Print
نبيل سليمان

الإبادة الاسرائيلية الأميركية للكنعانيين الفلسطينيين والهنود الحمر

15 سبتمبر 2024
استعادات
في صيف 1982 كتبت كلمة غلاف الترجمة العربية لكتاب (تاريخ الهنود الحمر) تأليف الأميركي دي براون وترجمة توفيق الأسدي. وكان الكتاب قريب العهد بترجمته، إذ صدر عام 1970، وهو يقدم وجهة نظر الهنود الحمر في تاريخهم، جوابًا على السؤال: كيف تباد الشعوب، وكيف تدمر الحضارات؟ وقد ختمت ما كتبت بالقول: "ولعل لذلك أن يكون دلالة ما في هذه السنين،...". ولئن كنت أذكر جيدًا بعد أكثر من أربعين سنة أن ما حفّزني على نشر الكتاب في الدار التي كنت قد أسستها للتو، دار الحوار، هو ما حذفته بعد الفاصلة التي تركت كلمة الغلاف مفتوحة، أعني: أننا نحن الهنود الحمر لهذا الزمن في البلاد العربية بعامة، وفي فلسطين بخاصة، على يد أميركا البريطانية أو بريطانيا الأميركية، وعلى يد إسرائيل الأميركية أو أميركا الإسرائيلية.
ربما كان سرّ الحذف فيما ينطوي عليه المحذوف من مبالغة أو استبطان الضحية أو... لكن الأمر انجلى لي بعد سنوات عندما قرأت في مجلة (الكرمل) الفلسطينية ما كتبه الكاتب السوري المولد الذي ما فتئ يعلن أنه فلسطيني الاختيار: منير العكش، وأعادت نشره (أخبار الأدب) القاهرية في ملفها الدوري (البستان) وذلك في العدد 405 تاريخ 9/7/2000.
يرفض منير العكش تشبيه الفلسطينيين بالهنود الحمر، ويعدّ ذلك مهينًا. وحسنًا أنني حذفت ما حذفت من كلمة الغلاف بعد الفاصلة. أما الإبادة التي كتب دي براون تاريخها في أميركا، أو كتبها منير العكش، فها هي تتجدد في إهاب عصري إسرائيلي أميركي في فلسطين. وقبل المضيّ أبعد، قد يكون من المفيد لقراءة ما هم عليه من حرب الإبادة في غزة: الرئيس الأميركي جو بايدن ونائبته المرشحة للرئاسة كامالا هاريس ومنافسها دونالد ترامب؛ أن نعود إلى ما وثقه منير العكش وسواه مما قام به الرؤساء الأميركيون المؤسسون وأركانهم من الإبادة. وفي المقدمة هوذا جورج واشنطن الذي لقبه هنود السينيكا بهدام المدن، يأمر الجنرال جون سوليفان في عام 1776 بإبادة هنود الأوروكوا، من دون أن يصغي إلى نداء السلام. وقد كتب (أبو الجمهورية) جورج واشنطن إلى السناتور جيمس دواين: "إن طرد الهنود بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها". وهو من دمّر 18 مدينة من مدن هنود السينيكا العشرين. أما المدينة/ العاصمة التي تحمل اسمه فقد قامت فوق المقبرة الجماعية لمدينة (نكن شتنكه)، وهي مدينة شعب كونوي على ضفاف نهر البوتوماك، أبيدت عام 1623، بينما أعلن أبو الجمهورية أن الموقع الذي اختاره لبناء العاصمة كان مستنقعات خاوية. وليس بأقل منه رسول الحرية الأميركية وكاتب وثيقة الاستقلال والرئيس الثالث للولايات المتحدة: توماس جيفرسون، الذي أمر وزير الدفاع بمواجهة الهنود بالبلطة إلى أن يفنيهم. وليس بأقل الرئيس السابع أندرو جاكسون الذي لقبه الهنود بالسكين الحادة، وقد قاد جنوده في ذبيحة الآلاف المؤلفة من الهنود التشيروكي والتشكوتو والكريل و... وسوى الرؤساء، من الأركان، حسبنا حاكم ولاية كاليفورنيا الذي خاطب المجلس التشريعي قرابة عام 1850 بقوله: "إن حرب الإبادة قد بدأت فعلًا، ويجب الاستمرار فيها حتى ينقرض الجنس الهندي تمامًا".




في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 جرى تداول لقب جديد للرئيس الأميركي جو بايدن هو (جو الإبادة الجماعية). فالإبادة الجديدة في تاريخ البشرية، إبادة الفلسطيني، ليست وقفًا على ب. نتنياهو أو بن غفير أو أي من (الحمائم) الإسرائيليين. وتذهب الإشارة هنا إلى كتاب (غزة تروي إبادتها)، والذي ضم سرديات توثق لحرب الإبادة في غزة، منها ما حكته هبة الأغا عن الناس الذين "يحملون رؤوسهم المقطوعة ويمشون".
أعادتني هذه الصورة الفادحة إلى كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل سار (الإصبع الصغيرة)، حيث يشبهنا سار بالأسقف القديس دينس الذي قصل (قطع، جزّ) رأسَه جنديٌ فرنسي في منتصف الطريق، فحمل الأسقف رأسه المقصول (المقطوع، المجزوز) إلى أعلى التلة. ويمضي ميشيل سار من حاضرنا إلى مستقبلنا، حيث تحمل (الإصبع الصغيرة) رأسها بين يديها، وتلمس أزرار الحاسوب، فينفتح، فتضع رأسها أمامها، وترمح كيف تشاء... ولمن يستزيد أحيله إلى فقرة (إنهم يقصلون الرؤوس... أليس كذلك) من كتابي (في التباب ونقضه- 2020). لكن الوكد الآن هو فيما كتب منير العكش عن القطع الأميركي للرؤوس الهندية، مما تجدده إسرائيل في غزة أو الضفة، ولكن ليس بالسيف أو البلطة.
وضعت السلطات الأميركية مكافأة لمن يقتل هنديًا ويأتي برأسه، ثم صاروا يكتفون بفروة الرأس. وفي 12/9/1694 رصدت المحكمة العليا في مستعمرة ماساشوستس مكافآت مختلفة لمن يأتي بفروة رأس هندي، مهما كان عمره أو جنسه. وتوزعت المكافآت بين خمسين جنيهًا للمستوطن الأميركي العادي، وعشرين لمن كان في ميليشيا، وعشرة جنيهات للجندي. وبعد عشر سنوات صارت المكافأة مئة جنيه لفروة الرأس الهندي، بينما كانت ستة جنيهات لفروة الرأس الفرنسي: أجل، الفرنسي، فلنتذكرْ حرب السنوات الست الإنكليزية الفرنسية (1754 – 1760)، ولنتذكرْ تنافس الشركات الإنكليزية والفرنسية على اصطياد رؤوس الهنود، لا فرق بين حليف أو عدو منهم.
في بورتلاند، وبلغة اليوم: في غزة أو مخيم جنين، كانت شركة توماس سميث، وبلغة اليوم شركة سموتريتش، تستأجر مغامرين، وتزودهم بالذخائر والمعدات لقتل الهنود والعودة بالرأس أو الفروة، في مقابل ثلث المكافأة. وسلخ الرأس كان نهجًا مكينًا منذ الحروب الإنكليزية الأيرلندية أواخر القرن السادس عشر. ومن هستيريا الإبادة الإنكليزية كان زرع جانبي الطريق إلى مقر زعيم الانتفاضة الأيرلندية بالرؤوس المقطوعة.

دمّر جورج واشنطن 18 مدينة من مدن هنود السينيكا العشرين (Getty)

قصل الرؤوس الهندية صار رياضة إنكليزية، فالرياضي الإنكليزي يتباهى بلباس الصيد، وحذاء الصيد المصنوع من جلود الهنود. ولم يكن قطع الرؤوس وحده ما أبدع المستوطن المستعمر، ففي السلخ أبدع أيضًا. ومن أخبار البطل التاريخي والرمز الوطني الكولونيل جورج روجرز أنه أقام حفلة لسلخ ستة عشر أسيرًا حيًّا. وطلب هذا الذي كان من أمثولات القوات الخاصة، من الجزارين أن يتمهلوا في السلخ، كي يستمتع المحتفلون بالفرجة. ولمن يشاء أن يصدق أو لا يصدق ما يروي الليوتنانت جيمس كاتون من أنه سمع جنديًا يروي أنه اقتطع فرج امرأة وعلقه على عود لعرضه. وسمع جنديًا آخر يروي أنهم اقتطعوا فروج هنديات، وشدوها على مقدمات سروج خيولهم، أو عرضوها على قبعاتهم في أثناء عرض عسكري. وروى جندي ثالث أنه شق قلب هندية ورفعه على عود. أما العضو الذكري فقد كان يُصنع منه كيس للتبغ، وصار هدية الأعياد والأفراح، وعلامة من علامات الفروسية والأرستقراطية، مثله مثل الشاربين!
لم يكن قطع الرؤوس وسيلة الإبادة الوحيدة. فكما أن لإسرائيل طائراتها ومدافعها ومختلف أنواع الأسلحة في إبادة الفلسطينيين، كانت لحامل الحضارة والتمدن إلى الهنود (إبداعات) في الإبادة منذ البداية. فاللورد جفري إمهرست، القائد الإنكليزي العام، أمر بنشر وباء الجدري بين القبائل التي لم يبلغها الوباء بعد. ومن أجل ذلك استخدمت الأغطية (البطانيات) الملوثة بجراثيم هذا الوباء.




وفي عام 1850، عقب الاستيلاء على ولاية كاليفورنيا الغنية من المكسيك، كتبت صحيفة سان فرانسيسكو: "إن الهنود هنا جاهزون للذبح وللقتل بالبنادق وبالجدري، وهذا ما يتم الآن فعلًا". ولمن يحسب أن كل ذلك بات من الماضي البعيد، هي ذي (سياسة التعقير) تنادي ذلك الماضي إلى الحاضر، وذلك فيما عُرف بـ(سياسة التعقير) في منتصف سبعينيات القرن الماضي، قبل نصف قرن فقط، عندما اكتشفت الطبيبة الهندية (الأميركية) كوني أوري في المستشفى الذي تعمل فيه في ولاية أوكلاهوما كيف يُقضى على خصوبة النساء الهنديات، كما تقتضي تلك السياسة الإبادية.
عندما أشهر يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لاءاته الإبادية، ليس فقط بوجه قطاع غزة، بل بوجه العالم كله، وفي المقدمة العرب والمسلمون: "لا كهرباء ولا طعام ولا غاز. كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات بشرية"، كان يواصل النهج الإبادي الإنكليزي الذي سيصير نهج الولايات المتحدة ويبيد الهنود الحمر. وفي هذا النسب العتيد لغالانت ولإسرائيل، يقول منير العكش إن أميركا ليست إلا الفهم الإنكليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية. فالأميركيون الأوائل سمّوا أنفسهم عبرانيين وإسرائيليين. كما سمّوا أنفسهم شعب الله المختار. ولماذا نذهب بعيدًا، بينما الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون يشبه نفسه في خطابه في 5/2/1998 بالملك سليمان، ويشبه الأميركيين بشعب الله المختار؟
ليست أميركا - يردف منير العكش – إلا الفهم الإنكليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية. ففكرة أميركا "استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة" هي فكرة إسرائيل. ومن اللاهوت الإسرائيلي استمد الاستعمار الاستيطاني مبررات إبادة الهنود الحمر: "هوذا شعب يقوم كلبوة ويرتفع كأسد لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى: العهد القديم – سفر العدد 23، 24".
وللحديث صلة.