Print
عبد الرحيم العلام

ذكرى صدور كتاب "مفارقات الصهيونية": الكابوس الكبير!

22 سبتمبر 2024
استعادات
من المؤسف جدًا أن يكون قدر عديد من مفكرينا وكتابنا ومبدعينا في العالم العربي أن يطاولهم النسيان بعد رحيلهم المأسوف عليه، فيصبح تذكرهم واستحضار إرثهم الفكري والفلسفي والأدبي والنقدي والفني أمرًا نادرًا وأحيانًا متعذرًا، بعد أن كانوا قد ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، في حياتهم. والأسماء الكبيرة لهؤلاء الرموز كثيرة، لكنها أضحت متداولة على نطاق ضيق، في بلدانهم وخارجها، بعد تواريهم عن دنيانا، وانحباس حضورهم الرمزي المؤثر الذي كان يملأ المشهد الثقافي العام، في العالم العربي وخارجه. وقد يصعب، في سياق كهذا، أن نستعيد جميع تلك الأسماء الكبيرة التي غادرتنا وطواها النسيان، وإن بمستويات متفاوتة، أذكر من بينهم، على سبيل المثال فقط لا الحصر، المفكر والأديب المغربي محمد عزيز الحبابي، مؤسس مذهب الشخصانية الإسلامية (توفي عام 1993). وكان الحبابي يكتب أعماله باللغتين العربية والفرنسية، وتُرجم بعضها إلى أكثر من ثلاثين لغة، وهو أحد المرشحين السابقين، في زمنه، لجائزة نوبل سنة 1987.

مناسبة هذا الكلام، إذًا، ونحن نعيش مآسي غزة ومقاومتها البطولية في الوقت نفسه، استحضارنا لأحد هؤلاء المفكرين والباحثين والمبدعين العرب، وهو الراحل عبد الكبير الخطيبي، الذي اشتهر بصيته الواسع، هنا وهناك، وبما خلفه من مؤلفات عديدة في مجالات مختلفة، ترجمت مجموعة منها من اللغة الفرنسية، التي كان يؤلف بها، إلى اللغة العربية، وإلى غيرها من لغات العالم، إلى أن توفي سنة 2009 في الرباط، إثر نوبة قلبية.
يعد الخطيبي من المفكرين الذين شغلوا الفكر العربي والعالمي والبحث الأكاديمي، داخل الجامعة العربية وخارجها، بمثل ما شغل الباحثين والقراء العرب والأجانب، بفكره التنويري وبإسهاماته الرائدة في مجال علم الاجتماع والنقد والإبداع الأدبي والثقافة الشعبية، وغيرها من مجالات الكتابة والتفكير والإبداع التي أسهم فيها بشكل رائد ومضيء، بتراكم تآليفه وتنوّع حضوره في المشهد الفكري العام.




فاز الخطيبي بجائزة الأدب في الدورة الثانية لمهرجان "لازيو بين أوروبا والبحر الأبيض المتوسط" في إيطاليا، عن مجمل أعماله، كما حصل على جائزة "الربيع الكبرى" التي تمنحها جمعية "أهل الأدب" الثقافية الفرنسية، عام 1838، باسم أهم كتاب الأدب الكلاسيكي بفرنسا وأكثرهم شهرة: بلزاك، وفيكتور هوغو، وألكسندر دوما.
وهذه المكانة المرموقة التي يحظى بها الخطيبي، محليًا وعربيًا ودوليًا، جعلته، كذلك، محط تنويه واعتراف من لدن كبار الباحثين في العالم. ويكفي، هنا، أن نستعيد ما قاله عنه الباحث الفرنسي الشهير رولان بارت، في تقديمه لكتاب الخطيبي الصادر بالفرنسية، بعنوان "الاسم العربي الجريح"، عام 1980، وقام بترجمته إلى العربية الشاعر محمد بنيس، حيث يعترف بارت في تقديمه بعنوان "ما أدين به للخطيبي"، بما أضافه له الخطيبي معرفيًا على صعيد الهوية، قائلًا: "إنني والخطيبي نهتم بأشياء واحدة، بالصور، الأدلة، الآثار، الحروف، العلامات. وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديدًا، يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها، يأخذني بعيدًا عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى من نفسي" (ص 15). فضلًا عن صداقاته الفكرية مع مفكرين غربيين، يأتي على رأسهم جاك دريدا، الذي ربطته صداقة إنسانية وفكرية مع الخطيبي.
ورغم أن جانبًا من النسيان قد بدأ يتسلل إلى ذكرى الخطيبي التي ستظل مع ذلك موشومة في ذاكرتنا الجماعية، نجد أن أحد الغيورين على إرثه الفكري والعلمي، هو قريبه الباحث والمترجم مراد الخطيبي، ما فتئ اليوم يلعب أدوارًا مهمة ومتواصلة، على مستوى الاهتمام بمشروع الخطيبي وبتراثه الفكري والأدبي والتعريف بهما، مشرقًا ومغربًا، كما تعكس ذلك بعض مؤلفات مراد عن عبد الكبير وعن صداقاته الإنسانية والفكرية، إلا أنها تبقى مجهودات فردية وغير مؤسساتية، للأسف الشديد، لكنها مشكورة.
ومن المعروف أن علاقة عبد الكبير الخطيبي بفلسطين، حضارة وتاريخًا وأرضًا وإنسانًا وثقافة وحقًا، هي علاقة مترسخة في وجدانه ووعيه، كما في كتاباته وحواراته ومناقشاته، وفي الندوات التي شارك فيها ببلده وخارجه. وداخل هذا الأفق الإنساني والرمزي والثقافي الذي تشكل فلسطين بؤرته، كما هو ممتد في وعي مجموعة من المفكرين والمثقفين والمبدعين المغاربة، وفينا جميعا، تجدر الإشارة، هنا، إلى أن الشاعر محمد بنيس قد أصدر في السنوات الأخيرة كتابًا هامًا، بعنوان "فلسطين: ذاكرة المقاومات" (2021)، في صيغة "تأليف متعدد"، إثر الإعلان عن "صفقة القرن"، وأيضًا إثر ما تواجهه فلسطين من محو لذاكرتها ولاسمها ولخريطتها، وهو الكتاب الذي أهداه بنيس إلى صديقه القديم الخطيبي، الذي كان له، أيضًا، تأثير كبير على بنيس، منذ 1970، حين كان بنيس طالبًا بكلية الآداب بفاس، فقد حصل أن زار بنيس الخطيبي بالرباط وكانت فلسطين مدار حديثهما، فطلب الخطيبي، الذي كان يتهيأ لتأليف كتاب عن الوعي الشقي الصهيوني، من ذلك الشاعر الشاب الذي كانه (محمد بنيس) أن يمده بوثائق فلسطينية، فكان إهداء بنيس لكتاب "فلسطين: ذاكرة المقاومات" لعبد الكبير الخطيبي، تقديرًا منه لعمل يظل حتى اليوم متفردًا في محاكمته للأيديولوجية الصهيونية، وتقديرًا لموقفه الصريح وانتصاره للقضية الفلسطينية.
وإثر ذلك، أضحى مشروع الخطيبي متحققًا، حيث أصدر عام 1974 كتابًا باللغة الفرنسية بعنوان: "القيء الأبيض: الصهيونية والوعي الشقي" (Vomito Blanco: Le Sionisme et la conscience malheureuse)، ضمن سلسلة 18/10 الفرنسية الشهيرة، وسرعان ما نفد الكتاب من السوق وقتها، فقام الخطيبي بإعادة نشره، مع أبحاث أخرى، ضمن كتاب باللغة الفرنسية، بعنوان "مفارقات الصهيونية" (Paradoxes du Sionisme)، صدر عن دار الكلام بالمغرب.
وحتمًا، يستحق هذا الكتاب أن نستعيده اليوم، ونخلد ذكراه الخمسين، أمام راهنية أسئلته التي لا يزال لها امتدادها وأهميتها المضيئان، رغم مرور نصف قرن على صدوره، ومن خلاله نستعيد ذكرى عبد الكبير الخطيبي، بما يشهد له به من مواقف إيجابية من القضية الفلسطينية، ومن دفاع راسخ عنها، بمثل ما يعرف بمواقفه النقدية الجريئة للصهيونية، اعتبارًا لأهمية هذا الكتاب القصوى، الذي صدر في سياق اهتمامات الخطيبي، في أبحاثه ومراسلاته ومشاركاته في ندوات دولية، بموضوع الصهيونية، قبل أن يغادرنا، في ارتباط أبحاثه ومقالاته بقضايا أخرى أساسية ذات صلة بسؤال الصهيونية نفسه، كالقضية الفلسطينية، والمسألة اليهودية والإسلام وبقية الديانات السماوية وغير السماوية.
وكتاب "مفارقات الصهيونية"، قديم ــ جديد، بالنظر لكونه يتضمن نصوصًا ومقالات سبق للخطيبي أن كتبها ونشر بعضها في مرحلة زمنية سابقة، من زمن اهتماماته بالصهيونية وتحليلاته لسؤالها. فلقد أعاد الخطيبي جمع عدد من النصوص ذات الصلة بالموضوع في كتابه، ومن بينها نص "القيء الأبيض: الصهيونية والوعي الشقي"، مصاحبًا بمجموعة أخرى من النصوص التي لم يسبق نشرها، كنص "الحق في العقل" (Droit à la raison)، و"فرويد والإسلام" (Freud et l’Islam)، و"أفكار" (Pensées)، ومقال "ما وراء مناهضة السامية والصهيونية" (Au-delà de l’antisémitisme et du sionisme)، وهو المقال الذي سبق للخطيبي أن نشره، بمجلة "دراسات فلسطينية"، عدد 1، باريس 1984. تلك، إذًا، نصوص كتبت مستقلة، وتنتمي إلى فترات زمنية مختلفة، لكنها تتجمع كلها في شكل سؤال، على حد تعبير المؤلف.
يتكون كتاب الخطيبي "مفارقات الصهيونية" من 159 صفحة من الحجم المتوسط، وللأسف لم يعرف طريقه إلى الترجمة إلى اللغة العربية حتى اليوم، بالرغم من أهميته القصوى والممتدة، كتاب يقسمه مؤلفه إلى خمسة فصول رئيسة، ومقدمة مركزة، يطرح فيها الخطيبي سؤالًا على النحو التالي: لماذا هذا الكتاب اليوم؟ واستهله بتساؤل: هل نتجه نحو السلام والتفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ يجيب الخطيبي بنعم، فالوضع التاريخي والمصالح الاستراتيجية لكل طرف تتقارب بشكل استثنائي ملحوظ. ويربط الخطيبي كتابه هذا بمبدأ السلام الفلسطيني والإسرائيلي الذي هو سلام في صيرورة، متسائلًا عن مستقبل السلام بين فلسطين وإسرائيل. من ثم، يرى الخطيبي أن الرأي العام العالمي أكثر اطلاعًا على الوضع في الأراضي المحتلة، وعلى المقاومة المتواصلة للفلسطينيين، وعلى السياسة الحقيقية لمنظمة التحرير الفلسطينية.




فما الذي تريده إسرائيل، إذًا؟ يتساءل الخطيبي، هل تريد سلامًا من دون سلام؟ تلك هي المفارقة الأولى التي تعيشها الصهيونية ومن يناصرها. لقد تم الاعتراف بدولة إسرائيل من قبل خصومها، ليس بشكل قانوني، ولكن في الواقع بقوة الظروف. لذا، فتأسيس هذه الدولة هو حقيقة الصهيونية بحد ذاتها، قبل وبعد الإبادة الجماعية الشريرة وفظائعها الشديدة، ومع ذلك ظلت الصهيونية أسيرة هذا الرعب، فيما يتبع التاريخ نظامًا جديدًا ينظم العالم. إنه مسرح لحروب أخرى وأهوال أخرى، ولإفقار لا نرى له نهاية، وهكذا أصبحت الصهيونية رهينة كابوس كبير. ولهذا السبب، فإن "جيل شامير" لا يؤمن بالسلام، حيث يظهر له السلام كشيء غير قابل للإدراك، وغير مفهوم، إن لم يكن سخيفًا. وبهذه المعاني، يصبح السلام نفسه كابوسًا...
أما المفارقة الثانية التي يطرحها الكتاب، فهي مفارقة واضحة، انطلاقًا من هذا التقاطع غير المجدي: دولة (إسرائيل) على أرض محتلة، ودولة بدون أرض (فلسطين). من هنا، يحاول الخطيبي التمييز بين ما هو من نظام العقل والفكر وما ينتمي إلى الفحوى البسيكولوجي لهذه القضية الخطيرة، وهو ما يجعل من هذا الكتاب نوعًا من الملفات النظرية والسجالية في الوقت نفسه.
من هنا، جاء الفصل المعنون بـ"الحق في العقل"، عبارة عن رؤية عن بعد مسافة، لوضع اليهود داخل بلد واحد: المغرب، استهله الخطيبي بالتذكير بجملة أولى سبق له أن عبر عنها، تتعلق بكونه لم يحلم أبدا بإبادة واقعية، أو متخيلة، لليهود، وذلك إبان ندوة جمعته بجاك حسون (Jacques Hassoun)، بحضور جمهور من أصل مسلم، ومسيحي، ويهودي، (بحضور فلسطينيي الأرض المحتلة)، في ستراسبورغ، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1985، وهي الجملة التي أعقبها صمت لا ينسى، وهو التصريح الذي تلته مناقشة بين مسلمي ستراسبورغ ويهودها الذين قرروا الاجتماع والعمل معًا.
وينتقل الخطيبي إلى الحديث عن مقاطع من سيرته الذاتية، وهي مقاطع تذكرنا بافتتاحية سيرته الذاتية التي أرخ لها في كتابه السير ذاتي "الذاكرة الموشومة"، وهو سياق دفع بالخطيبي إلى التساؤل عن الأشياء التي ورثناها من مرحلة الاستعمار؟ كالتقسيم الاستعماري للمدينة إلى ثلاثة أطراف: طرف لإقامة الفرنسيين، وطرف لليهود (الملاح)، ثم المدينة (Medina)، حيث يقيم معظم السكان. ويواصل الخطيبي الحكي عن سيرته الذاتية، في ارتباطها بهذه الأطراف الثلاثة، ثم في ارتباط المستعمر الفرنسي (ليوطي) بها وبسياسة تطويقها عسكريًا وتقسيمها.
ويتناول الخطيبي قضية الحرب البسيكولوجية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وقد وصلت درجات عالية من القسوة، انطلاقًا من مجموعة من الممارسات التي يقوم بها الإسرائيليون تجاه الذاكرة الفلسطينية، فإسرائيل، على سبيل المثال، تريد تجريد فلسطين من ذاكرتها، وسرقة خيالها، وإعادة تسمية الملابس التقليدية لهذا الشعب، ومأكولاته، ومجوهراته وحليه، وإعادة تسميتها باسم عبري، فبأية حدود حقيقية وخيالية، ستحافظ إسرائيل على عدم شرعيتها؟ يتساءل الخطيبي.
وفي خضم حديث الخطيبي عن حي "الملاح" الفقير الذي كان يأوي اليهود في بعض المدن والقرى المغربية، يشير إلى أنهم كانوا الأكثر بؤسًا، وسيصبحون بروليتاريين بهجرتهم إلى إسرائيل، حيث أسس الجيل الثاني من هؤلاء المنفيين (بالقوة والخوف) حركة سياسية هامشية تم خنقها بسرعة، هي "الفهود السود" الذين لم تكن لديهم أية علاقة بثورة الأميركيين السود. ويضيف الخطيبي أنه قد التقى ببعض أعضاء هذه الحركة الصغيرة في باريس عام 1975 بعد نشر كتابه "القيء الأبيض"، الذي وزع في إسرائيل فبيع بسرعة، وبعد نفاده من السوق، قامت تلك الحركة ذات الأصل المغربي بنسخ كتابه لتوزيعه بطريقة موازية، وقد أسعده "عمل القرصنة الصغيرة ذاك".
ويختم الخطيبي الفصل الأول من نص "الحق في العقل"، بالإشارة إلى رسالة للكاتب الإسرائيلي عاموس عوز وجهها إلى شعبه، مفادها: أن كل طرف من الأطراف المعنية لا يتصارع مع عدوه، بل يتصارع ضد الظلال العٌصابية لماضيه الخاص. فالعرب، يقول عاموس، لا يروننا، بل يرون الفرنسيين والإنكليز والأتراك، أما نحن فلا نرى العرب على الإطلاق، نرى الروس، والمذابح، وهتلر!
أما البحث المعنون بـ"القيء الأبيض: الصهيونية والوعي الشقي"، فيعد من أطول فصول الكتاب، ويقدم تحليلًا للأيديولوجية الصهيونية وتلقيها من طرف الرأي العام، وخصوصًا الأوروبي في سنوات السبعينيات. يُضمن الخطيبي في هذا البحث مجموعة من المقالات المتخللة على النحو التالي: استهلال ــ الوعي الشقي وشقاء اليسار ــ دموع سارتر ــ فاصل ــ هل ماركس ضد السامية ــ الماركسية ضد الصهيونية ــ عقدة أوديب أو عقدة إبراهيم؟ يسوق الخطيبي في مستهل هذا الفصل، سياقات تأليف هذا الكتيب، الذي كتبه في تموز/ يوليو 1973 قبل اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة، ما مفاده أن هذا النص سبقته رغبتان في التقيؤ، الأولى سببها الأسبوع الأحمر الأردني في أيلول/ سبتمبر 1970، والثانية، بعد ذلك بعامين، بسبب الهجمة العنصرية، بعد انتفاضة سبتمبر الأسود في ميونيخ. فهذه الأحداث هي التي حددت ظهور هذا النص. وبعد كل شيء، قلت في نفسي، يضيف الخطيبي، إن معاداة السامية والصهيونية قد ولدتا في الغرب.
ثم يطرح الخطيبي مجموعة من الأسئلة، التي لم يتمكن من الرد عليها حينها، من قبيل: لماذا الإصرار على تدمير الشعب الفلسطيني؟ وما هي طبيعة الصهيونية وما غموضها في الوعي الغربي؟ لماذا نغمض أعيننا عن الإبادة العرقية للفلسطينيين، ونسكت عن الجرائم الصهيونية؟ هل بسبب الإبادة الجماعية النازية؟ وبالضبط لماذا كل هذا العمى وسوء النية الصارخ؟ وبعد أن هدأ الغضب، يضيف الخطيبي، كان لا بد من تحليل هذا الجرد من الأسئلة وإعطائها قوة المقروئية، وترجمتها بصبر في كتيب ذي طابع سياسي، واضح ومقنع.
وينتقل الخطيبي إلى الحديث عن اليسار الفرنسي الذي يهمه بشكل خاص في هذا الكتيب، فيشير إلى أن هذا اليسار لم يستطع أن يتخذ موقفًا متماسكًا بصدد هذا الجدل الدائر بين الصهيونية والقومية الفلسطينية، ذلك لأن صوت اليسار مريض بذاته وبأيديولوجيته الخاصة.
هكذا يرى الخطيبي أن مشروعه العام يتمثل في القيام بنقد الصهيونية، باعتبارها وعيًا شقيًا، وإدانة ما يربط هذه المواقف الغامضة لدى الرأي الفرنسي، وخصوصًا لدى اليسار، بتجربة الشقاء، في بعدها اليهودي المسيحي. من ثم، فإن الحرب الإسرائيلية ــ العربية في السادس من أكتوبر، يقول الخطيبي، لم تدمر الوعي الشقي، فإسرائيل باحتلالها للقدس قامت بتحويلها إلى عاصمة للوعي الشقي.
ويواصل الخطيبي في بحثه الحامل لعنوان ساخر "دموع سارتر"، انتقاده للصهيونية، من خلال نقده القوي والجريء وغير المسبوق لمؤسس الوجودية المفكر الفرنسي جان بول سارتر، في مساندته المفضوحة للمشروع الصهيوني، مشبهًا دموعه بدموع التماسيح، بما أن موقفه ذاك يعكس، في بعده التداولي، ازدواجية الخطاب لدى الرأي العام الغربي وتمزقه تجاه القضية الفلسطينية.
أما بحثه عن "فرويد والإسلام"، فيراه الخطيبي الحجة الثالثة لعمله، بما هو جسر نظري بين التحليل النفسي والأشكال المختلفة للمقدس التوحيدي، كما يراها فرويد. ويسمح لنا التحليل النفسي، يضيف الخطيبي، بوضع الإصبع حول ميكانيزمات القمع والصدمة في هذا الصراع الشديد الذي يثير إشكالية كبيرة، فيما يتعلق بالمستقبل القريب، أو البعيد. ففرويد، يقول الخطيبي، لم "يهود" التحليل النفسي، ونحن، يضيف الخطيبي، لا نريد "أسلمته".
وفي مقاله الأخير، "ما وراء مناهضة السامية والصهيونية"، متبوعًا بـ"أفكار"، اللذين يعدهما الخطيبي معًا بمثابة اعتبارات حول التسامح وأخلاقياته، يطرح الخطيبي بصدد هذه الاعتبارات سؤالين، حددهما في كيفية معرفة حياة الآخر، القريب؟ وكيف يمكن، داخل هذا الصراع نفسه، أن نلتفت نحو وجهه؟