Print
رنيم ضاهر

كوكو شانيل: توأمة البوهيمية والأناقة والأسود سيد الألوان

24 سبتمبر 2024
استعادات

"لكي يكون المرء مُختلفًا، لا يُمكن الاستغناء عنه، يجب أن يكون دائمًا مُختلفًا"- تقول كوكو شانيل.

عند عودتها من نزهة المشي، في 10 كانون الأول/ ديسمبر عام 1971، استَلقت مصممة الأزياء العالمية غابرييل المُلقبة بـ"كوكو" على السّرير في جناحها الفاخر في فندق "الريتز" في العاصمة الفرنسية باريس وكانت بكامل أناقتها، مُردّدةً جملتها الشهيرة للخادمة: "هكذا يموتُ الإنسان"، وتوفيت، في الـ87 من عمرها، وكعادتها كانت تتزيّن بالمجوهرات وُمحاطة بسحر العطر رقم 5، المُتربع على عرش العطور النضرة والأخاذة.

فمن هي " كوكو"؟ وهل شخصيتها المليئة بالضجيج هي مجرد عاصفة من غبار؟  أم أن عبقريتها تكمن في التفاصيل والأزرار المضيئة والنظر إلى المستحيل بعين الوصول؟

وهل تدلّ جملتها الشهيرة "المرأة التي لا تضع العطر ليس لها مستقبل"، على علاقة السحر بين جسد المرأة ورائحة الورود والثقة بالنفس في مقابل ذكورية العالم؟

اسمها الحقيقيّ غابرييل بونور شانيل Gabrielle Bonheur Chanel وهي تنتمي إلى عائلة مُتواضعة من ضواحي باريس. على أثر وفاة والدتها، أرسلها والدها إلى الميتم مع شقيقتها، حيث أتقنت فن الخياطة، وقد عانت " كوكو" هناك من قسوة القوانين وضرورة الانضباط.

بقيت عالقة في أحلام اليقظة حتى بلغت العشرين من عمرها، أي إلى حين وصولها إلى باريس، عاصمة خيالها المستعر بالأحاسيس الواعدة. وهناك عملت غابرييل كمغنية في الملاهي وكنادلة أيضًا. ولُقبت بـ"كوكو" بسبب أغنيتها الشهيرة "من رأى كوكو"، ويعني هذا اللفظ "حبيبي". ليصبح هذا اللقب فيما بعد أهم علامة تجارية في عالم الأزياء ومرادفًا للمرأة الساحرة.

فهل من فنان لم يتأثر بعبارتيها الشهيرتين: "أفضل لون في العالم كله هو اللون الذي يبدو وحيدًا لك" و"يأتي الجمال عندما تنجح الموضة"؟

عندما خرجت غابرييل من الميتم، سواء لتُغني أو لافتتاح متجر للقبعات، كانت تعلم منذ البداية أنّها تنتمي إلى البساطة الخلاقة، والأناقة التي تشبه اليوم العاديّ والاستثنائيّ، بمعنى أن سعيها الأول والأخير هو للتخلص من معايير الطبقة الأرستقراطية. فكانت أول من حرّر المرأة من الكورسيه المؤلمة للعضلات والجسد، ليحل مكانها التايور والسترات التي اشتهرت بهما حتى وقتنا الراهن.

رسمت ملابس أنيقة للمرأة تتلاءم مع طبيعة العمل، والمناسبات الاجتماعية والرسمية والحفلات، بدون تصنع أو تكلف أو مبالغات. وقد ساهمت شانيل في تحويل ملابس الرجال كالسترات وربطة العنق إلى ملابس نسائية، بعيدًا عن الأزياء البرجوازية. فـ"كوكو" التي خرجت إلى الحياة من مكان بسيط لم تكن تُفضّل سوى الراحة والتواضع في اختيار الملبس. لذلك أعلنت حربها على الكورسيه، الذي كان بمثابة أداة للتعذيب والألم لإرضاء المجتمع وعاداته البالية حدّ الاختناق.

وقد استبدلت شانيل كل هذا الزيّ بملابس بسيطة تتألف من قطعتين أو ثلاث كحدّ أقصى. وهي في معظمها عملية وسهلة الارتداء ومناسبة للمرأة العصرية والمختلفة والثاقبة المضمون.

بدأت شانيل نشاطها التجاريّ من أحد الأحياء الباريسية المتواضعة، مطلقة من هناك علامتها التّجاربة التي سمتها "بيت شانيل"، وهو المتجر الأول المخصّص لبيع القبعات. ومن ثم انتشرت متاجرها في مختلف أنحاء العالم. ولا زالت تعتبر الأهم في عالم الموضة والأزياء.

هي التي أنتجت ماركة للماضي والحاضر والمستقبل وميراثًا من الثياب الأنيقة والمليئة بالتفاصيل الجذابة، إضافة للعطور والحقائب الفاخرة، فكأنّها اكتسبت من علم النفس دراسة المحتوى الداخليّ للأنثى لجعلها ملفتة وواثقة من نفسها من خلال إبراز المظهر الخارجيّ لمضمونها، وهذا الأمر كان كفيلًا بتقدّمها كأيقونة في عالم مزدوج المعايير والاهتمامات ومكتظ بالنظرة الذكورية المهيمنة.

تقول شانيل: "لقد عملتُ بشكل يُشبه المعجزات في الموضة، وفقًا لقواعد تنتمي لعالم الرسامين والموسيقيين والشعراء"، وربما استطاعت من خلال لمسة كلاسيكية ثاقبة، ومزاج راق بالفطرة اختيار اللون الأسود كمحور للوحاتها التشكيلية المتنقلة بين الفستان القصير، البدلة النسائية والكارديغان.

استوعبت شانيل غرابة أطوار وأفكار الرسام سلفادور دالي


وقد تمكنت "كوكو"، من خلال تعاونها مع أبرز المصمّمين الفرنسيين في تلك الحقبة، تلميع اسمها بالذهب، لتصبح دور أزيائها ملهمة لمصممي العالم. وقد انتشرت أزياؤها المصنوعة من الكتان والألوان الباهتة، والقصّات العسكرية إبان اندلاع الحرب العالمية الأولى، والتي كانت مطلبًا لمختلف فئات المجتمع، كونها عملية وتوفر الانتقال السهل من مكان إلى آخر. كما أنها كانت أول من صمّم البنطال للنساء، وقد سهّل هذا الاختراع حياتهنّ كونه أقل كلفة من الفساتين المنفوشة، والتي تعيق المرأة وتجعلها رهن الصالونات الكبيرة والنظرات المتفحصة.

أغلقت "كوكو" دار الأزياء تزامنًا مع الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد أن ثبت تعاونها مع النازيين. وكانت قد استجوبت لمرات عدّة بسبب علاقتها بالدبلوماسيّ الألمانيّ هانز غونز فون دينكلاج، لكن تدخّل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل خلّصها من التهمة الموجّهة إليها، لتغادر من بعدها إلى سويسرا. وفي عام 1954 عادت شانيل من جديد إلى باريس لإحياء دار أزياء جديدة، كمصمّمة وسيّدة أعمال تمتلك طاقة عملية واجتماعية جعلتها أغنى سيّدة في العالم.

طوّرت "شانيل" الماكينات القديمة لتصميم أزياء خاصة برقص الباليه، لتشارك في عروض عديدة منها "القطار الأزرق" و"رقصات الأوبرا"، و"أوديب الملك". وكذلك ساهمت في إنتاج عمل "طقوس الربيع" للملحن ومتعهد الباليه الروسيّ الأصل سترافينسكي، الذي ساعدته على كافة المستويات. وهي التي كانت ملهمة الفنانين وخشبات المسارح.

ضجيجها الدّاخليّ لم يضبطه الجنون والتسكع، ولا حتى سترتها المتناسقة مع مختلف الأجسام والأعمار.

"غابرييل" المشرعة الخيال، المليئة بتأويلات بوهيمية وعبثية غير منظورة الأبعاد في خياراتها التي لا رادع لها، قال عنها امبراطور العطور لوكا توران Luca Turin: "شانيل تسمى ‘كوكو‘ لأنها ألقت الكثير من الكوكايين الرائع في حفلات باريس". ولا يخفى على أحد بأنّها كانت مدمنة على تعاطي المخدرات، وكانت تحقن نفسها بالمورفين يوميًا إلى حين وفاتها، وكانت تتشارك المخدرات والصداقة مع ميزيا سيغ، وهي عضو بارز من النخبة البوهيمية في باريس، وزوجة الرسام الإسباني "خوسيه- ماريا". وكانت شانيل قد جذبت نخبة المجتمع بسبب حسّها العالي بالعبقرية والموهبة والفكاهة وسلطتها الآتية من عالم صاخب وقريب من دهاليز السحر الأسود.

يقول صديق شانيل الرسام السرياليّ سلفادور دالي: "لديها أفضل جسد وروح على وجه الأرض". وصل دالي إلى باريس التي كانت حاضنة للفن والثقافة والإبداع، على كافة المستويات سواء السينما أو الرسم أو الأزياء وغيرها. وكان الاثنان يترددان على الصالونات المتخصّصة بالإبداع. وكان ما جمعهما ووطّد صداقتهما الكبيرة، الاختلاف في الأفكار والتباعد في نمط العيش، لكن وجه الشبه الحقيقيّ هو الإلهام والتّحرر من قفص الوعي الجماعيّ. شرّعت "شانيل" مساحة في منزلها في "الريفييرا" للرسام، فأنتج أكثر أعماله غرابة وسريالية، وأهمّها "اللغز الذي لا نهاية له"، وهي من أهم الأعمال التصويرية التي حرّر بها داخله اللاواعي، وكل أدوات العبث في إطار مربع، لا يزال حتى الآن مصدر تأويل النقاد ومحبي الفن. وقد ساعد صديقته الأنيقة في تصاميمها في المجوهرات والحليّ وزجاجات العطر والإكسسوارات، تاركًا بصمته السريالية تفوح من التفاصيل العادية، وحتى من الأسماء نفسها ومنها: "دبوس عين دالي".

هكذا استوعبت شانيل غرابة أطوار وأفكار الرسام، وبأناقة مفرطة حبستها في زجاجة عطر تحمل ملامحه إلى الأبد. إذا كان دالي قد تأثر بالمذهب السريالي ونظرية التحليل النفسيّ، وإذا كان جنوحه الشخصيّ قاده إلى التناغم مع شخصية "كوكو" الباذخة بالأسود والشعر القصير والتنورة الناعمة كنظراتها الثاقبة، فقد استطاعت هي بدورها جمع الموضة تحت قبعة متناسقة، قادت المرأة إلى السير بخفة على طريق ما بعد الحربين العالميتين، لتُصبح دون منازع ملكة برجوازية للموضة وليغدو اللون الأسود خيارًا حتميًا للأناقة المفرطة والحلم السابع للمرأة الشفافة والواثقة والمنفتحة على ذاتها.

بخطى واثقة غادرت شانيل، وبقي شالها المنمق بالغيم والتفاصيل اليومية، وحقائبها تلمع في الفيترين، وفي أيدي النساء الجميلات. بقي ظلّها في التايور والقبعة البسيطة، إضافة إلى اللون الموحّد والناطق على امتداد الخشبة وتصفيق الجمهور العالي لمخيلتها غير المحدودة والمتناغمة مع ذات لا متناهية الإبداع، بدون أن نغفل عن وضوح العطر الذي ينتشر كالأزهار في دهاليز المدن.

وربما يبقى وصف الكاتبة كوليت Sidonie-Gabrielle Colette أغرب ما قيل عن "شانيل": "إذا كان كل وجه إنسانيّ يحمل شبهًا لبعض الحيوانات، فشانيل هي ثور أسود صغير، تلك الخصلة من شعرها الأسود المجعد وسمة من الثور العجول، تقع على جبينها ومن ثم على جفونها حيث ترقص مع كل مناورة من رأسها".