Print
سيرغي ديميترييف

225 عاماً على ولادة مؤلف "مصيبة العقل".. غريبويدوف

28 فبراير 2020
ترجمات
أثناء زيارتي الأولى طهران، عثرت على "بطلي"، عندما كنت أحاول العثور على المنزل الذي قُتل فيه ألكسندر غريبويديف مع 50 من موظفي السفارة الروسية لدى بلاد فارس. من هناك، بدأت أسفاري في تعقّب آثار غريبويديف في إيران (6 مرات)، القوقاز، جورجيا، أرمينيا، بيلاروسيا، وفي البلدات والقرى الروسية، حيث أمكنني تنسّم أنفاس مبدع كتاب "مصيبة العقل"(*). في الوقت نفسه، قضيت سنوات عدّة في أبحاثٍ ودراسات شملت كلّ ما جمعه علماء التأريخ واللغة المهتمين بمصير غريبويديف. إثر ذلك، عكفت على دراسة وثائق أرشيفية، لم تكُن معروفة من قبل، تخصّ سياسة الإمبراطورية الروسية الخارجية. ما اتضح لي، بعد كلِّ سنين هذا العمل الشاق، يرسم صورةً مختلفة لرجلٍ متعدّد الشخصيات، ويمتلك مواهب متنوعة في الوقت عينه، فهو: شاعرٌ، كاتب مسرحي، موسيقي، دبلوماسيّ، محاربٌ، جاسوس، رحّالة، ومفكرٌ رفيع الثقافة، وفوق ذلك كلِّه متقنٌ للعديد من اللغات.
لنبدأ القول إنّ غريبويديف، بالتحديد، هو مَن دشّن في سنّ 34 سنة سلسلة الموت التراجيدي للشعراء الروس، الذين توقفت حياتهم في عمر تفتُّح قدراتهم الإبداعية. المثير في الأمر أنّ غريبويديف، وحده، مات والسلاح في يده، يؤدي واجبه (مع وجود العديد من الأدباء الروس الذين حاربوا ورحلوا عن الحياة باكراً (أمثال: ليرمنتيف، غوميلييف، أدويفسكي). علاوة على ذلك، أظهر غريبويديف بطولةً مشهودة في آخر معركةٍ خاضها، إذ قاتل بضراوة، وقتل العديد
من مهاجميه، قبل أن يلفظ آخر أنفاسه.
عموماً، يمكن اعتبار غريبويديف شاعراً - محارباً، اشترك بشكلٍ، أو بآخر، في ما لا يقلّ عن خمسة حروب. وبشكلٍ خاصّ، أظهر الشاعر المحارب قدراتٍ قتالية متميزة أثناء الحرب الروسية - الفارسية ( 1826 -1828)، واستطاع بمجهودٍ فردي إقناع قائد حامية قلعة عباس - عباد بتسليم القلعة للجنود الروس. كما نال ميداليتين، الأولى لقاء جهوده في الاستيلاء على "يريفان"، عاصمة أرمينيا، والثانية لمشاركته في الحرب الفارسية.
غير أنّ الأهمّ في حياة غريبويدوف، كان من دون شكّ دوره الدبلوماسي الرائع، الذي جعله من ألمع الدبلوماسيين الروس في القرن التاسع عشر. تولى عمله الدبلوماسي في بلاد فارس عام 1819، وأتقن اللغة الفارسية، وعرف جيداً تقاليد وعادات سكان البلاد، ليحوز ثقة وريث العرش وقتئذٍ "عباس ميرزا"، مما مكَّنه في ما بعد من التأثير على اتخاذ قرار الحرب التركية – الإيرانية، الحدث الذي ساهم في 1823 في نجاح انتفاضة اليونان ضدّ العثمانيين، لتتغيّر بذلك الخارطة الجيوسياسية في ذلك الوقت. وفي عام 1819، قام غريبويدوف شخصياً، غير عابئٍ بالخطر، بإخراج 158 جندياً روسياً، والعودة بهم إلى الوطن.
بعد عودته إلى تبليسي (عاصمة جورجيا) عام 1821، أصبح غريبويدوف سكرتيراً للشؤون الخارجية لدى الجنرال آ.ن. يرمالوف، ليشارك في حرب القوقاز التي استمرت طويلاً (1817 - 1864). بيد أن أوج انتصارات غريبويدوف - الدبلوماسي، جاءت من خلال
مشاركته في كواليس الحرب الروسية - الفارسية أعوام (1826 – 1828)، حيث خاض مفاوضات ماراثونية أفضت إلى اتفاقية "توركمانجاي"(**)، التي حددّت ولسنوات طويلة مقبلة اصطفاف القوى في الشرق، وأفضت إلى تحرر العديد من شعوب القوقاز من نير القهر. عندما وصل غريبويدوف إلى سانت بطرس بورغ يحمل الاتفاق، أطلقت المدفعية 200 طلقة احتفالاً بهذا الحدث. في عام 1828، وتقديراً لجهوده، عُيِّن الشاعر - الدبلوماسي وزيراً مفوضاً للبعثة الروسية في طهران. غير أنّ حياة غريبويدوف بعدها لم تطل أكثر من 9 أشهر، إذ وقع غريبويدوف ضحية مؤامرةٍ(***)، شارك فيها أشرس أعداء روسيا في تلك الفترة: أفراد من السلالة الحاكمة كانوا يحاولون إبعاد وليّ العهد "عباس ميرزا" عن السلطة - دبلوماسيون إنكليز خائفون من تمكن غريبويدوف العائد إلى تبريز من إقناع سلطات فارس الدخول من جديد في الحرب ضدّ الأتراك عبر تحالفٍ فعليٍّ مع روسيا هذه المرّة - غلاة رجال الدين الراغبين بتعزيز سلطتهم على عقول الفرس - أنصار الإمبراطورية العثمانية الحالمون بإشعال حربٍ جديدة بين روسيا وفارس. وقع غريبويدوف في "المصيدة"، وأصبح في خطرٍ داهم، ولكنّه لم يتخلّ عن كرامته كسفير دولة عظمى، عندما حاول أعداء الدبلوماسي إثبات أنّه كان مذنباً في اندلاع المأساة لعدم معرفته بعادات وطباع الفرس. خلال رحلاتي المتكررة إلى إيران، أتيحت لي دراسة مبنى القنصلية الروسية المتداعي في تبريز، حيث عمل غريبويدوف، والعثور أيضاً على المبنى ذاته، حيث وقعت المأساة في طهران. ممّا يدعو للأسف، أن السلطات الإيرانية اتخذت عام 2015 قراراً بإزالة مبنى البعثة الروسية هذا المبنى كي لا تذكّر بملامح المأساة المرعبة. تمكنت أيضاً من دراسة الكنائس الأرمينية في طهران، التي كانت على أرضها بقايا أشلاء غريبويدوف، و30 آخرين من البعثة الروسية. وحدها، لوحة تذكارية صغيرة، كانت تشير إلى وجود بقايا أعضاء البعثة الروسية في
هذا المكان، وكم كان مهماً لو أعيد دفن هؤلاء في أرض الوطن، أو أقلّه إقامة مدفنٍ يليق بهم في الموقع نفسه!. على الرغم من مرور 190 عاماً على مأساة طهران، تبقى حياة وموت مؤلف "مصيبة العقل" تشغل عقول المولعين بالتاريخ.
لو تصورنا للحظة واحدة أنّ غريبويدوف لم يكتب أبداً ملهاته الكوميدية الخالدة "مصيبة العقل"، لكانت خدماته على الجبهة الفارسية كافية وحدها ليدخل التاريخ كدبلوماسيٍّ فذّ.
يجب أن نضيف على مسبق أنّ غريبويدوف اضطر إلى لعب دور الجاسوس، الأمر الذي تثبته تقاريره التي أرسلها من "عرين الخصوم"، عندما كان يعمل ضمن فريق عباس ميرزا، وكذلك من خلال اتصالاته مع محبي روسيا في الدوائر الفارسية. في تلك الحقبة، غالباً ما كان الدبلوماسيون يكلفون بأعمالٍ ذات طابعٍ تجسسيّ، مما اضطر غريبويديف على تعلّم الشفرات السريّة للتواصل مع سانت بطرسبرغ. بالإضافة إلى ذلك كان الدبلوماسي يرصد تحركات العملاء الإنكليز الذين كانوا بدورهم يراقبونه مذ كان يعمل في تفليسي.


هوامش:
(*) "مصيبة العقل": كوميديا شعرية ساخرة تدور أحداثها حول تحرر الجيل الجديد من التملّق للأثرياء وذوي النفوذ وابتعادهم عن الوصولية والخنوع. كما تتطرق إلى مسألة الحب التي تربط فتاة غنية بشابٍ من العامة.
(**) اتفاقية "توركمانجاي": وقعت في 22 شباط 1828، وتخلت فارس (إيران) فيها بموجب الاتفاقية عن عدة مناطق في جنوب القوقاز لصالح روسيا القيصرية.
(***) هربت فتاتان أرمينيتان من حريم الشاه لتطلبا الحماية من الروس، لمساعدتهنّ في الهرب والعودة إلى أرمينيا، الأمر الذي أثار حفيظة المتطرفين الفرس، فهاجموا القنصلية الروس وقتلوا 30 من الروس، من ضمنهم غريبويدوف، الذي مزِّق جسده، ومن ثمّ سحق تحت الأقدام، وقتل من المهاجمين 80 شخصاً. بأعجوبة نجا من المجزرة شخصٌ روسي واحد فقط. انتهت الأزمة التي نشبت جراء الحادث بين روسيا وإيران باعتذار الشاه من القيصر نيكولاي الذي قبل الاعتذار والهدايا! (المترجم).

عن الصحيفة الأدبية: ليتيراتورنايا غازيتا.
رابط المقالة: https://lgz.ru/article/-1-6720-15-01-2020/strasti-po-griboedovu/

ترجمة: سمير رمان.