Print
بوعلام رمضاني

عن القراءة الصوتية بزمن العزلة الاجتماعية.. أحاسيس سعيدة

18 مايو 2020
تغطيات
كتبت الأسبوع الماضي عن كيفية تمكني من مقاومة آلام عنقي وذراعي ويدي اليمنى، وأنا أقلب صفحة تلوى الأخرى متنقلا من كتاب إلى آخر منقطعا عن عالم خارجي يزعم القوة والتقدم والرفاه. هذا العالم أضحى ضعيفا ومتخلفا وفقيرا، أمام فيروس ما زال يكشف يوميا عن بؤس بشرية مجبرة على إعادة النظر في نظرية "نهاية التاريخ" لفرنسيس فوكوياما الذي اعتقد أن ليبرالية الغرب هي الصمام ضد البؤس، وطريق السعادة والخلاص. قوافل جنازات وصناديق رماد ضحايا كورونا التي ترعب الطغاة والديمقراطيين والأغنياء والفقراء من حكام ومحكومي العالم، ما زالت وستبقى شاهدة على ضعف وهشاشة حياة بشرية قائمة على عزلة تتنافى مع مفاهيم السعادة والتعاضد والتضامن والتكافل في زمن بريق المادة والمال وكافة أشكال الأبهة الخارجية.

السيدة سلطان الباريسية (82 عامًا) تعيش في بيت مريح وليست فقيرة، وتأكل ما لذ وطاب في بلدها فرنسا الذي يعد قوة غذائية جبارة، وخاصة في إنتاج الجبن الذي افتخر به الراحل الكبير الجنرال ديغول في إحدى خطبه التاريخية. رغم رغد ورفاه عيشها، لم تعبر السيدة العجوز للشابة التي تصغرها بحوالي نصف قرن عن سعادة ناتجة عن رخاء مادي، لكنها عبرت عن سعادة روحية وصلتها عبر هاتف، ينطق بجمال ورونق وسحر الكلمة، وقدرتها على معالجة الأوجاع النفسية الناتجة عن عزلة فندت صحة نظرية فوكوياما المنظر الأميركي الشهير. إنها نظرية المفكر الذي أكد على ليبرالية نمط اقتصادي وسياسي غير عادل إنسانيا واجتماعيا، ويسبب العزلة لمسنين، ولكهول ولصغار سن وجدوا أنفسهم ضحية رفاه وتحرر أنتجا بؤس ملايين راحوا ضحية "سعادة" وأنانية وفردية الأقرباء والجيران والأصدقاء. ولأن الدنيا ضيقة وموجعة وقاسية رغم مظهرها المادي والمخملي لولا فسحة الكلمة، راحت الروائية ريجين دوتمبال، "غير الفوكويامية"، وراعية شبكة "اقرأ واربط"، تعالج نفوس المعزولين اجتماعيا في عز كورونا بالكتاب المسموع في تجربة أولى من نوعها في العالم.
للتعريف بهذه التجربة الثقافية والإنسانية والأخلاقية الآسرة والساحرة، استجابت الروائية لبريد صاحب هذه السطور، ووجهته نحو موقع الشبكة التي تشرف عليها للاستفادة من الأحاديث العديدة التي أدلت بها لأكثر من جهة إعلامية فرنسية وأجنبية، ولمشاهدة فيديو يظهر الشابة سوسان تقرأ إحدى فصول رواية للعجوزة السيدة سلطان عبر "الكتاب الهاتفي". وفعلت ريجين دوتمبال ذلك، لأنها ليست روائية فحسب، بل معالجة نفسانية من خلال الكتاب الذي توصله مسموعا لمسنين فقدوا القدرة البصرية الكافية للقراءة، وراحوا ضحايا تباعد اجتماعي سابق لكورونا بسبب انشغال فلذات الأكباد بمتاع الدنيا العابر الذي أصبح يحول دون تواصل إنساني يفرض حضورا جسمانيا أو صوتيا من خلال الكلمة الخارقة للقارات والمحيطات والبنايات والجدران. هذا ما عكسته قراءات الشابة سوسان للسيدة سلطان التي حلمت وسعدت وسافرت عبر الكلمات، وهي تستمع معزولة عن العالم بسبب كورونا لرواية بديعة على لسان شابة متطوعة استجابت لدعوة الروائية ريجين دوتمبال.
دخلت موقع هذه الروائية، ووقفت عند هوية الشبكة العلمية والثقافية والإنسانية التي تشرف عليها السيدة المبتسمة في صورة تعلو النص التعريفي الذي جاء فيه: "لم يكن الصوت أهم مما هو عليه اليوم لربط بعضنا بالبعض. نحن أعضاء شبكة "قراء كورونا" نتطوع عبر الفضاء الافتراضي لكي نقرأ على أناس معزولين يعانون من ضغط كورونا النفسي ومن القلق، ومن انعكاسات الحجر الصحي بوجه عام. أيها الأصدقاء الذين تعالجون مرضى القلق والتوتر وضحايا العزلة... أحييكم شاكرة لكم تضامنكم عبر صوت حي يدخل الحياة في بيوت طغى فيها الصمت والحيرة والموت البطيء. أيها القراء... أيتها القارئات... من الممثلين والممثلات وأمناء وأمينات المكتبات ومن المتقاعدين والصحافيين... لنتجند لإدخال البهجة والخيال والسفر عبر الكلمة الهاتفية في نفوس المعزولين والمهمشين بمعدل مرة أو مرتين في الأسبوع باستعمال تقنيات الواتساب والسكايب  و...".
السيدة جان (97 عاما) واحدة من المسنات اللاتي حظين بقراءة ألكسندرا ريكار، مخرجة الأشرطة الوثائقية في قناة "فرانس تلفزيون". استمعت العجوزة الطاعنة في السن والتي تعاني من ضعف البصر لصفحتين من رواية "جوزيف" لماري هيلين لافو بصوت المخرجة التلفزيونية، وكانت في قمة السعادة، وهي تقول معلقة على رواية تعالج قصة عامل قروي: "آه... آه بالفعل... كانت هذه هي حياة الفلاحين في القرى، وأنا عشت هذه الحياة". من جهتها قالت القارئة والمخرجة المتطوعة معلقة على سعادة السيدة جان: "لقد سمعت صمتها اللافت وضحكها لعدة مرات. كانت ضحكات شابة تنسي كل شيء"!

جان مثلها مثل العشرات من المسنات اللاتي يقبعن في مراكز الشيخوخة، وقالت معبرة عن معاناتها جراء الحجر الصحي بعد الانتهاء من الاستماع إلى بعض الصفحات من رواية "جوزيف": "إنني محبوسة منذ السابع عشر مارس/آذار في غرفتي ولا أستطيع المشي إلا في الرواق. عرفت الحجر أثناء الحرب، وها أنا أعيشه مجددا بسبب كورونا اللعين".
أعود في الأخير إلى حوار الشابة سوسان، الطالبة في علم النفس والمتطوعة في شبكة "قراء كورونا "، لنقل ما دار بينها وبين السيدة المسنة سلطان، متمنيا من كل قارئ لهذا المقال التمعن في هذه "الصدقة الجارية"، التي يمكن أن يقوم بها أي إنسان محب للقراءة شريطة الإيمان بهذه الصدقة التي لا تكلف سنتيما واحدا، وتدخل فرحة لا تقدر بثمن في قلب كل معزول مغبون أدار له الأقرباء الظهر وقت الشدة النفسية وليس المادية.

*صباح الخير السيدة سلطان... أنا الطالبة سوسان.
-  صباح الخير ابنتي.
*كيف حالك؟
 - أقول لا بأس، لكن الحجر الصحي بدأ يؤثر نفسيا على حياتي لأنه طال أكثر من اللازم .
*أقرأ عليك اليوم صفحات من رواية "البحر المحيط" للروائي ألكسندرو باريكو. الرواية جميلة وأتمنى أن تنال إعجابك.
*أنا سعيدة جدا لما تقومين به من أجلي.
- بكل سرور. إذا سمحت أبدأ بالقراءة: "بلتربوم إنسان نظيف الكف وطيب وعادل، وصاحب فلسفة تساعد على هضم مصاعب المصير. السيد بلتربوم يضحك ملء شدقيه، ويستحيل إيقافه عن الضحك. يضحك كثيرا، ويعرف كيف يخفي أحزانه بسبب فلسفته التي لا تمنعه من رؤية الجانب السعيد من الحياة في كل الأحوال والظروف". إنه إنسان يعيش في سلام مع نفسه إذا فهمت ما أقصد.
- جميل ما سمعته على لسانك .هذا النص رائع، وحافل بالشاعرية وبالفن والأحاسيس السعيدة خلافا لما نعيشه اليوم مع كورونا. نرى الكثير من الموتى يتراكمون ونحن... نحن! أنا أطل من نافذتي على سماء مغيمة، ولا أثر لشيء يدخل السعادة في قلبي. لم أخرج من بيتي منذ خمسة أسابيع، وبصراحة أصبح الوضع لا يطاق مع انسداد الآفاق، وأنا مسنة ولم يعد أمامي الكثير من الوقت لكي أعيش.
*قارئ كورونا يسألها: ماذا تريدين القيام مباشرة بعد رفع الحجر الصحي؟.
- تناول طبق شهي في مطعم مفعم بالحميمية الإنسانية. أخرج أيضا بسرعة للتمتع بالربيع الذي يمر أمامنا ونحن معزولين. ربيع يطير على مرأى منا. شكرا.... شكرا... على كل ما تعطوني من سعادة.

قبل أن تودع الشابة سوسان السيدة سلطان تقول لها:
*نتفق من الآن السيدة سلطان على يوم الثلاثاء من أجل قراءة أخرى..
-  نعم .. نعم ولا مانع إذا اتصلت بي قبل الساعة المحددة .
*إلى اللقاء سيدة سلطان .
- إلى اللقاء ابنتي.