في كتابها "أورلاند"، تقول فيرجينيا وولف: "للملابس وظائف أكثر أهمية من مجرد إبقائنا دافئين، فهي تغيّر نظرتنا إلى العالم ونظرة العالمِ إلينا". قد لا يدير كلّ الكتاب بالًا لدور الأزياءِ في أعمالهم، إلّا أنها أداةٌ شديدة الأهمية، وإذا عرف الكاتب استخدامها قد تطوّر من عمله بالفعل، أو تصبح إلهامًا لدور الأزياء العالمية، من يعلم! فما هو دور الأزياء في الأدب؟
الروايات ودور الأزياء العالمية
لم تُنظّر وولف في فلسفة الأزياء أو توليها أهمية في أعمالها وحسب، بل غدت أعمالها نفسها مصدر إلهامٍ للمصممين في السنوات الماضية، إذ قدمت كلير وايت كيلر، المديرة الإبداعية السابقة لدار "جيفنشي" الفرنسية، في مجموعة الأزياء الراقية لخريف وشتاء 2020، عرضًا مستوحى من أفكار وروايات فرجينيا وولف، خاصة روايتها "أورلاند"، التي تتناول مواضيع معقدة كالهوية، الزمن والتحولات الجندريّة.
جيفنشي ليست الدار الوحيدة التي استوحت تصاميمها من الأدب، كذلك فعلت "ديور وشانيل وبرادا"، وعلامات تجارية أخرى، على سبيل المثال في مجموعة الأزياء الراقية لعام 2017، استلهمت ماريا غراتسيا كيوري في "ديور" تصاميمها من رواية "رحلات جوليفر" الخيالية لجوناثان سويفت، عاكسة روح الاستكشاف.
ولا بد من الإشارة إلى أن تحوّل أزياء الروايات إلى سلعة لرأسمالية العلامات التجارية ليس أفضل ما قد يحصل للأدب، لكن لا بدَّ من الإشارة إلى ذلك لفهم محورية الثياب في الأعمال الأدبية.
عن الموضة الأدبية
قال أوسكار وايلد مرةً: "الموضةُ سريعةُ الزوال، الفنُّ خالدٌ"، لكن ماذا لو أعاد الأدب إنتاج الموضة، تخيّلها ومنحها نظرة مغايرة، لا نتكلم هنا عن حقائب "ايرمس" التي يجب على كلّ امرأة ثريّة أن تمتلكها، أو نظارات "ديور"، بل عن نمط خاص بالرواية، ليلبس الأفراد ما يشبه الروايات لا ما يروج له الواقع، أن تقول السيدة أو الرجل: "أرتدي نمطًا يشبه رواية لألبير كامو، مثلًا، أو نجيب محفوظ، أو ...".
هذا يقودني إلى مصطلح "الوعي الفستاني" الذي أطلقته فرجينيا وولف، والذي يشير إلى العلاقة العميقة بين الملابس والهويّة الذاتية، وإلى كيفية تأثير الأزياء على الوعي الشخصيّ والفهم الاجتماعيّ للذات.
تطرقتْ وولف إلى هذا المفهوم في كتاباتها، خاصة في مذكراتها ورسائلها، واستخدمت مصطلح "الوعي الفستاني" للتعبير عن كيفية شعور النساء باللباس الذي يرتدينه، وتأثيره على إحساسهن بذواتهن، وعلى الطريقة التي يراهن بها المجتمع، ببساطة الملابس هي طريق للتعبير عن شيء خفي في أعماق البشر.
أوسكار وايلد واحدٌ من الكتاب الذين اهتموا بإطلالتهم حتى خارج الكتب، وغدا المفضل لدى مصممي الأزياء، فمثلًا استوحى ألكسندر ماكوين للملابس الرجالية لخريف 2017 كثيرًا من تصاميمه من وايلد.
وايلد نفسه قال: "إن الموضة هي شكل من أشكال القبح الذي لا يطاق لدرجة أنه يتعين علينا تغييره كلّ ستة أشهر"، محذّرًا إيّانا قبل أكثر من مئة عام من الاستهلاك المتغيّر والمتحوّل وغير المتوقف والمرتبط بوسائل التواصل الاجتماعي بشكل أساسي وبشكل الحداثة الذي يُروّج لها.
ومن السخرية حقًا، وبعد هذا الرأي لوايلد، أن يأتي مصمم أزياء في القرن الواحد والعشرين، ويستوحي مجموعة من نمط وايلد في الثياب!
الأزياء كلغة بشريّة
لم تُنظّر فيرجينيا وولف في فلسفة الأزياء أو توليها أهمية في أعمالها وحسب، بل غدت أعمالها نفسها مصدر إلهامٍ للمصممين في السنوات الماضية |
كان لوايلد أسلوبه في اللباس، وفي علاقته بها، فاعتبر أن الأزياء يمكن أن تكون ذات تأثير كما الجُمل والعبارات، وكما تُبنى الجملة كذلك يبنى الزيّ.
وهو أمرٌ تطرق إليه رولان بارت في كتابه "نظام الموضة". يعتقد بارت أن الموضة لا تقتصر على الجماليات وحسب، بل تتعلق أيضًا بتوصيل المعاني الثقافية والاجتماعية من خلال اللباس. بالإضافة إلى أن الموضة هي وسيلة للتعبير عن هوية الأفراد، وأن نظام الموضة هو نظام معقد من العلامات والرموز التي تنقل المعنى والهوية من خلال الملابس والإكسسوارات.
الموضة هي أشبه بشكل من أشكال القانون الثقافي، لكن، وللسخرية، هو قانون متغير على الدوام، ويعكس في الحقيقة البيئة الاجتماعية وحتى السياسية، ومن هنا فنظام الموضة بالنسبة لبارت يمر في دورات متتابعة، يتم خلالها تكرار الأنماط وتطورها وإقصاء بعضها، وهذا ما دفع بارت لاعتبار الموضة سيميولوجيا خفيفة وهشة، وأن ما يخلق الرغبة ليس قطعة الملابس في حد ذاتها، بل اسم الدار، أو الماركة، وليس حلمنا بهذه الملابس، إنما المعنى الاجتماعي للحصول عليها. بالنسبة لبارت تعكس الموضة النظام الطبقي والاقتصادي والسياسي للعصر.
الأزياء كعقاب للشخصية
إلى جانب دورها في إظهار الجوانب المختلفة للشخصيات، كالطبقة الاجتماعية والمهنة والهويّة الشخصية، تلعب الأزياء دورًا مهمًا في الأدب، إذ تعكس أيضًا توجهات ومعتقدات الشخصيات، وقد تساهم في تصاعد الحبكة.
في رواية "الحرف القرمزي"، للكاتب الأميركي ناثانيال هورثورن، تخيط البطلة "الحرف القرمزي"على ثيابها. وتتمحور كلّ القصة حول هذا الحرف في الحقيقة.
تدور أحداث الرواية في القرن السابع عشر في مستعمرة بوسطن، وهي مستعمرة تمتلك قيمًا اجتماعية صارمة.
تُعاقب هيستر بسبب حملها من علاقة خارج الزواج، ويكون عقابها هو خياطة حرف "A" ، الذي يرمز إلى "Adulteress"، أو "زانية"، بلون قرمزي على صدرها، ويصبح هذا الحرف رمزًا للخزي والعار، لتُعاقب مجتمعيًا. المفارقة أن الحرف القرمزي خيط بشكل فنّي للغاية، وكانت خياطته بهذه الطريقة مخالفة للقانون في المستعمرة بسبب وجود حدّ للإنفاق على الثياب، وبخاصة لأولئك الذين ينتمون للطبقة الأفقر، وهكذا يتحول رمز عقابها وإدانتها إلى شكل من أشكال مخالفة القانون، لكن وفي الوقت ذاته الفستان الذي خيط عليه الحرف مصنوعٌ من مواد شديدة الخشونة، ولونه كئيب للغاية، كما يصفه الكاتب، وكأنَّ فيه عقابًا آخر للبطلة.
تحوّل هيستر هذا الحرف شيئًا فشيئًا إلى رمز يدل على التحدّي والقوة من خلال شجاعتها في مواجهة المجتمع، ويبدأ المجتمع في احترامها بسبب قوتها وإصرارها ورغبتها في الحياة.
اللباس في تحديد الطبقة الاجتماعية
في رواية "كبرياء وتحامل" لجين أوستن، تلعب الأزياء دورًا مهمًا في الحبكةِ وتقديم الشخصيات. تدورُ أحداث الرواية في إنكلترا في أوائل القرن التاسع عشر، حول حياة الطبقة الأرستقراطية، وتتعمق في القضايا الاجتماعية والزواج والحبّ.
في البداية، نعتقد أن الملابس في الرواية هي وسيلة لتحديد الطبقة الاجتماعية والمكانة، وهذا صحيح، ولكنه ليس الاستخدام الوحيد لها، تقدّم الملابس في رواية "كبرياء وتحامل" نظرة إلى الحبّ، وتعقيدات العلاقات الإنسانية، وتساعد في إظهار التناقض بين رغبات الفرد والتوقعات الاجتماعية، مثلًا تتحدى إليزابيث بينيت المعايير من خلال ارتدائها ملابس غير تقليدية، لأنها تريد أن تشعر بالراحة لا البذخ.
تبدو الرواية سبرًا في تأثير الملابس على المجتمع، وتكشف عن الخلل في تقييم الأفراد تبعًا لمظهرهم، وعلى رغم أنها كتبت منذ أكثر من قرن من الزمان، إلّا أن الرواية تصلح لليوم أيضًا، لو رأت جين حال الموضة اليوم لربما كتبت رواية ثانية وثالثة.
القبعة كصدمة روائية
واحد من أقوى المشاهد الذي تلعب الأزياء فيه دورًا محوريًا هو في رواية "كائن لا تحتمل خفته"، لميلان كونديرا. تدور الروية حول العلاقات المعقدة بين الشخصيات الرئيسية، تيريزا، توماس، وسابينا، خلال فترة الستينيات في تشيكوسلوفاكيا. تظهر سابينا في إحدى المشاهد عارية تمامًا لا ترتدي سوى قبعة أثناء علاقتها بتوماس، تأخذ القبعة هنا احتمالات عدة بسبب شخصية سابينا المعقدة، فقد تبدو رمزًا لفرديتها وحياتها الجنسيّة، إذ تظهر كامرأة متمردة واستثنائية على طول الرواية. من جهة أخرى، قد تكون إشارة جنسية، إذ أن القبعة التي ارتدتها خاصة بالرجال، وعندما تضعها فكما لو أنها تخضع برضاها لهذه القوة. لكن، أيضًا، للقبعة ذكرى عاطفية بالنسبة لسابينا، إذ تذكرها بجدها.
لكن المثير حقًا في المشهد برمته هو نجاح كونديرا، ومن خلال قبعة وحسب، في وضع القارئ في بعد روائي مقلق واستفزازي.
احتمال الحلم والملابس
في كتابه "الطريق إلى رصيف ويغان"، كتب جورج أورويل: "قد يكون لديك ثلاثة ونصف بنسات في جيبك، ولا يوجد لديك أي احتمالٌ في العالم... ولكن في ملابسك الجديدةِ يمكنكَ الوقوف على زاوية الشارع، وتنغمس في حلم يقظة خاص بنفسك".
لقد رافقتنا أحلام اليقظة منذ كنا أطفالًا، إذ أثّر الأدب على مخيلتنا تجاه الثياب، فكانت القصص التي يرويها الكبار، أو نقرأها، تعرّفنا على الشخصية الشريرة من خلال ثيابها السوداء، وكانت الأميرة في حاجة لثوب برّاق لتلفت الانتباه! لا شكَّ في أن قصص الأطفال سابقًا كانت تركز، عادة، على هوية الشخصيات النسائية، عبر مظهرهن الخارجي أكثر من الشخصيات الذكورية.
في العصر الحديث، لم تعد مهمة الأزياء كسو الجسد، أو الحماية من البرد وحسب، بل باتت شكلًا من أشكال الانتماء إلى المجموعة، لكن ليس أي مجموعة، بل تلك التي تقول إنها تفهم الموضة، وتستطيع مجاراتها. اليوم، وبتأثير من وسائل التواصل الاجتماعي، ورأسمالية الاقتصاد، بات اللباس وسيلة للامتلاك، ليقول صاحبه إنه بات يشبه التوجه السائد، ولم يعد وسيلة للتعبير الحقيقي عن النفس.