Print
تشه لي

اليوم الـ 28 للحجر.. ذلك الوقت!

8 مايو 2020
ترجمات
في تلك اللحظة التي قتمت فيها السماء، وصار الغسق وشيكًا، كنت أقف أمام النافذة، أنظر إلى بناية مجاورة، وعلى وجهي ابتسامة. سبب احتفاظي بالابتسامة هو مدى خوفي من أن يحدث شيء. أمام نافذة في شقة بالبناية المجاورة، رجل عجوز فتح زجاج النافذة، وسمعته يقول وهو يرتجف ويصيح بآسى: "ذات يوم سينتهي كل هذا، ذات يوم سينتهي.....". اندفعت صوب نافذتي وفتحتها، وبحثت عن نظراته، وأخذت ألوح له: "هاااي ...والدي"، ألقيت عليه التحية، بأكثر نبرة دافئة وهادئة أمتلكها. ولكنني لم أجزم ما إذا كان لمحني، بسبب الزاوية التي كنت أقف فيها.
واصلت، باذلة قصارى جهدي، حتى التفت صوبي في النهاية. توقف المسن وأغلق النافذة، ودخل إلى شقته. لم يكن القلق الموجود في صدري قد ذاب بعد، فقمت بإجراء اتصال طارئ بأمن البناية، وطلبت منه أن يصعد في الحال إلى المبنى الذي يقطن فيه العجوز، ويطرق بابه، ويرى إذا كان وحيدًا، ويسأله لو كان يواجه مشكلة ما؟ أو يحتاج إلي شيء ما، فهو متوفر لدينا. أدى الأمن عمله على أكمل وجه، استجاب لطلبي وصعد في الحال. في غضون تلك اللحظات المزدحمة، كان الليل قد أسدل ستاره. ذلك الوقت تمامًا كان هو اليوم الثامن والعشرين من الحجر الصحي. كان قد بدأ يتمادى القلق والضجر في قلوب الناس، فأصبحنا في حاجة إلى مجابهة أعداء أكثر، بما فيهم ذلك الظل المتسع تدريجيًا في قلوبنا.
في ذلك الوقت، كان لا يزال فيروس كورونا المستجد يفتك بضحاياه، بينما كانت مدينة ووهان
قد طبقت أكثر الإجراءات صرامة للحجر الصحي منذ ظهور الوباء وتفشيه، وكان كل من الكوادر والموظفين والعمال قد اندمجوا مع المجتمع، وعدد أسِرَّة المرضى في المستشفيات يزداد بشكل يومي، وكذلك الخطوط الأولى من الفرق الطبية المعالجة تواجه الموت وتخاطر بحياتها لإنقاذ المرضى. كان قد احتدم الصراع بين الفيروس والإنسان، فإما أن يقضي علينا، أو نَقضي عليه، دخلنا إلى مرحلة جمود لا تطور فيها. في ذلك الوقت، كان مستحيلًا أن يكون هنالك ولو قدر قليل من الراحة.
مع أنه كان اليوم الثامن والعشرون من الحجر الصحي، إلا أنه كان هناك أناس لا يتحملون البقاء بلا حركة، وآخرون يفكرون بشتى الطرق في كيفية الخروج خلسة، وغيرهم من الناس لم يعتادوا تناول الخضروات البسيطة التي يتم توصيلها إليهم، ويشتهون تناول السمك، أو اللحم طازج، أو المعكرونة الجافة الساخنة التي يتصاعد منها البخار، وكذلك كان هناك بعض الأشخاص الذين يصطحبون أطفالهم للمشي، ويقولون: "لِمَ الخوف، قدر من الحذر يكفي، كل المحبوسين في منازلهم أغبياء". إن الشعور الذي ينتاب المرء، حين يرى هذا، في الحقيقة، هو  انزعاج وسخط شديدان! الحقيقة كانت جلية كالشمس أمام الجميع: إذا لم تُمنع تمامًا العدوى من الانتقال من شخص إلى شخص، فستكون العواقب وخيمة تفوق الخيال.
أجريتُ مقابلة، وقلت ممازحة الصديقة الصحافية التي أعرفها جيدًا: في هذا الوقت، لو كان التصرف متروكًا لي للتعامل مع مثل هؤلاء الأشخاص الذين لا يقدرون قيمة حياتهم، لكنت لكمتهم حتى فقدوا وعيهم، وأعدتهم إلى بيوتهم، وتركت لهم طعامًا يكفيهم لأسبوع، ثم أغلقت الباب عليهم بإحكام... كانت هذه مزحة بلا شك. لكن لو كان هنالك أناس لا يقدرون قيمة
حياتهم، بل وفي نفس الوقت يعبثون بأرواح الآخرين؛ إذًا فالطريق الوحيدة هو إرغامهم على معرفة قدر أنفسهم. ما قلته ليس سوى كلام، فأنا قطعًا لم أضرب أي أحد، بل على النقيض تمامًا ابتسمت لرجل مسن غريب، ولوحت له، وأتمنى أن أكون قد استطعت بث قدر من الطمأنينة في قلبه.
في ذلك الوقت، لم تعد الحياة اليومية هي الحياة اليومية المعتادة، كانت بشكل مباشر تدور حول الحفاظ على الحياة. ففي تلك اللحظة، التي رأينا فيها الفيروس قد اختطف حياة والدة صبية صغيرة، وكانت الصبية تسير وراءها وهي تنتحب، لم يعد مشهدًا عاديًا لوداع أبدي، بل تطلب منا أن نتدخل في الحال، ونسحب الطفلة ونلبسها قناعًا طبيًا، وبسرعة نهدئ بكاءها، لنمنع الفيروس من انتهاز الفرصة والتسلل إلى حلقها المفتوح، ومن ثم إلى رئتيها. في تلك اللحظة، كنا نحن أمهات تلك الفتاة، ولسنا مجرد متفرجين يقومون بتسجيل فيديوهات للمشهد.
في ذلك الوقت، كان الشيء الوحيد الذي يحافظ على الحياة هي المعايير القصوى. لذلك لو كان في يدنا فعل شيء نفعله لفعلناه. ولو كان في مقدورنا مد يد العون لشخص ما، نمدها فورًا، فخطنا الأخير للدفاع هو أن نفعل ما علينا أولًا. في ذلك الوقت، جاءت اللحظة الحقيقية لأكون عونًا للآخرين، ويكونوا عونًا لي. علينا أن نعتمد على نقاط القوة التي يمتلكها كل منا، حتى تتجمع وتصير إرادة البشر الصلبة، وذلك في سبيل أن نسترد حياتنا! وكذلك نسترد مجد البشرية! فلا يمكننا أن نموت سدى!!
وفي ذلك الوقت، كانت سكينتنا هي خلاصنا، وعقلانيتنا هي قوتنا، وجسارتنا شيء ضروري لنا، وجَلَدنا هو واجبنا. هنالك فجر آخر وشيك سيفتح الستائر، وسيبزغ في الأفق، وستشرق الشمس كعادتها. ففي ذلك الوقت، كنا لا نملك سوى أن نتحمل الأحزان، ونتغلب على المخاوف، ونترقب   ذلك الأمل الموجود وراء النافذة.

(كتب في 19 شباط/ فبراير 2020)

تشه لي: كاتبة صينية معاصرة، ومن أبرز الكاتبات الصينيات، ولدت سنة 1957. تسكن مدينة  ووهان، وهي عضو اتحاد الكتاب الصينيين. تسلط الضوء في معظم أعمالها على مدينة ووهان. تحولت العديد من روايتها إلى مسلسلات وأفلام. ويقال على  روايتها "حياة مضطربة" أنها رائعة "الرواية الواقعية الجديدة". 

ترجمتها عن الصينية: مي عاشور.