفرت لمعديها، كما في حالة كتاب "قبل الشتات"، مجموعات صور مقتناة، أبرزها مجموعة كبرى لأحد كبار مصوري فلسطين في عهد الإنتداب، ألا وهو خليل رعد(4)، أما عارف العارف فقد تصدى لهذه المهمة، منفردًا، بوسائل الإتصال الشخصي، بحثًا عن الصور المنشودة لإعداد كتابه عن أحداث النكبة وصناعها، وأبطالها وضحاياها.

مصادر "النكبة بالصور"

مستفيدًا من المواقع والأدوار التي شغلها في مسيرته السياسية والإدارية الطويلة، ومن صداقاته الممتدة وقدراته التواصلية مع الأطراف الفاعلة في الحركة الوطنية الفلسطينية، ولا سيما الفصائل المقاتلة والمناضلين الأفراد وأسرهم، فضلًا عن علاقاته الوثيقة مع الهيئات الاجتماعية والنسوية والصحية التي لعبت أدوارًا إسعافية وإنقاذية لضحايا المشروع الصهيوني في فلسطين – أقول مستفيدًا من كل هؤلاء قام العارف بتجميع مادة كتابه، أي الصور الفوتوغرافية ورسوم الخرائط والأشكال التوضيحية الأخرى، بجهد شخصي محض.
وتعبيرًا عن عرفانه لهؤلاء يتوجه عارف العارف، في الصفحتين 495 و497، بشكره إلى المؤسسات والشخصيات التي زودته بالصور المستخدمة في كتابه هذا. ومن تلك الصفحتين نجد أن العارف حصل على صور الكتاب من مصادر متنوعة للغاية، أغلبها مصادر شخصية أو من أفراد.

من اليمين إلى اليسار: رجا العيسى وعيسى الناعوري وأكرم زعيتر 

ومنهم: عزت طنوس مسؤول مكتب اللاجئين الفلسطينيين في نيويورك؛ المصوران الشهيران في "الأميركان كولوني" بالقدس: إريك ماتسون وجون د. وايتنغ وزوجة الأخير؛ مدير دائرة السياحة في القدس لطفي المغربي، وآخرون في نفس الدائرة؛ النقيب رشيد عريقات رئيس ممثلي العرب في لجنة وقف القتال المشتركة، ثم طائفة واسعة من الشخصيات كان العارف على صلة مباشرة معها، منهم مدراء مدارس، أو أصحاب مكتبات، ومناضلون من قادة "الجهاد المقدس" مثل كامل عريقات و عناصر "فرقة التدمير" التابعة لها: مثل فوزي القطب والعديد من المناضلين الآخرين.




وممن زودوا العارف بالصور رجا العيسى، صاحب جريدة "فلسطين" ورئيس تحريرها؛ عيسى الناعوري، الأديب الأردني المعروف والمقيم في فلسطين حينذاك؛ يعقوب العودات، المعروف باسم "البدوي الملثم". ويخص العارف هنا أكرم زعيتر بالشكر، ويصفه بـ "الزعيم الفلسطيني المعروف، الذي تلطف ووضع تحت تصرفي مجموعة صوره النفيسة التي جمعها أثناء القتال في فلسطين" (5).

إلى اليمين عزت طنوس وإلى اليسار جون وايتينغ  

كما رجع العارف أيضًا إلى بعض المجلات العربية مثل "المصور" المصرية، و"رسالة الأردن" الأردنية، ووكالة التصوير اللندنية The London Illustrated News, The Waiter Stonman and the Barrats photo press، إضافة إلى المتحف الحربي الإمبراطوري في لندن، ومتحف الآثار الفلسطيني في القدس.
ومن المصورين الفلسطينييين المحترفين الذين إستعان العارف بصورهم كل من: إبراهيم خليل رصاص، علي زعرور، حنا صافية، غطاس جهشان.
وتبين قائمة مصادر الصور التي تمت الإستعانة بها في إعداد الجزء السابع من كتاب النكبة، مدى الجدية التي أولاها المؤرخ الفلسطيني الكبير لمؤلفه التاريخي المصور.

إلى اليمين حنا صافية وإلى اليسار علي زعرور 


متى وكيف توصل العارف الى فكرة الكتاب المصور عن النكبة؟

لا يروي عارف العارف متى وكيف إنتهى إلى فكرة إعداد كتابه المصور عن النكبة، إذ لم تتضمن مقدماته للأجزاء الستة الأولى من كتابه - الموسوعة أية إشارة إلى نيته إصدار مثل هذا الكتاب، بل إنه لم يشر في مقدمته للجزء السابع من النكبة، أي "النكبة بالصور"، متى وكيف اهتدى إلى فكرة الكتاب، أو متى شرع فيه، مع أنه أطنب في الحديث عن أهميته والتزامه الحياد والموضوعية في إعداده.
لقد عرف عن العارف انكبابه على كتابة مذكراته يوميًا، منذ وقت مبكر من شبابه، ورغم أنه لم يكن متفردًا في هذه الممارسة التي شاركه فيها العديد من أبناء النخبة الفلسطينية، كما يروي الباحث الفلسطيني بلال شلش، إلا أنه كان، على الأرجح، الأكثر انضباطًا في التدوين اليومي، وهو ما أفاده في كتابة "النكبة"، ولا سيما الجزأين الأول والثاني منه (7)، غير أنه لم ينقل عن العارف أنه كان جامعًا للصور الفوتوغرافية، ولذلك فمن المرجح أن فكرة إعداد كتاب تاريخي مصور عن النكبة الفلسطينية قد راودته بعد إنتهائه من الجزأين الاول والثاني من موسوعته، أو بعد نشر الجزء السادس منها(8).
في يومياته كتب أكرم زعيتر يوم 9 حزيران / يونيو 1961، يقول: "... في التاسعة والنصف صباحًا أقلتني سيارة إلى مطار القدس (قلندية) حيث وجدت السيد عارف العارف ينتظرني، فسلمني حقيبة فيها صور النكبة لتطبع بالإنكليزية بعنوان النكبة في صور. وقد طبع قبلًا بالعربية، وذلك لتسليمها إلى السيد شريف الأنصاري، صاحب المطبعة والمكتبة العصرية. وقد أبديت له ملحوظاتي حول النسخة العربية، مصححًا بعض الرسوم، مشيرًا عليه لحذف الرسم الذي يظهر فيه مع يهودي في بئر السبع..." إلخ(9).
تؤكد هذه الرسالة أن الجزء السابع والأخير من موسوعة العارف لم تكن بالأصل معدة لتكون جزءًا من كتاب النكبة، حيث تشير الفقرة المذكورة من يوميات زعيتر إلى أن الكتاب قد نشر بالعربية من قبل، بعنوان "النكبة في صور"، وأن فكرة نشره باللغتين الانكليزية والعربية معًا، كجزء سابع من موسوعة النكبة، طرأت لاحقًا على نشرة باللغة بالعربية، عام 1961.
لقد وصف العارف في أكثر من مكان بأن دوره في كتاب "النكبة" هو دور الراوية "الذي يروي للناس ما حدث"، ونفى عن نفسه صفة "المؤرخ"، وهو يسجل أحداث النكبة، حيث "أن أحسن التواريخ وأصدقها ما يكتبه المؤرخون، بعد مضي ما لا يقل عن ربع قرن من الزمن" (10).
فماذا عن "النكبة بالصور"؟ وهل هو يندرج في عداد "التأريخ البصري"، أم أنه سردية بالصور، خطها شاهد عيان يروي من خلالها ما عرفه ووصل إليه من خلال الصور؟! أغلب الظن أن جواب عارف العارف عن هكذا سؤال سوف يكون: إنه مجرد راوٍ اجتهد في تجميع صور النكبة من مصادرها المتعددة، واستعان بمشاهداته العيانية وتلك التي عرفها من مصادرها الثقات، في ترتيبها وتوزيعها في فصول متالية، أضاءت كل منها جانبًا من جوانب النكبة، بالاعتماد على الصور التي أتيحت له في حينها ومن المصادر التي وصل إليها.
ومهما كانت ثغرات "النكبة بالصور"، فإنه يسجل للعارف سبق الريادة وإقتحام حقل لم تكن أدبيات التأريخ العربي قد طرقته بعد، إلا بعد عقود لاحقة.

*باحث وفنان بصري.

هوامش:
(1) أوردتُ في القسم الأول من هذه المقالة أمثلة على استخدام الصور الفوتوغرافية في التجارب الفلسطينية المبكرة للتأريخ بالصور. إذ إنّ غالبيتها استخدمت الصور جزئيًّا في توثيق الأحداث التي مرّت بها فلسطين تحت الانتداب البريطاني، بينما اعتمدت على النصوص المكتوبة أكثر. كما هي حال "كتاب أحمر عن فظائع الإنكليز في فلسطين"، الذي أشرف على إعداده محمد علي الطاهر وأصدره "مكتب الاستعلامات الفلسطيني العربي بالقاهرة"، أو كتاب "ثورة فلسطين عام 1936" الذي أعدّته صحيفة "الجامعة الإسلامية"، وأصدرته عام 1937. أو أنّ تلك التجارب استعانت بالصور للتأريخ لأحداث محددة، دون غيرها، مثل الألبوم الذي أصدره ثيودور صروف عن تظاهرات يافا والقدس عام 1933، وصدر عام 1934، أو كتاب محمد علي الطاهر عن "ثورة فلسطين سنة 1936"، والذي صدر في القاهرة.
(2) نتحدث هنا عن الجزء السابع من موسوعة النكبة، التي صدرت عن المكتبة العصرية بصيدا، عام 1962، وليس عن الطبعة العربية الأولى للنكبة بالصور، الصادرة عام 1961، والتي لم نطّلع عليها بعد.
(3) في حالة إعداد كتاب "قبل الشتات" لوليد الخالدي، فقد بلغ عدد الباحثين والمدققين والمترجمين والمحررين الذين عملوا معه نحو 12 شخصًا، كما تشير إلى ذلك عبارات الشكر التي وجّهها لهؤلاء في مقدمته للكتاب المذكور. وهذا مما يُحسب لصالح الكتاب ومعدّه، لكن هذه الإمكانات المؤسسية لم تكن متاحة لعارف العارف في حينه.
(4) استعان د. وليد الخالدي بمقتنيات مؤسسة الدراسات الفلسطينية الخاصة من الصور الفوتوغرافية، ولا سيما بمجموعة المصور خليل رعد الكبيرة المحفوظة في المؤسسة المذكورة في إعداد كتابه "قبل الشتات".
(5) يُعدّ أكرم زعيتر من السياسيين الفلسطينيين الأكثر اعتناءً باقتناء وحفظ صوره وصور المناسبات والأحداث التي مرّ بها. وقد استخدم هذه الصور كملاحق في عدد من مؤلفاته التاريخية، كما استعان بها د. وليد الخالدي في كتابه آنف الذكر "قبل الشتات"، فضلًا عن عارف العارف في الكتاب الذي نحن بصدده.
(6) أنظر: شلش، بلال، "عارف العارف لزعيتر: أنا رواية"، في ألترا فلسطين: https://ultrapal.com ، 2 كانون الأول/ ديسمبر 2021.
(7) يقول عارف العارف إنه درج على تدوين مذكراته، منذ عهد الصبا والدراسة في الآستانة، في يوميات متتابعة "ما انقطعتُ عنها يومًا واحدًا، خلال الأعوام الأربعين المنصرمة". ويضيف: "ولقد ازددتُ شغفًا بتلك اليوميات عندما جدّ الجد وصدر قرار التقسيم. فرحتُ أسجل فيها ما يحدث من الأحداث غير متملق أحدًا من الناس (...) فذكرتُ ما حدث كما حدث، ودوّنتُ ما كان، كما كان، لا كما أردتُ أنا، أو أراد قومي العرب أن يكون، ولم أبالِ إن كانت روايتي على هذا النحو ما يرضي هذا الفريق أو يؤلم ذاك". أنظر: العارف، عارف، النكبة بيت المقدس والفردوس المفقود 1947-1956، الجزء الأول المكتبة العصرية للطباعة والنشر، صيدا – بيروت، 1956، ص 4.
(8) توقف العارف عن إفراد صور فوتوغرافية مرافقة للنص، بعد الجزء الثاني من "النكبة"، فهل راودته فكرة إصدار كتاب مصور عن النكبة، بعد انتهائه من كتابة الأجزاء اللاحقة (الثالث وحتى السادس)؟!
(9) يقصد أكرم زعيتر من ذكر كلمات: "الرسم" و"الرسوم" في الفقرة المارة، صورة فوتوغرافية، صور فوتوغرافية.
(10) أنظر العارف، النكبة، الجزء الأول، المقدمة، المصدر المذكور آنفًا. ص 3/4. أنظر أيضًا شلش، المصدر السابق.