Print
سمير رمان

ذكرى ولادة كاسبار ديفيد فريدريش: رائد الرومانسية في أوروبا

16 سبتمبر 2024
استعادات
في الخامس من أيلول/ سبتمبر 2024، احتفل عالم الفن في مختلف أرجاء العالم بمرور 250 عامًا على ولادة الرسام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش/ Caspar David Friedrich (1774 ــ 1840)، بإقامة معارض في أرجاء كثيرة من العالم، بما في ذلك مدينة دريسدن الألمانية، التي عاش فيها أكثر من 40 عامًا.

وللمناسبة، تُعقد مؤتمرات، وتُكتب مقالات، وتنشر تباعًا طبعات متنوعة من الكاتالوغات. كاسبار فريدريش تخطى منذ وقت طويل، وتخطت أعماله، موضة النقد الفنّي، بعد أن احتلّا في الثقافة الجماهيرية مكانة رفيعة لم يحظ بها أيّ من أصدقاء الرسّام الرومانسيين، أو حتى الكلاسيكيين.
اليوم، تحتل لوحات فريدريش قيمةً عالية في الفنون الأوروبية، لدرجةٍ أنّه يصعب التصديق أنّها كانت، يومًا ما، مرميةً في أدراج النسيان، تارةً بسبب عدم الاكتراث بها طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتارة على يد النازية التي عمدت إلى تغييب أعماله لمدة ثلاثين عامًا كاملة (غابت زمن الحكم النازي لأنّه كان يعد فخرًا للقومية الألمانية من ناحية، وبسبب أنانية النازية الثقافية عمومًا من ناحية أُخرى، وبشكلٍ خاصّ لأنّه كان أحد الرسامين المفضلين لدى هتلر الذي رآه نموذجًا للفنّ الآريّ).
ينتمي فريديريش إلى صنف الفنانين المطلوب منهم أن يكونوا عنوانًا يسطّر على راية هذه الفكرة العظيمة أو تلك. وفي كلّ مرّة، كان الفنان يتعامل بمهارة مع أيّ دورٍ يناط به. ونتيجة لموقف الفنان، فإنّ سنواتٍ طويلة ستمرّ قبل أن تتحرر نظرة النقاد إلى فنّه من العقد والأعباء الأيديولوجية.
في ألمانيا، ينظر إليه باعتباره الرقم واحد بين الرسامين الرومانسيين. ولد الفنان في وقتٍ كان يشهد فيه عصر النهضة أفضل أيام القرن الثامن عشر. لم تكن ولادة الفنان في أحد مراكز الحياة الفنية، بل كانت في بلدة غرايفسفالد الواقعة في أقصى شمال ألمانيا الحالية، والتي كانت حينها ضمن مناطق النفوذ السويدية. درس كاسبار في كوبنهاغن في مدارس تتمتع بسمعةٍ طيبة، والأهمّ أنّها كانت متحررة لأقصى درجة من النزعة الإيطالية في الفنّ، تلك النزعة التي تخضع لتأثيرها أغلب أكاديميات الفنون الأوروبية. انتقل عام 1798 إلى مدينة دريسدن، حيث عاش قرابة الأربعين عامًا، ومات فيها. في شبابه، كان فنانًا يعمل وفق قوانين كلاسيكية، أي أنّه كان فنانًا بلا بريق، يرسم الصور الشخصية، ولوحات لأشخاص بلا هوية، ولكن الأهمّ أنّه كان يرسم المناظر الطبيعية، التي غدت تدريجيًا الأهمّ في فنّه.




أوجد فريدريش أساليب مبتكرة في رسم المناظر الطبيعية بالتحديد، واستطاع تطوير مشاعر مغايرة وسياقات مختلفة عمّا هو سائد. وإنْ كان المشاهد يرى بالكاد عشاقًا عاطفيين في لوحاته المبكرة، فإنّه بحلول عام 1805، أصبح البرد والوحدة يغزوان مساحةً أكبر فأكبر من لوحاته. لم يكن التنويه بعام 1805 من باب الصدفة، ففي هذا العام، ربح الفنان جائزةً في مسابقة نظّمها غوته شخصيًّا. على الرغم من أنّ المنافسة كانت ضعيفةً ومحليّة، فقد كان للمديح الذي أغدقه غوته على أعمال كاسبار أهمية كبيرة. بعد ثلاث سنوات، أكمل الفنان أولى مجموعة لوحاته الضخمة بعنوان: "الصليب في الجبال/ Das Kreuz im Gebirge"، حيث لم يشغل الصليب مركز اللوحة، بل اقتصر الأمر على ظهوره كتاجٍ على قمة أحد الجبال، أي أنّه كان مجرد نقشٍ في المناظر الطبيعية التي امتصت كلّ شيءٍ بالكامل.

كاسبار ديفيد فريدريش (أوتوبورتريه)


لاحقًا، سيكون الإنسان في أيّ منظرٍ تبدعه ريشة الفنان مجرّد متأمّلٍ سلبيٍّ لعظمة الطبيعة، وربما لهذا السبب كان الفنان يرسم الشخوص من الجهة الخلفية. ضباب، قمم جبلية، صخورٌ طباشيرية، جليد، سطح البحر الساكن، عواصف، كلّها مكونات في لوحات الفنان تبرز عظمة الله وإبداعه. أمّا الإنسان، سواءً كان بطل اللوحة، أو مجرّد مراقبٍ لها، فلم يحظ إلا بدورٍ هامشيّ. ومع ذلك، فإنّه دورٌ ليس بالسهل: فالرومانسية تتطلب من الإنسان المشاعر، أمّا تنمية تلك المشاعر فهي هدف تسعى إليه جميع الفنون. وفريدريش فنانٌ رومانسيّ مثاليّ، ولهذا بالضبط كان محبوبًا جدًا من معاصريه، ولكنّه كان منسيًّا من قبل الغرباء على الرومانسية.
استقبلته ألكسندرا فيودوروفنا، إمبراطورة روسيا المستقبلية، وبمساعيها اشترى الإمبراطور نيقولاي الأول لوحاته. وبتوجيهٍ منها أيضًا، جاء إلى دريسدن مبعوثها فاسيلي جوكوفسكي، وزار عام 1821 مرسم الفنان، واشترى على الفور بعض أعماله، واستمر بعدها في الشراء، ونصح طيلة سنواتٍ عديدة آخرين غيره بشراء لوحات الفنان الألماني.
بعد عقود من وفاته، لمع اسم كاسبار فريدريش فجأةً عام 1906. كان ذلك بعد افتتاح "معرض المئوية" في برلين، حيث عرضت فيه مخرجات قرنٍ من الفنّ الألماني، من بينها ثلاثون لوحة بريشة فريدريش أثارت ضجةً غير مسبوقة. منذ تلك اللحظة، راح الفنانون والنقاد يقتبسون، يستشهدون، ويكتبون إهداءاتٍ لفريدريش من دون انقطاع. علاوة على ذلك، بدأ بعض الباحثين ينظرون إليه باعتباره نقطة انطلاق "الفنّ الحديث": من المفهوم أنه كان لدينا مونيه ورسامين سورياليين كثيرين، ولكنّ النقاد رأوا فيه نموذجًا أوليًّا للفنان البريطاني مارك روتكو/ Mark Rothko، وكذلك رأوا فيه أصول العبقرية الألمانية القاتمة لدى الرسام الألماني أنسيلم كيفر/ Anselm Kiefer.
اليوم، أصبح جانب آخر من جوانب الفنان حقيقة واقعة، ألا وهو أنّ كاسبار فريدريش فنانٌ رومانسيّ حقيقي يحمل عواطف سياسية جياشة. لقد كان فريدريش مناهضًا متحمسًا لنابليون، وكارهًا كبيرًا للثورة الفرنسية. وهذا عزّز في نفسه الشعور بالفخر الوطني، وكرّس كثيرًا من الكلمات والأفكار نصرةً لأفكار الحريّة والاعتزاز بوطنه.
البراغماتيون الذين كانوا ينظرون إلى فريدريش، في المقام الأول، باعتباره مصدرًا للاقتباسات في الثقافة الجماهيرية، لا يحبون لوحاته، لكنّهم هم أنفسهم سيتجمدون في المعرض أمام هاويةٍ ضبابية، أو أمام قمّةٍ جبلية، ويقفون مثل عمالقة فريدريش ووجوههم صوب ما هو "الإلهيّ" في لوحاته، وظهورهم صوب ما هو "الواقعيّ"، وفجأةً ستبدأ قلوبهم بالتوتر، وستتسارع الأفكار في رؤوسهم. في كلّ شخصٍ، هنالك لمحات صغيرة من الرومانسية، لذا سيكون من الطبيعي أن يجد زوار معارض فريدريش التي تقام عبر العالم (نيويورك، برلين، دريسدن، وصولًا إلى سانت بطرسبورغ) شيئًا من الرومانسية في لوحاته.