Print
ميلوراد بافيتش

مقاطع من "قاموس الخزر"

6 يونيو 2018
ترجمات

 

 

 

"أنا الكاتب الأشهر من أكثر دولةٍ مكروهةٍ في العالم"، هكذا يُعرف ميلوراد بافيتش نفسه في حوار أجري معه بعد سنوات من حرب البوسنة.
في بلجراد ولد بافيتش في العام 1929 لعائلة صربية بأرث ثقافي راسخٍ في تاريخ العائلة، هذا الإرث الذي لم يرى بافيتش نفسه إلا جزءاً منه "ولدتُ ككاتب منذ مائتي سنة. في أكبر المكتبات في أوروبا يمكن للمرء أن يجد الكتب التي كتبها أسلافي . كما تعلمون، كان أسلافي هُم من دعموني في كل مرة فكرت فيها بالكتابة، حتى أنني كتبت لهم لاحقاً بعض القصائد بلغتهم القديمة".

في العام 1984 نشر بافيتش "قاموس الخزر" روايته الأولى التي تُرجمت لاحقاً إلى أكثر من ثلاثين لغة. الرواية بناء خيالي على ما بقي من ذكريات "الخزر"، القوم الذين عاشوا بين القرن السابع والقرن الحادي عشر في المناطق المُحيطة بما يُسمى حالياً بالبحر الأسود. الحدث الأساسي في الرواية\القاموس هو المناظرة الخيالية التي جرت في بِلاط الخاقان حول الدين الذي يجب اعتناقه، ثلاثة صيادي أحلام، مسيحي ويهودي ومسلم، يسعون لتفسير حلم الخاقان وبالتالي تأكيد صحة دينِ كُلٍّ منهم.

مثل أي قاموسٍ آخر رُتبت المقاطع في "قاموس الخزر" أبجدياً، وككل قاموسٍ آخر، لا بداية للكتاب ولا نهاية، رواياتٌ خيالية عن الزمن والأحلام والمرايا وغيرها، رواياتٌ متقاطعةٌ للأحداث نفسها بمروياتٍ ثلاث..

ميلوراد بافيتش، والذي يعني اسمه الأول "محبوب"، كان -إلى جانب كتابته للرواية والشعر- مُترجماً ومُدّرساً في تاريخ الأدب، يقول في لقاء عن روايته: الخزر كنايةٌ عن شعبٍ صغير يعيش بين القوى العظمى والأديان العظيمة. الخزر هم الصرب أيضاً، والسلوفينيون وغيرهم، هم كُلُّ من اختار البقاء على قيد الحياة.

يُقالُ أن في إتيل، عاصمة الخزر، موضعٌ يستطيعُ فيه العابران، إذا التقيا، أن يتبادلا الاسم والمصير، وأن يواصل أحدهما العيشَ في حياة الآخر.. لم نبلغ العاصمة ولم نلتقِ الخزر، لكن الكتاب هذا بسردٍ بديع يعطينا صورةً عمّا فاتنا من حياةٍ سابقة. هُنا ترجمةٌ عن لُغةٍ وسيطة لمقاطع مختارة من "قاموس الخزر":

 

الأميرة

على كُلِّ جفنٍ يُكتب في الليل حرفٌ، كالحروف التي تُرسم على جفون الخيل قبل السباق. الأحرف مأخوذة من الأبجدية القاتلة للخزر، حيث يموتُ من يقرأ الحروف لحظة القراءة. عُميانٌ من يكتبون الحروف على جفونها كل ليلة، وفي الصباح قبل دخولها للاستحمام تمسحُ الوصيفاتُ الحروف بعيونٍ مُغمضة.

هكذا كانت الأميرة محميةً من الأعداء أثناء النوم..

….

 

 

صلاةُ الأميرة

تعلمتُ أن أكون أُمي، وساعة كُلَّ فجر أقفُ أمام المرآة مُمثلةً حياتها. يوماً بعد يوم لسنواتٍ عديدة، مُرتديةً فساتينها، حاملةً مراوحها وبشعر ممشطٍ مثل شعرها. أمثلها أمام الأخرين، حتى في سرير حبيبي. لستُ موجودة في لحظات الهوى، أنا لستُ نفسي أنا أمي فقط. أتمثلها باقتدار حتى أن شغفي يختفي ويبقى شَغَفُها. بكلمات أخرى, هي سرقت كل لحظات الحب مني.

لا أشكو ولا أعاتب إذ أعرف أن لحظات حبَّها أيضاً سُرقت من أمها.

وإذ تسألوني ما الفائدة من كل هذا أقول: أريدُ أن ألدني، أفضل مما أنا الآن.

….

 

كو

 

كوْ: نوعٌ من الفاكهة من شواطئ بحر قزوين. داوبمانوس سجلَ التالي عن هذه الفاكهة:

"الخزرُ يزرعون نوعاً من الفاكهة لا ينبتُ في العالم إلا عندهم. الفاكهةُ مُغطاةٌ بشيء يشبه حراشف السمك أو حراشف الصنوبر، وتنبتُ على شجرٍ عالٍ جداً. الثمر على الأغصان يبدو كالأسماك الحية التي يعلقها أصحاب المطاعم من ذيولها على مدخل المطعم كإشارة إلى وجود حساء السمك.

أحياناً تصدرُ الفاكهة صوتاً يشبه صوت الحسّون، وطعم الفاكهة باردٌ وفيه ملوحة.

في الخريف حين تسقط الثمار عن الشجر، تطيرُ في الأنحاء بعض الوقت لأنها خفيفةٌ جداً ولها نواةٌ تنبضُ كقلب. حراشف الثمرةِ تهتز وكأنها تسبحُ في الريح.

بالمقاليعِ يُلاحقها الفتية، وحتى طيور الباز تخطئ أحياناً وتأخذها في المناقير ظناً أنها سمك، لذلك يقول الخزر "سيبلعنا العربُ تماماً كما تفعل الطير، يظنّون أننا سمك لكننا كو".

 

اسم الفاكهة "كو" هو الكلمة الوحيدة التي تركها الشيطان في ذاكرة أميرة الخزر حين نسيتْ لُغتها.

في الليل يسمعُ المرء أحياناً "كو- كو"! إنها الأميرةُ تُرددُ الكلمة الوحيدة التي تستطيع، ثم تبكي حين تحاول أن تتذكر قصائدها المنسية."

….

 

آدم الملاك

لو أن أحلام كل البشر تُجمع لشكلتْ جسداً واحِداً عملاقاً، مخلوقاً ضخماً كقارة. ولن يكون أي جسد بل هو آدم الملاك، آدم السر الذي ذكره الأئمةُ فيما مضى.

كان آدم هذا -قبل آدم الآخر الذي نعرف- من السماء الثالثة في البدء، لكنه كان أنانياً لدرجة أنه تاه في الأرض. وعندما عاد من الضياع ألقى برفيقي دربه إبليس وأهريمان في الجحيم وعاد إلى السماوات. بدلاً من السماء الثالثة حلَّ في السماء العاشرة، إذ أنه -حين ضياعه- خُلِقتْ على درب الملائكة سبع سماوات.

هكذا انتهى آدم الأول، متأخراً سبع سماوات عن مصيره، وهكذا ولد الوقت. إذ أن الوقت ليس إلا ذلك الجزء الذي تأخر من الخلود.

….

 

ما قاله الشيطان عن موت الأبناء

مع الحقيقة التي يعرفها كُلُّ قارئ للقرآن نبدأ، أنا كمثلِ كل شيطانٍ آخر مخلوقٌ من نار، ومخلوقٌ أنتَ من طين. لا قوة عندي سوى ما غُرِس فيك وأخذه منك.

في السماء تستطيعون أنتم البشر التحول إلى ما تريدون إذ تبلغون الجنة، لكنكم على الأرض محابيسُ أشكالِكم التي ولدتم فيها.

نحنُ نأخذ أي شكل نريد على الأرض، لكننا حين نعبرُ الكوثر، نهر الجنة، نظلُّ شياطيناً للأبد، كما نحن في الأصل. ولأننا خُلِقنا من نار فأن ذاكرتنا لا تتضاءل في النار، على خلافكم أنتم المخلوقون من طينٍ يتقلص. وهذا هو أصلُ الفرق بيننا، أنا الشيطان وأنت الإنسان. خلقكَ الله بكلتا يديه وبيدٍ واحدة خلقني، لكني خُلقتُ قبلك، الشياطينُ قبل البشر، الفرق الأساسي بيني وبينك هو في الوقت، حتى لو كان عذابُنا واحِداً فأننا، صنفُ الشياطين، سنحلُّ في الجحيم قبلكم، صنف البشر. بعدكم أنتم البشر سيأتي صنفٌ آخر للجحيم، صنفٌ ثالث، وبذا يصيرُ عذابكَ أقصرَ من عذابي، لأن الله قد استجاب لهؤلاء الآخرين، لهذا الصنف الثالث الذي قال: "ضاعِف عذابهم يا الله، فينقص عذابُنا"، فالعذاب إذاً ليس للأبد، وهنا القصةُ كُلُّها، هُنا يبدأ ما ليس مكتوباً في كتاب، وهنا سأساعدك. لا تنسى: موتُنا أقدم من موتِكم. صِنف الشياطين يعرف الموت أكثر منكم أنتم صنف البشر ويتذكر الموت أكثر منكم. لذلك أستطيع إخبارك عن الموت ما لا يستطيع أي إنسان مهما بلغت حكمته ومعرفته، فقد عشنا مع الموت أطول منكم.

ضع ما أقول حلقاً ذهبياً في أذنك، وأسمع جيداً، فما أقوله اليوم استطيعُ قوله غداً أيضاً، لكن من يسمعُ يسمعُ مرةً واحدةً فقط، حين اختار أن أخبره:

 

حكاية موتِ الأبناء

موت الأبناء صورةٌ دائمة عن موت الوالدين. تَلدُ الأمُ لتعطي الحياة لأولادها، والأولاد يموتون ليشكِّلوا موت والِدهم. عندما يموت الابن قبل والِده يصبحُ موتُ الوالدِ أرملاً، يُصبحُ موتاً تالفاً ودون شكل، لذلك نموت نحن الشياطين بسهولة إذ أننا لا نملك أي ذرية، ولا يرسم أحدٌ شكلاً لموتنا. بالسهولة نفسها يموت البشرُ الذين لا ذرية لهم، أولئك الذين حصتهم من الخلود طردٌ سريع.

باختصار، كما في المرآةٍ ينعكس موت الأبناء القادم في موت الآباء، مثل جمعٍ تنتقلُ فيه الطاقة خلفاً. الموت هو الوحيد الذي يورثُ بالعكس، عكس سيرِ الوقت، من الأصغر إلى الأكبر، من الأبن إلى الأب، الأسلافُ يرثون موت الأحفاد كنوع من التشريف، ميراث الموت -سلاح الهلاك- ينتقل عكس سير الوقت من المستقبل إلى الماضي وبذا يوحدُ الموت مع الولادة، يوحدُ الوقت مع الأبد، ويوحدُ آدم الملاك مع نفسه.

هكذا يكون الموت إرثاً في العائلة، لكن ليس مثل وراثة الرموش الداكنة أو مرض الجدري. إرث الموت يتعلق بإحساس الإنسان عند الموت وليس بطريقة الموت. إذ أن البشر يموتمون بالسيف أو بالمرض أو بالشيخوخة، لكن في كُلِّ موتٍ إحساسٌ مختلف. كل رجلٍ لايشعر بموته هو بل بموتٍ لاحق، كما خبرّتك سابقاً، هو موتُ أبناءه، وبذلك يحولُ الموتَ إلى مُلكٍ مُشترك في العائلة.

أولئك الذين لا نسل لهم، لهم موتهم فقط، موتٌ وحيد. وبالعكس، أولئك الذين عندهم ذرية لا يشعرون بموتهم بل بموتِ ذريتهم، موت مُنّوع. لذلك أيضاً يكون فظيعاً موت أولئك الذين عندهم ذرية ضخمة، لأن الموت يتضاعف، مع كُل خَلفٍ موتٌ جديد.

سأعطيكِ مِثالاً، في ديرٍ خزري عاش قبل مئات السنين راهبٌ اسمه "مُكَدَسا السَفِر" كان له طريقٌ خاصٌ في التعبد، إذ أنه في العُمر الذي عاشه في الدير مُحاطاً بعشرة آلاف عذراء، جعلهن جميعاً يحملون أطفاله. نعم، عشرةُ آلاف طفلٍ صار عنده. تعرفُ بماذا مات؟ بلعَ نحلة. وهل تعرفُ كيف مات؟ مات عشرة آلاف مرة، بعشرة آلاف شكل للموت في اللحظة عينها. لكل طفل من أطفاله مات مرة. لم يستطيعوا دفنه، إذ أن كل هذا الموت فتته إلى قطعٍ كثيرة لدرجة أن كل ما ظلَّ منه هو الحِكاية هذه.

كذلك هي الحكاية المعروفة عن عيدان القصب، تلك الحكاية التي لا يفهم البشر مغزاها. الوالد الذي جمع أولاده حين احتضاره وحكى لهم عن سهولة كسر عودِ قصب منفرد، في الحقيقة أرادَ الوالد أن يقول أن الموت سهل لمن له أبن واحد، وحين حكى عن صعوبة كسر مجموعة من العيدان كان يقصد صعوبة الموت الذي سيلاقيه لأن له الكثير من الأبناء..

 

هذا ما قاله الشيطان عن الموت، قال أيضاً أن موت النساء ونسلهن مختلفٌ تماماً وأننا اليوم لن نحكي عنه..