Print
عمر شبانة

كازانتزاكي في القدس: خطر الصهيونيّة على مستقبل اليهود

14 سبتمبر 2024
استعادات
كان صدور ترجمة كتاب "رحلة إلى فلسطين" للكاتب والروائي اليوناني المعروف نيكوس كازانتزاكي، في عام 1989، بالترجمة المشتركة بين كل من منية سمارة ومحمد الظاهر (الراحلين لاحقًا)، وقد صدر حينذاك في دار "خلدون" في عمّان، قد مثّل لنا، نحن مثقّفي وكتاب جيل الثمانينيات، حدثًا ثقافيًّا فتح لنا الباب على فرصة لزيادة وتعميق معرفتنا، وبالتالي معرفة القارئ العربي بهذا الكاتب، بعد أن كانت معرفتنا به تكاد تكون محصورة في عدد من رواياته، وخصوصًا "زوربا" و"المسيح يُصلب من جديد" وغيرهما القليل، وقد تعمّقت تلك المعرفة بترجمة مذكراته "تقرير إلى غريكو" (ترجمة الشاعر السوري ممدوح عدوان). لكن ترجمة وصدور "رحلة إلى فلسطين" كانت حدثًا ثقافيّا فارقًا، عمل على تعميق معرفتنا بهذا الكاتب، وزيادة منسوب احترامنا له ولنتاجه وفكره الذي يحكم هذا النتاج (وأذكر أننا احتفلنا بصدوره آنذاك في بيت الصديقة المترجمة).
الكتاب يقدّم "يوميّات" رحلة الكاتب والروائي كازانتزاكي إلى فلسطين عامي 1926- 1927، وسط قافلة دينية من اليونانيين الذين تركوا بيوتهم، متجهين إلى أرض الميعاد، للمشاركة في احتفالات عيد الفصح. بينما كان نيكوس موفدًا من جانب صحيفة "اليغيثروس لوغوس" اليونانية، لتغطية تلك الاحتفالات المقدسة. وفي عام 1927 نُشرت يوميات هذه الرحلة في كتاب بعنوان "ترحال"، واشتمل على رحلات كازانتزاكي لمصر وإيطاليا وقبرص. والكتاب الذي نحن في صدد الوقوف معه هو جزء من مجلد "ترحال"، فماذا عن هذه "الرحلة" الفلسطينية- المقدسيّة؟
لسنا في صدد عرض الكتاب- الرحلة تحديدًا، بل سنتناول ملمحًا أساسيًّا منه يتعلق بطبيعة رؤية الكاتب إلى كلّ من فلسطين من جهة، واليهود والحركة الصهيونية من جهة مقابلة. فالكتاب، بحسب وصف المترجمين في "التصدير"، هو بمثابة "وثيقة تاريخية مهمة، كتبها روائي ومفكر مهم في هذا القرن (العشرين)، دان فيها الصهيونية قبل أن يتنبه العالم إلى الخطر الصهيوني، وإلى الكوارث التي ستقع على العالم أجمع، نتيجة لهذه الحركة التي سيكون وقودها اليهود قبل غيرهم".
كما أن الكتاب يحتوي على رؤى وأفكار عميقة، تخص الصراع العربي الصهيوني، وتكشف عن نبوءة الكاتب للقرن العشرين عن هذا الصراع، هذه النبوءة التي أكدت الوقائع صدقها، ولعل أخطر ما فيها هو ذلك الحوار الساخن الذي دار بين كازانتزاكي وإحدى الشابات الصهيونيات، وسنعرض لهذا الحوار، فمن خلاله استطاع صاحب "زوربا" أن يصل إلى عمق الروح اليهودية، وأن يُبرز رؤيته الفلسفية للشتات كحتمية تاريخية، وللصهيونية كنهاية تراجيدية للجنس العبري، كما جاء في تصدير المترجمَين.

دوافع الحجّ 

منذ عنوان الفصل الأول "نحو أرض الميعاد" يلتقط القارئ خيط الرحلة وخطّها والروح التي تحكمها، فهو يتساءل مستغربًا، وهو يرافق أفواج الحجيج إلى الديار المقدّسة، عمّا "يدفع الإنسان المعاصر، بعد 19 قرنًا على ولادة السيد المسيح، لمغادرة بيته، والبدء في هذه الرحلة الشاقّة والمكلفة، إلى الشرق، بين العرب، للعبادة في هذا المعبد المسيحي الذي لم يعرف كُنهه بعد؟!"، هذا ونحن نعلم أن روح كازانتزاكي مسكونة بالشرق وتراثه ومكوناته.
ورغم جماليّات وصف الرحلة على ظهر السفينة، وحركة الحجّاج اللافتة، سنبقى في السياق الذي نذرنا هذا المقال لأجله، فمع الاقتراب من أرض فلسطين "التي توهّج منها ذات يوم ذلك النور الذي انبثق من بيت صغير وضيع في الناصرة ليضيء، ويبعث الحياة والنشاط في أرض البشر"، يبدأ بالاعتراف بأن المواعظ لم تعد تمتلك "مقوّمات حقيقتها"... بل هي مجرد "قيمة تاريخية"، ولذا فهو يلتفت إلى وضع الإنسان وقيمته في عصر يدعوه "الصيغة الحديثة للربّ"، حيث يجب أن "تتقولب الجماهير داخل مصانعها وأكواخها وقلوبها الميتة التي تكاد تختطف من صدورها... ويجب على الربّ أن يشبه صيغتهم الخاصّة".





في البداية تظهر له حيفا "داكنة بجانب الرمال البيضاء أمامها. وعلى يسارها ظهرت المدينة اليهودية الجديدة تل أبيب (تل الربيع)، والمنظر البحريّ المتجهّم...". ثمّ نلتقي بالكاتب في القدس، عند مدخل القبر المقدّس. وهو يصف الاحتفالات وقرع الأجراس، وجولاته في الكنائس والأديرة، وسط حضور كثيف ومتعدد الصور للحجيج والرهبان، وتأمّلات عميقة في هذه الأجواء المقدّسة، وبعد طواف في مسجد عمر، حيث المسجد "يوفّق بين قلبي وروحي ويغمرني بالهدوء"، وتسحره الحروف العربية المجدولة كالأزهار، ثم عبور الساحة المطلة على القدس والقديمة و"المسجد المهيب الرائع"، والوقوف على جبل الزيتون حيث يتخيّل "يهوه وهو يقف بأنفه المنتفخ يتقبّل القرابين..."، ويقف على "معبد سليمان العظيم"، حيث "عادت إلى مخيّلتي دمويّته وتاريخه الطافح بالحقد والعنف"، ثم يسخر من فكرة إعادة بناء الهيكل على أنقاض مسجد عمر.

العرب واليهود
تحت عنوان "بكاء العبريّين"، نجد الكاتب في شوارع القدس المعتمة المسقوفة، حيث "وميض عيون العبريّين يومئ بالتهكّم والقلق والتشهّي والحسد"، وكان "المسلمون هادئين مؤمنين بعمق وقناعة برعاية الله، وهم يرمقونك بنظرات لا أباليّة محايدة..."... وكان مسرعًا "توّاقًا للوصول إلى حائط معبد سليمان الذي مرّ عليه أكثر من ثمانية عشر قرنًا"، حيث كان اليهود "يندبون بلدهم المفقود، ويدعون الإله "يهوه" للنزول ثانية كي يعيد الألق إلى معبده". ثم يجد نفسه أمام حائط سليمان الذي بدا له عاديًّا جدّا، بحجارة ضخمة مرصوفة بدون حشوات إسمنتية بينها. ويشهد صلوات اليهود، نسوة وأطفالًا وكبارًا، يتوسّطهم قزم، ويسمع بكاءهم ويتابع تقبيلهم الحائط، ويلفت الانتباه قول الكاتب "لقد اجتمع اليهود في هذا المكان الذي جاءوا إليه من جهات الأرض الأربع... ليغرقوا في هذا الطقس البكائيّ الغريب"، ويعدّد الأماكن التي جاءوا منها؛ من الجزيرة العربية، من بولندا، من بابل، من روسيا وإسبانيا واليونان والجزائر.
ويصفهم بأنهم "كانوا مبعثرين في كلّ بقاع الأرض، في غيتوهات اليهود المظلمة، وفي العصور الوسطى كانت الجدران العالية تفصلهم عن بقية المدينة، الأبواب تُفتح في الصباح وتغلق في الليل"، ثمّ يصف وضعهم في شمال فرنسا في العصور الوسطى بأنهم كانوا يُجبرون على ارتداء القبّعات الصفراء والكبّود الأحمر أو الأخضر، ليتمّ تمييزهم من أجل تعذيبهم وإساءة معاملتهم. وحين يسوقونهم إلى المحرقة يُلبسونهم الحلل السوداء الحزينة، ويسوقونهم بين الجماهير التي ترتّل اللعنات على رؤوسهم.
ثم ينتقل كازانتزاكي ليصف الروح اليهودية القادمة من الشتات بأنها "تريد أن تقهر الأرض، تريد أن تجعل كلّ الشعوب تابعة لإيقاعها. وتريد سحق الواقع المعاصر، لأن الأرض لا تستطيع أن تحتمله، هذه هي خاصيّتهم المميزة العميقة". ومقارنة بالإغريق الذين كانوا يحبون بناء نسق موازٍ لنسق القوة ونجحوا في الانسجام والتوافق، فاليهود يحاربون بلا انقطاع لتحطيم التوازن، لذلك فالواقع غير قادر على احتوائهم واحتمالهم.
صديق عبريّ ملحد يسخر من تفكيرهم بأن "صرخاتهم التي يطلقونها في الهواء قادرة على إعادة بناء القدس، في حين أن الإنتاج الضخم وتوزيع الثروات، هما وحدهما القادران على خلق الجنس البشري الفعّال، وبناء القدس الجديدة". ويُبدي نيكوس تضامنه مع "هذه الأصوات التي يسخر منها الرفيق، معلنًا أنها (الأصوات) هي التي كانت دائمًا البشائر التي زرعت البذور في الهواء، وبعد ألفين من السنوات جئتم أنتم أيها السيكولوجيّون والليبراليون والمنطقيون كي تحصدوا ثمارها...".
فجأة ينظر الزائر المدعو للكتابة (نيكوس)، فيرى أريحا "كواحة معزولة"، ببساتينها ونخيلها وينابيع مياهها المتفجّرة، وسط الرمال. وفيما هو يمتدح "العمل اليهوديّ" في التعمير والزراعة، يلتقي بالمعلّمة اليهودية جوديت التي جاءت لترافقه في رؤية حديقة للأطفال اليهود، فيُفاجئها بالسؤال "ماذا حصل كي تصبحي صهيونية؟"، فتجيبه "كنت أدرس الطب، ولم تكن لديّ أية انتماءات لأي بلد أو دين"، وتضيف أنها كانت تشعر بالشفقة والرأفة تجاه الجنس البشري كله، لكنها كانت قلقة وحائرة، حيث رأت أوروبا قديمة ومألوفة ومبتذلة، ولهذا وجدت نفسها متعطشة لشيء جديد، فجاءت إلى فلسطين، وباتت تشعر بأنها حية وقوية وقادرة على حب الأرض، وعلى الإحساس بالغبطة لأنها تنتمي إلى الجنس اليهودي.
وحين يسألها لمَ لم تذهب إلى روسيا؟ تقول إنها تبحث عن الحرية التي لا وجود لها في روسيا. يسألها إن كان قد وجدت حريتها هنا (في فلسطين) فتجيبه إنها وجدتها. فيرد عليها "لقد بدأتِ بفقد حريّتك..."، فتصرخ الفتاة "نحن لا نريد أن نظلّ اليهود الرحّل، أكثر من ذلك"، ويردّ عليها "لن تجدوا السعادة والأمن هنا في فلسطين"، ويوضح لها بأن هدف الحركة الصهيونية لدفع اليهود للاستقرار هنا يجعلها حركة "منافية ومناقضة للمصالح العليا لجنسكم اليهودي". فالشتات لا الاستقرار هو قدَر اليهوديّ. ويعود ويكرر أن الصهيونية لن تستطيع أن تحشر خمسة عشر مليون يهودي في فلسطين "لن تجدوا الأمن هنا، فخلفكم- وهذا ما لا يجب أن تنسوه- جموع من العرب السمر الأشداء المتحمّسين". ويحيل على قول أحدهم في عام 1832 إنه "حين مات غوته انتهت حقبة تاريخية وبدأت حقبة جديدة، حقبة حكم اليهود". ولأنه يحب اليهود- كما في قوله- فهو يأمل أن "يتمكن العرب، عاجلًا أم آجلًا، من طردكم من هنا، وأن يعيدو تشتيتكم في هذا العالم". وإذ يصلان حديقة الأطفال ويجدهم يلعبون يقول: "بحركة عفوية وجدت نفسي أداعب شعورهم الناعمة، فقد أحسست فجأة بشعور تراجيديّ تشاؤمي يغمر قلبي".
في الخلاصة يتساءل؛ مَن الذي سوف يحمي اليهود من الحركة الصهيونية الإمبريالية الكولونيالية الغاشمة والمتوحّشة؟!