Print
إسكندر حبش

زاهر الغافري: السفر والترحال يلهمان كتابتي

23 سبتمبر 2024
استعادات

ثمة شيء يتهدم في هذه الحياة، حياتنا. يغادر الذين نحبهم، ويتركوننا وحدنا، لا لنرثيهم، بل لننتظر اللحاق بهم. ومع هذا الانتظار، تعاودنا الذكرى، وأشياء كثيرة نعجز عن إيجاد صفة لها، في هذه اللحظة التي تعقب خبر الرحيل.
لا أعرف متى دخل الشاعر العُماني زاهر الغافري (الذي غيبه الموت نهار السبت الماضي) إلى حياتي، أو متى دخلت إلى حياته. لكن ما أذكره، هو أننا أصبحنا أصدقاء منذ أن التقينا لأول مرة. ربما هو الشعر الذي قربنا. نقول هذا لنجد تبريرًا. لكننا ننسى دائمًا أن ثمة إنسانًا قابعًا في داخلنا. وهو الذي يقربنا فعلًا.
هي سنون عديدة في هذه الصداقة، التي حاولنا منذ فترة أن نستعيدها عبر الكتابة. بالأحرى عبر حوارات متنوعة، لنخرجها في كتاب (شبيه بتلك الكتب التي عملت عليها منذ سنوات)، حيث نتطرق إلى جملة من موضوعات الحياة: الكتابة، والاجتماع، والسيرة. لكن الحياة لم تمهلنا لكي ننتهي منه. في أي حال، هنا هذه المقتطفات من الفصل الرابع، بمثابة تحية، وتحية فقط، لصديق يترك فراغا أكيدًا مع رحيله.

زاهر الغافري بين شبيب الأمين وإسكندر حبش


[...]
(*) أشرت إلى قراءتك الأولى عبر التركة التي ورثتها عن والدك. أحب أن أتوقف هنا قليلًا، لأننا نكتب بسبب أننا قرأنا. أعتقد ذلك. من قرأت بداية بعيدًا عن هذا التراث الأدبي؟
قبل ذلك لم أقرأ سوى هذا التراث إلى أن قادتني الأقدار وأنا أمشي في سوق تقليدية في مطرح، ودخلتُ بالصدفة إلى مكتبة تبيع صحفًا ومجلات، مثل الموعد والحسناء، ورأيتُ في رفٍ مجلدات مكتوب عليها شعر، حوالي 12 مجلدًا، إن لم تخني الذاكرة، بين الدهشة والفرح اقتنيتُ كل المجلدات، وكانت مجلة شعر: ليوسف الخال وأدونيس وانسي الحاج وشوقي أبي شقرا، أعني كل المجموعة من الشعراء.

(*) ماذا قدمت لك قراءة مجلة شعر في تلك الفترة؟
قراءة مجلة شعر فتحت لي أفقًا هائلًا على صعيد التفكير في الكتابة وطرائق التعبير، وكانت عتبة مهمة لدخولي إلى بغداد، وكانت مجلة شعر ممنوعة من دخول العراق في ذلك الوقت، غير أن يوسف الخال ذهب إلى بغداد والتقى هناك بجبرا إبراهيم جبرا، وسركون بولص، وآخرين، ورغم أن مجلة الآداب أقدم من مجلة شعر، إلا أني تتلمذتُ أولًا على مجلة شعر.

(*) كيف جئت الى الكتابة، هل تذكر نصك الأول؟
بدأتُ الكتابة في عُمان بنصوص، أو قصائد تقليدية. وفي عُمان لدينا تقاليد من الشعر الكلاسيكي والتقليدي إلى حدّ كبير. لم أبدأ بالكتابة الحديثة إلا بعد ذهابي إلى بغداد. وأنت تعرف أن بغداد حينها في أواخر الستينيات، وبداية السبعينيات، كانت مركزًا مهمًا، خصوصًا في الشعر، وكانت النقاشات في المقاهي، أو الحانات، على أشدها. في بغداد، بعد قراءات متعددة في الشعر والقصة والرواية والفلسفة، نشرتُ نصوصًا في مجلة "ألف باء" الأسبوعية. كان وقتها على رأس المجلة الشاعر فاضل العزاوي، والكاتب الروائي جمعة اللامي. لا أتذكر النصوص الآن. بعدها نشرتُ في مجلة "الثقافة الجديدة"، لصاحبها صلاح خالص. أنت تعرف أن ما سُميُ بجيل السبعينيات كمصطلح إجرائي هم من جيلي، مثل كمال سبتي، وخزعل الماجدي، وهاشم شفيق، وشاكر لعيبي، وخالد المعالي، إلى آخره، المهم في تلك الفترة المبكرة فكرتُ، ويا لحماقتي، في نشر أول مجموعة شعرية لي، ثم بعد ذلك ألغيتُ المشروع من جذوره.

[...]
(*) هل يمكن القول إنك حسمت خيارك في الكتابة وأنت في العراق، بمعنى الركون إلى القصيدة الجديدة؟ هل كان للمكان التأثير الواضح في قرارك هذا؟
نعم، تمامًا. كانت تجربة العراق هي الأكثر تأثيرًا، ليس فقط على صعيد الكتابة الجديدة، وإنما على حياتي أيضًا. في العراق، وجدتُ نفسي حرًّا بعيدًا عن الإكراهات المسبقة في الكتابة، وبعيدًا عن الإكراهات العائلية والقبلية. كنت كمن يسبحُ في نهر جديد، وفي أمكنة جديدة ومختلفة، حتى على صعيد اللغة المحكية، لأنني أصبحتُ أحكي المحكية العراقية إلى درجة أنستني المحكية العُمانية، إذ بعد مضي عشر سنوات، عندما عدتُ إلى عُمان، كان أصدقائي يطلقون علي زاهر العراقي. كان للمكان تأثير كبير، فبغداد عاصمة كبيرة، وأنا خرجتُ من قرية صغيرة في عُمان. عرفتُ بغداد وخفاياها، وكنتُ في مقتبل الشباب، ومقدمًا على الحياة بنهم. لذلك تظهر بعض الإشارات في نصوصي عن الحياة التي عشتها في بغداد.

[...]
(*) لنعد إلى العراق، ومعروف عنك حبك الكبير له. متى وصلت إليه وكيف؟ ما الأسباب؟
كان خروجي من عُمان في اتجاه بغداد أشبه بفداء الأم لابنها. لو لم تمت أمي في مرحلة مبكرة لما خرجت من عُمان، ولما عرفتُ المصير الذي كان ينتظرني. أخذني أبي إلى دبي في نهاية عام 1967، حيث كان يُقيم أخي الأكبر، الأخ البكر. في ذلك الوقت كانت دبي واحة مطلة على البحر والصحراء. مكثتُ عند أخي شهورًا قليلة، وكان لأخي علاقات واسعة في مصر والعراق ولبنان وفلسطين، فدبّر لي منحة دراسية كان يقدمها العراق للطلبة العرب، من ليبيا، اليمن، عُمان، الجزائر، إلى آخره. في شتاء عام 1968، وجدتُ نفسي في بغداد للدراسة، وجاء تقسيمنا غريبًا، فأنا أُلحقتُ بملجأ للأيتام مع العراقيين لمدة أقل من سنتين، ففي عام 1970 انتقلت إلى قسم داخلي يضم عُمانيين ويمنيين.




أبي لم يكن يعرف شيئًا عن الموضوع مطلقًا. كنتُ في حوالي الثانية عشرة من عمري وعندما عرفَ أبي بعد ذلك بشهور غضب غضبًا شديدًا على أخي. بعد ذلك هدأ وشكر أخي لأنه أرسلني إلى بغداد للدراسة. لم تخلُ حياتي في العراق من متعة، متعة الاكتشاف، اكتشاف المعرفة والحب والصداقات الشعرية والسينما والمسرح والتشكيل والقراءات والمتاحف، كنتُ في ذلك الوقت المبكر من العمر كأنني كنتُ أعيش في قلب العالم.

(*) كم بقيت هناك، وماذا درست؟
بقيتُ في بغداد حوالي عشر سنوات، ودرستُ في البداية في أواخر الستينيات، ولأن عُمان لم تكن فيها مدارس حديثة إلا مدرسة واحدة هي المدرسة السعيدية في مسقط، وأنا كنتُ أسكن في قرية بعيدة، فلم أستطع دخولها. لذلك بدأتُ في بغداد الدراسة ابتداءً من الصف الرابع الابتدائي، وقبل دخولي إلى الجامعة، أُجبرتُ على الخروج من العراق. كان هذا بعد انتهاء الجبهة الوطنية في العراق بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكانت محطتي الأولى بعد خروجي من بغداد، باريس. كان ذلك في عام 1977. لماذا أُجبرتُ؟ لأنني لم أكن منتميًا حزبيًا لا إلى حزب البعث، ولا إلى الحزب الشيوعي. كنتُ مستقلًا أقرب إلى اليسار، ولذلك هددني حزب البعث، فخرجتُ ولم أعد إلى بغداد حتى هذه اللحظة. الواقع العراقي مرير حدّ اللعنة.



(*) هل يمكن القول إن ثمة صدمة ما أوجدتها بغداد في تلك الفترة، صدمة شخصية وثقافية، وسمتك بها؟
ليست صدمة، قل اندهاشًا. في أول وصولي إلى ملجأ الأيتام، انبرى صبي عراقيٌ بعمري، ومن غير سبب دفعني في محاولة منه للعراك معي، وكان أضخم مني جسدًا. نظرتُ في عينيه فأتى بقوة للمصارعة معي، ولم أعطه الفرصة فلكمتهُ في الوجه. نزل قليل من الدم، وذهب يشتكي للمشرف الذي وبخني. الاندهاشة الثانية عندما أخذتني المشرفة إلى الحمام العمومي، أو الحمام التركي، الخاص بالنساء، قبل أن أبلغ. وجدتُ نفسي أدخل في عالم ساحر من الضباب وأجساد النساء البضات، والصبايا العاريات، والمُدلّكات، والمياه الدافئة، كنتُ أنظر من وراء غشاوة الضباب كأنني في حلم. المهم دخلتُ مرة واحدة، أو مرتين، فيما بعد مُنعتُ لأنني كنتُ قد بلغت، فأقفلت عليّ باب الفردوس. من الناحية الثقافية أجل، فقد تشربتُ الثقافة والكتابة من العراق، كما ذكرتُ سابقًا، وكانت المكتبات والكتاب هي أول ما يشدني للقراءة، حتى فكرتُ مرة أنني سأُصاب بالتخمة المعرفية والثقافية، إن جاز القول.

(*) كيف تشكلت هذه الحياة البغدادية، لو ندخل في تفاصيلها أكثر...؟
تشكلت حياتي البغدادية إلى حدّ في فترة ما نسيتُ فيها تمامًا أنني من عُمان، وكنتُ متماهيًا مع المكان، بحيث نسيت اللهجة التي كنت أتحدث بها سابقًا، بل كان لدي أصدقاء رفضوا أن يصدقوا أنني من عُمان، لأنني كنتُ أتحدث معهم بلهجتهم. الفرق بيني وبعض العُمانيين الذين كانوا في بغداد هو أنهم قدموا للدراسة فقط، ثم العودة، أما أنا فكنتُ قد قطعت أواصر التواصل مع عُمان نهائيًا. أصدقائي أغلبهم عراقيون مع عائلاتهم، نسهر معًا، نشرب معًا، نذهب إلى السينما، أو المسرح، أو قاعات الفنون. ينبغي أن نفهم أنه طوال حياتي في بغداد اعتمدتُ على نفسي في كل شيء، في الطبخ، وغسل الملابس، والتسوّق، لم يكن هناك لا أم ولا أب. كنتُ وحيدًا في هذه المغامرة.




هنالك تفاصيل أخرى، منها مثلًا في بغداد تعلمتُ التدخين، وشرب الكحول من عام 1969. رحلات الطلبة إلى خارج بغداد إلى البساتين وأشجار الفواكه المتنوعة وشرب العرق مع اللحم المشوي، السباحة في نهر دجلة، المغازلات مع الصبايا، الحبّ الأول، القبلة الأولى التي كانت تفجر القلب والجسد. الاندهاشة الثالثة اللغات، فلأول مرة أسمع الآشورية والكلدانية والكردية، ولا أفهم شيئًا، تنوع من الإثنيات كان مدهشًا ومنسجمًا. لم أحس بالغربة مطلقًا، كأنني كنتُ في مكان ولدتُ فيه من آلاف السنين. كنت نسيتُ الجزيرة الخضراء، وزنجبار، وعُمان. كنتُ ألعبُ في المنقلب الآخر من العالم، وكل هذا مع الشعر دائمًا، بحيث اعتقدتُ أن الشعر ليس موهبة فحسب، بل غريزة.

(*) وكأنك في ذلك كله رغبت في نسيان عُمان.
ليس تعمدًا، وإنما جاء ذلك بشكل تلقائي وعفوي، فأنا كنتُ منخرطًا بكلّ جوارحي في المشهد العراقي، في واقع الحياة الفعلية. وكان الفضول يدفعني إلى اكتشاف مطارح وأفكار في صلب الحياة التي كنتُ أعيشها. كنتُ كمن يقول لنفسه دع عُمان تنتظر قليلًا، ودعني أكنْ هنا والآن. كنتُ أعيش بشغف على جميع الأصعدة، هل هو نوع من الانتقام من الحرمان، ربما كان كذلك على نحو غير واع.

[...]
(*) كانت بغداد أيضًا مدينة الاستيهامات؟ هل ما زلت تحنّ إلى تلك الفترة؟
أجل مدينة الاستيهامات، خصوصًا عندما كنتُ في تلك الفترة من فتوتي، لذلك يرتبط الحنين بتلك الفترة، اما الآن فحنيني مبتور، متشظٍ، لأن بغداد لم تعد كما هي. لدي أصدقاء ينصحونني بعدم الذهاب، لأنني سأصدم، ولن أجد بغداد التي عرفتها. يحدث هذا لكل المدن عندما تتحول إلى أمكنة طاردة، مع ذلك لدي أمل في أن أزور بغداد للوقوف أمام نهر دجلة، لشرب كأس في حانة كنتُ فيها قبل أربعين عامًا، ولزيارة الأمكنة التي عشتُ فيه. الأصدقاء؟ لا أظن بقي منهم أحد، من مات، ومن هاجر، ومن هو معطوب بسبب الحروب.

(*) الأمكنة هي الذاكرة من دون شك، لكننا أحيانًا لا نريد عيش اللحظة الآنية.
أجل، الأمكنة ذاكرة، والذاكرة تُعيدنا خلف الأشياء، وخلف المشاعر والصبوات، لكنني شخصيًا أحب عيش اللحظة الآنية، فهي اللحظة الوحيدة المتبقية لي لكي أمارس حياتي وفق ما أبتغي. ذهب الماضي، ويمكن استحضاره، لكن إلى حين. والمستقبل لم يأت بعد، وينبغي انتظاره. من يعرف إذا كنتَ تنتظر المستقبل وأنت ميت اليوم عن أي مستقبل ستتحدث وأنت قد رحلتَ نهائيًا. هذا يحدث فقط في السرد الأدبي، وفق نظرية الفرنسي جرار جينيت. مثلًا، عندما تكتبُ "أنا رجل ميت" الميت في الواقع لا يستطيع أن يقول هذه العبارة أصلًا، لكن في السرد الأدبي نعم يمكن.

(*) المستقبل فكرة سخيفة إلى حدّ ما، أعتقد.
المستقبل فكرة لا نعرفها، ليست في متناول يدنا، ربما كانت فكرة مثالية، ولا نقوى عليها. والمستقبل فكرة قد تكون مبنية على أبراج من الرمل. ما يهمني شخصيًا هو الحاضر، هذا المنزلق الذي أعيش فيه مهما كبرت التحديات والكبوات. لا أحلم بمثال يكون لي هو القدوة، أحلم بحاضر هو قدوتي.

(*) تطرح فكرة مهمة: ما هو الحاضر؟
الحاضر هو ما يجري الآن من ناحية الزمن. كان هيرمان هيسه غالبًا ما يشغله الماضي، وليس الحاضر. كان الحاضر بالنسبة إليه هو الواقع، وكان يرى الواقع آخر شيء يحتاج المرء لأن ينشغل به. لذلك الحاضر بالنسبة إليّ هو العيش هنا والآن، أنت تعرف مقولة هيرقليطس: لا يمكن عبور النهر مرتين. حاضري هو كتابتي الآن، والعيش في هذه اللحظة التي إن مرّت وانقضت ستصبح من الماضي، والماضي لا يعود إلا بفعل الذاكرة. لنفترض أنك فقدت الذاكرة، حينها تكون قد فقدت الماضي أيضًا.

[...]
(*) كيف اكتشفت الشعر العراقي، الذي لا بدّ أثر فيك بطريقة ما؟ مَن مِنَ الشعراء وجدت قرابة (شعرية) معه؟
اكتشفت الشعر العراقي الحديث عن طريق بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، أولًا، وبعدها عبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وسواهم، وفيما بعد وجدتُ قرابة شعرية مع جيل الستينيات، سركون بولص، صلاح فائق، مؤيد الراوي، وأيضًا بعض الشعراء من جيلي، لكن كان هذا بالتزامن مع شعراء آخرين في العالم العربي الذين كنتُ أتقاطع مع كتاباتهم.

(*) من هم شعراء العالم العربي، غير العراقيين؟ أين يجد زاهر الغافري صدى لما يكتبه؟هنالك شعراء كثيرون في العالم العربي، في لبنان وسورية ومصر والمغرب ودول الخليج والجزيرة العربية، أستطيع أن أعددهم، وهؤلاء كلهم تقريبًا أجد عندهم صدى لما أكتب، أو أحاول أن أكتب. وبالمناسبة، أغلبهم أعرفهم شخصيًا، وأعرف كتاباتهم.

(*) قلت: هنالك صدى لما تكتب عند بعض الشعراء... وهذا أمر مفهوم. لو حاولنا أن نعكس السؤال، من هم الشعراء الذين تركوا صداهم في نصك؟
ليس شاعرًا محددًا. قلتُ إنني أتقاطع مع أعمال من أجيال مختلفة، بعضهم عرب، وبعض آخر من تجارب شعرية في الغرب، من بدر شاكر السياب، إلى سركون بولص، من يانيس ريتسوس، إلى مروين، وهكذا. عوالم متعددة يدخل فيها الشاعر ويجد نفسه أنه يميل إلى صيغ شعرية وجمالية تجعله يتوقف عندها.

[...]
(*) كيف تكتب؟ كيف يختمر النص، ومتى تجد أنه انتهى، ولا تبدل فيه أي كلمة؟
نادرًا ما أكتب نصًا شعريًا دفعة واحدة. فأنا أكتب في الليل، أو ساعات الفجر الأولى. وعندما أقتنع بالنص أتركه لمدة أسبوع تقريبًا، ثم أعود إليه. وهنا أقوم بالتعديل، أضيف صورة شعرية، أو مقطعًا، وأحذف أيضًا. وعندما يكتمل النص أتركه أيضًا، وأعود إليه لاحقًا، فإذا اقتنعتُ به نهائيًا أتركه في الورق كما هو من دون تغيير. طبعًا هذا الأمر في حاجة إلى مراس، أو قل ممارسة مستمرة. هذيان نابليون مثلًا أخذ مني عامًا كاملًا، وهي قصيدة طويلة تشكل كتابًا، وصدرت عن دار خطوط وظلال في الأردن. على أية حال، تأتي الكتابة وتختمر وفق المزاج الرائق والحالة النفسية، أو عندما تُحس أن في داخلك بئرًا من اللهب.

(*) كم تحذف من النص في نهاية الأمر؟ أتصور أن الحذف يمكن له أن يكون أكبر من الإضافات؟
كلامك صحيح، أحذف كثيرًا، وقد أحذف العمل كله. وفي رأيي، على الكاتب والشاعر أن لا يخاف من الحذف. الحذف هو جزء من الكتابة. وهنالك كتابات كثيرة فيها حشو وإنشاء لا لزوم لهما. سأخبرك عن الكاتب والمسرحي والموسيقي النمساوي توماس بيرنهارد. لديه رواية عنوانها الخاسر The Loser، والراوي في الرواية يكتب عن الموسيقي مندلسون، بعد انتهاء العمل قام بمراجعته، فبدأ يحذف فقرات طويلة، ومن خلال مراجعته وهو يحذف باستمرار اكتشف أنه حذف العمل كله إلا العنوان، وهو عنوان دال: الخاسر/ The Loser.

(*) ما الذي خسرته أنت؟
خسرتُ على الصعيد الشخصي كثيرًا من الأصدقاء، خصوصًا في سنوات الكورونا، أو كوفيد 19، بعضهم كُتاب وشعراء. أما على الصعيد الشعري، فأنا لم أخسر شيئًا يذكر، بل على العكس حاولت أن أستبق الزمن في محاولة مني للكتابة، وهكذا في سنة واحدة أنجزت خمسة، أو ستة، من الكتب الشعرية التي رضيتُ عنها، وما زلت أكتب بشكل شبه يومي. وإذا ما تحدثنا عن خسارة في الكتابة، فأنا أعوض هذه الخسارة في الحياة. إن السفر والترحال يلهمان كتابتي، غير أن الزمن يشعرك بخسارة دائمة، فهو لا يعود إلى الوراء. تسمع صهيل الزمن يتقدم إلى الأمام، إنه يتجاوز الإنسان والكائنات، والغريب في الأمر أنه وحيد، لا أحد معه. وهذا أمر مربك.




(*) ما الذي شدك إلى هذيان نابليون؟
ما شدني في هذيان نابليون هو تكالب الدول الأوروبية في نفي نابليون إلى جزيرة سانت هيلانه وحيدًا تقريبًا حتى مات فيها. هذا المصير يكاد يكون فريدًا لإمبراطور حكم العالم ذات يوم وانتهت مغامراته الحربية في هذه الجزيرة بعد هزيمته. كان طموح نابليون أكبر مما يحتمل أو يتخيل. هذا أول نص أكتبه ينشغل قليلًا أو كثيرًا بدراما، لأن شخصية نابليون هي شخصية درامية بامتياز، كما أن السمفونية الثالثة التي أهداها بتهوفن إلى نابليون، ثم حذف الإهداء، هي سمفونية درامية أيضًا، والنص طويل خرج بالعربية في كتاب، وترجم إلى الفرنسية لاحقًا. حاولت أن أركز على شخصية فقدت كل شيء تمامًا، في جزيرة معزولة في ذلك الوقت، فلم يكن له سوى أن يهذي، وأن يخاطب نفسه، إنه شيء شبيه بمصائر القدر، ثم أنت لا تنسى أن نابليون كان مهتمًا بالعالم العربي، فهو غزا مصر وحيفا ويافا في فلسطين وخرج جنوده من فلسطين بعد أن تفشى في جنوده داء الطاعون. يبقى أن النص قائم بذاته فيه أجزاء من حياة ومعارك نابليون الواقعية، وفيه أجزاء مما هو متخيل.

(*) هل تشعر أنك منفي مثل نابليون؟ هل شعرك يأتي عوضًا عن هذيان ما؟
لا، أبدًا. نابليون كان منفيًا، ولم تسمح له الدول الأوروبية بالخروج من جزيرة سانت هيلانه، بينما أعيش أنا حالة من الترحال والسفر، ورغم أنني أقيم في السويد، فأنا أتحرك وأسافر إلى أي مكان في العالم، بما في ذلك بلدي عُمان. وسواء أكان هذا السفر للاستجمام، أو عبر دعوات للقراءة الشعرية. في السنة المقبلة سأسافر إلى كولومبيا في أميركا اللاتينية للقراءة. أما الهذيان فإن في الشعر جزءًا من الهذيان أحيانًا يُطلق عليه جنون الشعر. لا أتخيل أن فرلين وغيره ابتعدوا كثيرًا عن الهذيان أو الجنون الشعري والحياتي أيضًا، فبالتأكيد لدى بعض الشعراء العرب أمر من هذا النوع.