Print
محمود عبد الغني

إدوارد سعيد الفرنسي

30 ديسمبر 2017
تغطيات

لون الأفكار

 جابت الضيافة الفرنسية للأفكار كل الآفاق. فقد كانت لهم الريادة، خصوصاً في قضايا الأدب المقارن، حين اعتبروا الآداب والأفكار الأجنبية مفيدة لفهم أدبهم الوطني. هكذا هو الأمر، منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم. ويبقى استقبالهم لأعمال كافكا علامة كبرى في حسن الضيافة هذا. ففي سنة 1956 قال ماجا غوث في كتابه "كافكا والآداب الفرنسية" إن كافكا "كاتب ألماني اعتبره الفرنسيون كاتباً فرنسياً. "فإذا كان أدب كافكا تمثيلا لكوابيس الحياة الحديثة، للغرابة والعبث، وهذا ما كان وراء إعجاب جان بول سارتر وألبير كامي. فماذا يقف وراء إقبال الفرنسيين على دراسات إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني الذي عاش سنوات عمره بين فلسطين ومصر ولبنان ثم أميركا. والمناضل الذي ارتبط اسمه بالعديد من المفكرين المناضلين في العالم الثالث، أمثال الباكستاني إقبال أحمد (1933-1999)، أستاذ العلاقات الدولية الذي كرس حياته للنضال والمواجهة من أجل تحرير العديد من الشعوب: الجزائر، فلسطين، فيتنام...والفلسطيني إبراهيم أبو لغد (1929- 2001)، الذي كرّس حياته وفكره للقضية الفلسطينية. وقد عبّر إدوارد سعيد، في المقدمة التي وضعها للترجمة الفرنسية لكتابه "الاستشراق" عن حزنه لوفاتهما، فهما رفيقا درب من العالم ومن أجل العالم. أبسبب هذا البعد العالمي والإنساني لإدوارد سعيد ترجمت كاثرين مالامود كتاب "الاستشراق" إلى الفرنسية، بمقدمة كتبها خصيصا للترجمة المنظر الأدبي والمفكر تزفيتان تودوروف؟

    نُشر كتاب "الاستشراق" ثلاث مرات في فرنسا، الأولى سنة 1980 عن منشورات "سوي" الشهيرة، والثانية سنة 1997 عن نفس الدار، لكن بمقدمة خصّ بها سعيد نفسه هذه الطبعة ترجمتها عن الإنكليزية (يُشار في الكتاب أنها عن الأميركية) الصحافي والباحث المتخصص في القضايا الإفريقية كلود ووثيي. والثالثة عن سلسلة "بوان" سنة 2013. كما تم تذييل الكتاب بدراسة بقلم سعيد قام بترجمتها المترجم الفرنسي سيلفاستر ماينانجر، المتخصص في السينما وعلاقتها بالقضايا الأميركية التي تطرحها. كما أن له دراسات حول السينما الأميركية بعد 11 أيلول/ سبتمبر. وبذلك شكّل كتاب "الاستشراق" في اللغة الفرنسية ملتقى أفكار وقضايا تبدأ بالفكر والسياسة وتنتهي بالآداب والفنون. ربما لذلك نجد انسجاماً ظاهراً بين كتاب سعيد وبين السلسلة التي نشرته في الطبعة الفرنسية، التي تحمل اسم "لون الأفكار".

تودوروف: الاستشراق بين الخطاب الواعي واللاواعي

  تحدّدت رؤية التقديم الذي وضعه تودوروف للترجمة الفرنسية لكتاب "الاستشراق" بمفاهيم تحليل الخطاب، والتحليل النفسي والهرمينوطيقا. فتحديد كل خطاب، هو بكل تأكيد، تحديد لما يحمله، لكن إلى جانب هذا المضمون المؤكّد والراسخ هناك خطاب آخر، أحياناً يكون غير واعٍ وضمني في غالب الأحيان. وهذه الضمنية تأتي من مستعمليه: المؤلفون، القرّاء، الخطباء والجمهور. وإن تأكيد هذه الازدواجية لا يعود إلى مقابلة الصفة بالذات، أو الجماعي بالفردي، رغم أن الشخصية الذاتية لها مكانة ما هنا، بل يعود بالأحرى إلى مجموعة من الوضعيات، والمواقف والأفكار المشتركة بين الجماعة في لحظة من تاريخها حين نقوم باختبار ضغط المواضيع المتحدّث عنها والتي يتمّ تأويلها بخصوص تكوّن الخطابات. هذا المجموع هو ما يُسمّى اليوم "أيديولوجيا". إن دراسة إنتاج الخطاب بمقتضى أيديولوجي أمر يسمح بإقامة قرابة بين نصوص يفرّق بينها الشكل: إن نفس الأيديولوجيا تعمل داخل الكتابات الأدبية، والمقالات العلمية والكلام السياسي.

  حسب هذه المفاهيم اعتبر تودوروف "استشراق" إ. سعيد، أنه ينطلق من نفس الإطار المنهجي، ليخضع للتحليل نمطاً من الخطاب داخل مجتمعنا. إنه خطاب خاص في الواقع بكل مجتمع، بالرغم من أن شكل كل مجتمع يكون مطبوعاً بالحضارة التي ينتمي إليها، أي الخطاب الذي تحمله عن الآخر. كان لحقل الدراسة، يضيف تودوروف، لو تمّ التعاطي معه في كليته. لقد اختار إ. سعيد جزءاً واحداً لكنه مهمّ جدّاً، دالّ، غني: لقد آثر الآخر الخارجي عن الداخلي (بخلاف "هانس ماير" (1907 -2001) الذي كرّس دراسته عن "الأجنبي" (الآخر) حول النساء، الشواذ واليهود في المجتمع الألماني). فسعيد اختار من بين أشكال "الخارج" العديدة: الشرقي، وركّز فكره على واحدة من صيغه، إنسان الشرق الأدنى والمتوسط، المسلم والعربي. ومن بين كلّ الخطابات لم يقف إلا عند الأكثر الأكثر كشفاً عن الحقائق: تلك الموجودة في فرنسا، إنكلترا والولايات المتحدة الأميركية. وحدّد المرحلة في واحدة (لكنها طبعاً أساسية): القرنان التاسع عشر والعشرون. إن التحديد مهمّ جدّاً، لكنه لا ينقص حقّاً من قوّة التحليل؛ فمن السهل تطبيقها على أزمنة أخرى، وفضاءات أخرى. بل إن نوعية  خطاب سعيد هذه هي ما يضمن عموميته، وتلك هي المفارقة.

 

 قصة الأقدار المتقاطعة بين السلطة والمعرفة

   أكّد تودوروف أن تاريخ الخطاب عن الآخر هو تاريخ ساحق. ففي كل الأزمنة اعتقد الناس أنهم أفضل حالاً من جيرانهم. فهم وحدهم تمكّنوا من تجاوز العيوب التي ألصقوها بجيرانهم. ولهذه النظرة التحقيرية مظهران تكميليان: فمن جهة يتم اعتبار الإطار المرجعي الخاص باعتباره إطاراً فريداً، أو على الأقل طبيعياً. وعن الآخر، نرى أن الآخرين، بالمقارنة مع هذا الإطار، هم أدنى درجة منّا. هنا يتمّ، إذن، رسم صورة للآخر نسقط عليها نقط ضعفنا الخاصة بنا. إنه في نفس الآن شبيهنا والأدنى منّا. إن ما رفضناه فيه قبل كل شيء هو اختلافه عنّا: ليس فوق ولا تحت، إنه آخر، بالتحديد. كما أن اتهام الآخر مشتقّ من النموذج الاجتماعي التراتبي (البرابرة يصبحون عبيداً) وليس من الديمقراطية التي تنادي بالمواساة: الآخرون هم أدنى منّا لأننا نحكم عليهم، في أحسن الحالات، من خلال معايير نطبّقها على أنفسنا.

   إن الخطاب الاسترقاقي، ثم الاستعماري بعد ذلك (والاستشراق هو أحد أمثلته البليغة)، هو ليس التأثير البسيط للحقيقة الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية، بل هو أيضاً أحد القِوى القائدة: هي جزء وليس فقط صورة. والأيديولوجيا هي قوة الضغط التي تسمح للخطاب وللأفعال أن تكون مدعومة، وكتاب "الاستشراق" يحكي في فصل كامل عن الأقدار المتقاطعة بين السلطة والمعرفة. لقد قرأ نابوليون المستشرقين قبل احتلال مصر، وإحدى النتائج الملموسة لهذا الغزو هو العمل اللغوي الوصفي الضخم. فعلم الفرنسيين هو الأفضل ما دامت القوات الفرنسية تحرز النصر؛ إن هيمنتهم مبرّرة (في نظرهم) لأن حضارتهم متفوّقة وعلومهم جيدة ونافعة. فحين أخاطب أحداً: "أمتلك الحقيقة عنك" لا تخبر فقط عن طبيعة معارفي، بل تضع بيننا علاقة يكون فيها "أنا" مهيمناً والآخر خاضعاً للهيمنة. إن الفهم يعني في نفس الآن "التأويل" و"الاستنتاج". وسواء كانت المعرفة على شكل جامد (الفهم) أو فعّال (التمثيل)، فإنها تسمح دائماً لمن يمتلكها بالتحكّم في الآخر؛ إن سيد الخطاب هو السيد باختصار. لكن هل من باب المصادفة، وجود خطاب استشراقي في الغرب لكن عدم وجود أي خطاب "استغرابي" في الشرق، من جهة، ومن جهة أخرى، فالغرب هو من يهيمن على الشرق؟

العربي كسول: ملفوظ عنصري

يجيب تودوروف أن المفهوم هو السلاح الأول في إخضاع الآخر، لأنه يحوّله إلى شيء. إن تحديد شيء مثل "الشرق" أو "العربي" هو قبل كل شيء فعل عنيف. وهذا التصرف هو ثقيل بالدلالات إلى درجة أنه يلغي أي قيمة عن المسند (الصفة) الذي نضيفه: "العربي كسول" هو ملفوظ عنصري، لكن "العربي يحب العمل" هو أيضاً كذلك. وفي هذا السياق يكون لأفعال العالم حمولة سياسية لا يمكن اجتنابها (والشيء نفسه صحيح، بدرجات مختلفة، بالنسبة لكل معرفة تاريخية)، من هنا يرى تودوروف أن موضوع كتاب إ. سعيد يصبح هو سياسة العلم. لقد انخرط "الاستشراق" ضمنياً في معركة، لكن استحقاقه أنه يبسط أمام أعيننا حقيقة مفادها أن العلماء والمثقفين ملتزمون، منذ عهد قريب، بعدما كانوا يظنون أنهم فوق كل اختيار أيديولوجي.

  وبذلك فكتاب "الاستشراق" لا يتناول فقط تاريخ العلوم أو الأدب، لكنه يدرس أيضاً حاضرنا الحارق والمشترك، لأن قدرنا لا ينفصل عن أقدار الآخرين. مع ضرورة التأكيد، يضيف تودوروف، على أنه لا يقدّم إجابات على جميع الأسئلة التي أطّرها. فهو يرفض وحدة "شرق" لكنه لا يقول لنا هل الحضارة الإسلامية (أو المصرية، أو الهندية، إلخ) لا تمتلك بعض الملامح المختلفة عن الحضارة الغربية (إذا كان بالإيجاب، فما هي). فهو يتهم الفهم الاستيعابي والإمبريالي الذي يمارسه العلم الرسمي، لكنه لا يخبرنا هل يوجد فهم مختلف، حيث الآخر ليس مختزلا لذاته ومهيمناً عليها. باختصار، يقول تودوروف، إن سعيد لا يرشدنا إلى طريق العقل الصافي، غير المثالي. لكنه ربما علم سعيد يفضل عدم سجننا داخل الأجوبة، بل يطرح بشكل مفيد الأسئلة المفيدة.