Print
دارين حوماني

أميركا لن أغفر لك.. سيرة قديمة متجددة للأدب الأفرو-أميركي

14 يونيو 2020
تغطيات
تقديم: العنصرية ما بين الماضي والحاضر


قد لا يكون رنين أسماء المبدعين الذين تعرض الزميلة الشاعرة دارين حوماني هنا نماذج من نتاجهم في الشعر والرواية، وهي نماذج متمحورة حول مجازات العنصرية في الولايات المتحدة ودلالاتها على مرّ الأزمان، عذبًا للأذن الأميركية البيضاء على وجه التحديد، غير أنه في الوقت عينه غير عذب لآذان كثيرة، بسبب تشابه واقع العنصرية وما يترتب عليه من تداعيات جوهرية، في العديد من البلدان في أرجاء العالم.
ولئن كانت حادثة مقتل جورج فلويد تسببت في جعل هذه النماذج تعود بكيفية ما إلى صدارة الاهتمام الآن، سواء في الولايات المتحدة نفسها أو خارجها، فإنها أعادت إلى أذهان الكثيرين مبلغ تجذّر العنصرية في تلك الدولة العظمى، لا على مستوى ممارسات الشرطة فحسب بل أيضًا على صعيد البنية التحتية الراسخة التي لا تنفك تؤججها في الكثير من المجالات والحيزات.
ولا بُدّ من التذكير أيضًا بأن الكفاح ضد العنصرية في الولايات المتحدة نفسها لم يبدأ في الأيام الأخيرة، بل هو ممتد على مدار مئات الأعوام من جراء ما يعتور تاريخها من وقائع ومستجدّات. ولإثبات ذلك يكفي أن نذكر، مثلًا، أن صدور أول وثيقة استقلال خاصة بالولايات المتحدة يعود إلى عام 1776، غير أن إلغاء العبودية فيها تم رسميًا في عام 1865، وجرى منح حق التصويت للنساء في عام 1920، أما قانون حقوق المواطن الذي يحظر التمييز والفصل على أساس عنصري فقد سُنّ في عام 1964.
ونحن إذ نتابع الموجة الحالية من الاحتجاجات على العنصرية في أميركا، فمن الواجب أن نتوقف ولو إشاريًّا عند أمور كثيرة.
مهما تكن هذه الأمور يظل في مقدمها ما يلي:
أولًا، أن الأدب الذي جرى التواضع على تسميته بـ "الأدب الأفرو- أميركي" هو، في جانب منه، أدب احتجاج على وضع أقل ما يُقال فيه إنه غير عادل، مثله مثل أي أدب احتجاج في العالم أجمع.
ثانيًا، ثمة تشابه كبير بين واقع العنصرية في أي مكان من العالم. وإذا كان هناك تركيز من جانبنا على إبراز التشابه بين واقعيها في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل على وجه التحديد، فإن سبب ذلك راجع إلى أن هذه الأخيرة تعتبر من أكثر المجتمعات عنصرية القائمة في العالم الغربي الذي تتباهى بالانتماء إليه. ولدى التطرّق إلى العنصرية فيها، كما يجري أيضًا على أيدي كتاب الأدب الأفرو- أميركي، عادة ما يتم لفت الانتباه إلى أن العنصرية موجودة في كل مكان تقريبًا لكنها في إسرائيل غدت بنيوية بروح القوانين التي جرى ويجري سنّها، وهي تُدرّس في جهاز التربية والتعليم، ومنتشرة في وسائل الإعلام، ولعلّ الأمر المروّع أكثر من أي شيء أن العنصريين فيها لا يعرفون أنهم كذلك، ولا يشعرون أبدًا بوجوب الاعتذار، ما يُحيل إلى قدر استبطانهم لها لدرجة تحوّلها إلى جزء عضويّ من ذواتهم وكينونتهم.
ثالثًا، مع أن النماذج المعروض لها في مقالة حوماني أدناه هي بشأن وقائع من الماضي، فما انفجر أخيرًا بهذا الشأن أثبت بما لا يدع مجالًا لأي شك أنه ماض لم ينقضِ، ما جعل كثرًا الآن يغرقون في أحيان متقاربة في سوداوية تبكي على الحاضر ويتملكها الهلع من المستقبل.

[أنطوان شلحت]

بيان تحرير العبيد، تصوير فرانسيس ج. ماير (Getty)












 

*****

"أحدٌ ما فجّر أميركا.. من هو قاتل معظم السود، من هو الإرهابي الأكبر، من أوجد بن لادن، ربما الشيطان، من هو الذي يعرف أن مركز التجارة العالمي سينفجر، من أخبر أربعة آلاف موظف إسرائيلي في البرجين أن يبقوا ببيوتهم ذلك اليوم، من هو قاتل معظم الأفارقة، من هو قاتل معظم اليابانيين، من هو الذي اغتنى من الجزائر، ليبيا، هاييتي، إيران، العراق، السعودية، الكويت، لبنان، سورية، مصر، الأردن، فلسطين"- بعبارات تامّة من غضبٍ عمره زمن كامل من التعذيب والعنصرية التي لا هوية لها والممتدّة من اضطهاد البشرة السوداء إلى البشرة الفلسطينية إلى اضطهاد المعنى الأعمق للإنسانية، يوجّه الشاعر الأفرو- أميركي أميري بركة هجومه على العنصرية والإمبريالية والإرهاب المتمثّلين بأميركا في قصيدته "من فجّر أميركا" التي هزّت الخريطة الأميركية واللوبي اليهودي تحديدًا وكانت الأوضح والأشدّ، لكن أخواتها لسن أقلّ جرأة ولا أقلّ حزنًا، قصائد وروايات، وفيما بعد فنون موسيقية وتشكيلية وبصرية وأشكال أخرى من التعريف الذاتي لتراث قائم، مِن قَبل تشكيل الولايات المتحدة الأميركية كدولة مستقلة، بدأ مع فيليس ويتلي (1753-1784) كأول شاعرة أفريقية مستعبدة في البلاد الأميركية مع نشرها "Poems on Various Subjects" (1772) تنقل فيها أوجاعها وأوجاع رفاقها الزنوج بسخرية حزينة، ومعها تم الاعتراف بالأدب الأفرو- أميركي، ثم روائيًا مع الكاتبة هارييت ويلسون (1825-1900) مع أول رواية أفريقية أميركية "Our Nig" (1859) حدّثت العالم فيها عن معاناة السود في أميركا، ومع آخرين صاغوا السواد الأدبي بكلّ ما تعرّض له اللون الأسود من وحشية بيضاء لم تنتهِ مع إعلان المساواة الإنسانية أميركيًا وداخل جوارير (أدراج) هيئة الأمم المتحدة والتي لم تخرج منها.

 فيليس ويتلي 

















لم يكن قتل جورج فلويد، الرجل صاحب البشرة السوداء مؤخّرًا، حدثًا غريبًا، لم يكن صدمة، التظاهرات في الشوارع وتحطيم تمثال كريستوفر كولومبوس كان مدفوعًا بتراكم للجثث السوداء فوق بعضها البعض، فقبل أيام قليلة مرّ مقتل الشابة المسعفة بريونا تيلور في شقتها على يد عناصر من الشرطة الأميركية مرورًا عابرًا، وفي عام 2018 قتلت الشرطة الشاب ديانتي ياربر بعشرين رصاصة، وفي عام 2014 تمدّدت الوحشية البيضاء على ظهر الفتى إيريك غارنر على طريقة "لا أستطيع أن أتنفس" التي كانت آخر كلمات جورج فلويد، وفي عام 2013 قتلت الشرطة الشاب ترايغون مارتن بدم بارد ما أدّى إلى ظهور حركة "حياة السود مهمة" Black Lives Matter. في عام 2012 قُتل مايكل براون أيضًا، وبين مايكل والآخرين تختفي جثامين سوداء أخرى عددها بالألوف سنويًا تُدفن بلا صوت.

لم تنفع الورقة التي وقّع عليها أبراهام لينكولن في عام 1863 لتحرير العبيد إلا بأمور شكلية ولا نفعت صرخة مارتن لوثر كينغ الابن في عام 1963 "لديّ حلم" من أجل المساواة بين جلد وآخر، لقد تسرّبت الوحشية في السلوك الأبيض وليس من تجميل لها الآن مع دونالد ترامب، فهو يقول كل ما تريد أميركا قوله ويفعل كل ما تريد أميركا فعله عاريًا من أي جمالية إنسانية ومن أي اعتراف بحقوق متساوية. لا يختلف ترامب عن مؤسّسي أميركا الأوائل الذين حملوا نفس بذور العنصرية، الكراهية ليست مستجدّة، ففي 18 أيلول/سبتمبر 1858 قال أبراهام لينكولن نفسه صاحب ورقة تحرير العبيد: "سأقول إنني لست، ولم أكن أبدًا، أؤيّد تحقيق المساواة الاجتماعية والسياسية للعرق الأبيض والأسود بأي شكل، وأعارض امتلاك السود للحق في التصويت، الخدمة في هيئات المحلفين، وتولّي المناصب والتزاوج مع البيض"، وقبله ردّد جورج واشنطن: "الهنود والذئاب هم وحوش مفترسة يختلفون في الشكل فقط".
ما أراده الأفريقيون الأميركيون في القرن الثامن عشر هو أن يخبروا باحتكاكهم مع العبودية والآخرين الذين أعطوا الحياة معنى أن تكون عنصريًا وقاسيًا تجاه الإنسان الذي يجلس جنبك لأنك لا تريد له أن يشاركك المكان ولا الوقت ولا الحرية. هكذا انتشر "أدب الرقيق" مع ازدهار الاستعباد، فكتب جوبيتر هامون ولوسي تيري جرائم العنصرية على شكل قصائد، وفي القرن التاسع عشر أراد الأفريقيون الأميركيون أن يُعترف بقدرتهم على كتابة أدب أبيض فجرّبوا كتابة اللغة البيضاء بمعاييرها الشعرية ومنهم هانا كرافتس ووليام براون وفرانسيس هاربر دون أن يزيحوا عن كتابة الموت نفسه والحزن نفسه المُوثق بقيود بيضاء. بين العامين 1919 و1937 سيكون لهم "نهضة هارلم" (نسبة إلى حي هارلم في نيويورك) التي ستزرع الإرث الأفريقي على الخريطة الأميركية وستتمكّن من ابتكار أغصان مختلفة من قول الذات والآخر داخل الهوية الزنجية وسيعلو صوت التحدّي وقد عرفت تلك الفترة بـ"حركة الزنوج الجديدة" مع كلود ماكاي ولانغستون هيوز وكاونتي كولن وآخرين. ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين شهد الأدب الأفرو- أميركي تحوّلًا مكتمل الرؤية تمكّن فيه مبدعوه من كسر ثنائية العبد والسيّد، فكانت للأدب الأفرو- أميركي شخصيته المتمرّدة والساخرة حينًا والكاشفة بحزن بالغ عن الممارسات العنصرية الوحشية.
أسماء عديدة أثبتت حضور الهوية الزنجية وما يرتبط بها من نقد للواقع القائم على التمييز العنصري وفضح للعنف الطافح في ذهنية الشرطة الأميركية البيضاء، ومنهم الشعراء جيمس إيمانويل ومايكل هاربر وأميري بركة وبوب كوفمان والروائيون أليس ووكر وجيمس بالدوين وتوني موريسون، وكان أن نال منهم جوائز عالمية.

من الروائيين


ثمة أكثر من رواية أفرو- أميركية هزّت الأرضية الأميركية وصاغت الجسد العنصري بكامل جزئيّاته الجينية، ومن بين أبرز الأسماء نذكر هنا: توني موريسون مع روايتها "محبوبة"، أليس ووكر مع روايتها "اللون الأرجواني"، وجيمس بالدوين مع كتابه "لا أحد يعرف اسمي".

 توني موريسون (1931-2019)



ولدت توني موريسون في كنف أب يخبرها حكاية من حكايات السود الشعبية كل ليلة فوضع فيها بذور الأدب الذي وظّفته فيما بعد لتكتب تجارب الأفرو- أميركيين على المستويين الفردي والجماعي منذ روايتها الأولى "العين الأكثر زرقة" إلى آخر رواياتها، إضافة إلى اشتغالها على النقد الأدبي ودراسة كيفية حضور الآخر الأفرو- أميركي من منظور تأويلي في الرواية الأميركية المعاصرة. فازت توني موريسون بجائزة نوبل للآداب في عام 1993 وكانت قد حازت جائزة بوليتزر عن روايتها "محبوبة" في عام 1988 وجائزة الكتاب الأميركي. كما حصلت على مقعد في جامعة برينستون والذي كان حصريًا للرجال البيض. في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 عند تولّي ترامب الرئاسة الأميركية كتبت موريسون مقالًا في مجلة "ذا نيويوركر" تحت عنوان "حداد على البيض" قالت فيه: "الأميركيون البيض يخشون خسارة الامتيازات التي يوفّرها لهم عرقهم إلى الحدّ الذي جعل الناخبين البيض ينتخبون ترامب".
"محبوبة" Beloved هي تكملة لذاكرة البشرة السوداء في المجتمع الأميركي. مارغريت غارنر هي عبدة أفريقية عاشت في أميركا وهي ملهمة موريسون. أرادت "سيث" أن تهرب من عنصرية الجنوب الأميركي فهربت من كنتاكي إلى أوهايو، وبعد ثمانية وعشرين يومًا سيتم القبض عليها ويستردّها مالكها بموجب قانون العبيد في عام 1850 الذي يسمح للمالك بتتبّع عبيده. ستفضّل "سيث" ذبح طفلتها البالغة من العمر سنتين كي لا تعيش حياة الاستعباد التي عاشتها هي، لكنها لن تنجح في أن تنسى ذلك، وستظلّ الابنة تطاردها طوال حياتها. فبعد ست سنوات ستجد "سيث" أمام منزلها، الذي يرتاده شبح من أشباح الموتى، شابة تقول إن اسمها "محبوبة"، وستعيش "سيث" مقتنعة بأنها هي ابنتها التي قتلتها.
نجحت موريسون في روايتها "محبوبة" أن تنبّه العالم إلى الأدب الأفرو- أميركي والذي كان مهمّشًا عن قصد في الخطاب النقدي فسعى نقّاد ما بعد الكولونيالية الى الاشتغال على هذا الأدب الذي بدأه المبدعون الأفريقيون منذ الترحيل القسري لهم إلى أميركا في بواخر محمّلة بالأسى وحتى آخر رواية أفرو- أميركية. 


أليس ووكر (1944- )


ولدت أليس ووكر في جورجيا محاطة باشمئزاز الأبيض من البشرة السوداء وبعنصرية قائمة على ثنائية الدين والعرق. وجدت في الكتابة ملاذًا لها من عالم موحش. لاحقت ووكر المضطهدين من فيتنام إلى العراق وفلسطين وشاركتهم معاناتهم في تظاهرات احتجاجية ومواقف مناهضة للعنصرية في كل مكان وأبرزها موقفها في مهرجان تورونتو السينمائي في عام 2009 من صنّاع السينما الإسرائيلية وتوقيعها ورقة احتجاج ضدهم، كما رفضت ترجمة روايتها "اللون أرجواني" الفائزة بجائزة بوليتزر في عام 2012 إلى اللغة العبرية قائلة: "إسرائيل تقوم على العنصرية وهي مذنبة بالأبارتهايد واضطهاد الشعب الفلسطيني. إن ما تقوم به إسرائيل في فلسطين أسوأ من العنصرية التي نشأتُ عليها"، وقد عملت ووكر لنصرة القضية الفلسطينية وصرّحت بدعمها لحملات رفض التطبيع مع إسرائيل.
توثّق ووكر في روايتها "اللون أرجواني" The Color Purple العنصرية الأميركية والعنصرية الذكورية مع "سيلي" التي اغتصبها زوج والدتها، ثم تحوّلها إلى خادمة عند زوجها والذي ستنفصل عنه لاحقًا. رواية تحاكي المأساة الأنثوية السوداء التي تحاول التمرّد والثورة على جزئيّات العبودية المتنقلّة عبر الهواء الأميركي كفيروس يصعب التخلّص منه. هي لعنة اللون والجنس التي لاحقت ووكر في رواياتها الثلاث عشرة وفي مجموعاتها الشعرية العشر، فقد كتبت الشعر بنفس القسوة وبنفس الخراب الذي أرخّته كوثيقة للاضطهاد والجهل في أكبر الدول التي تدّعي التحضّر. في عام 1985 اقتبس المخرج ستيفن سبيلبرغ رواية "اللون أرجواني" وحوّلها إلى فيلم يحمل العنوان نفسه. كما تحوّلت الرواية إلى مسرحية عُرضت على أهم المسارح الأميركية، إضافةً إلى فوزها بجائزة بوليتزر في عام 2012 وحازت أيضًا على جائزة محمود درويش للإبداع في عام 2017.

جيمس بالدوين (1924-1987)



وُلد جيمس بالدوين في حي هارلم الموصوم باللون الأسود وبتجارة المخدرات، هناك تشكّل الوعي الأسود على أيدي شعراء وكتّاب وعازفين مورس التهميش الوجودي عليهم فكتبوه ورقيًا وغنائيًا. في عمر الرابعة عشرة أدرك بالدوين مثليته الجنسية التي عذّبته كما عذّبته الإهانات العنصرية فأصبح قسيسًا وبعد ثلاث سنوات ترك الكنيسة ووصفها بالمكان المنافق وقال: "التواجد على المنبر في الكنيسة مثل العمل على المسرح، لقد كنت وراء الكواليس وأعرف كيف يعمل الوهم". التحق بالدوين بالكتابة كفعل متمرّد على أصحاب ثقافة الاستعمار. في عام 1953 كتب أولى رواياته بنقد جريء للواقع الأميركي وكشف للأضرار النفسية التي يسبّبها التمييز العنصري، وكانت له سبع روايات وعدد من الكتب جمع فيه مقالاته بالإضافة إلى كتابات مسرحية وغنائية. عُرف عن بالدوين مناصرته للقضية الفلسطينية قائلًا: "إنها قضية استعمارية ولا تقبل المساومة". وقد جسّد المخرج الهاييتي راؤول بيك القضايا التي تناولها بالدوين في فيلم وثاقي بعنوان "أنا لست زنجيك" وتم ترشيحه لنيل أوسكار أفضل فيلم وثائقي في عام 1989.
"لا أحد يعرف اسمي" No Body Knows My Name اعتبره النقّاد من أهم كتب جيمس بالدوين، لم يكن رواية تحكي المعاناة في ظل العنصرية على شكل رموز واستعارات. الكتاب هو نقل هذه المعاناة كما هي إلى الورق من خلال مجموعة مقالات لبالدوين محمّلة بهواجس الهوية الضائعة والمخنوقة للإنسان الأفريقي الأميركي. يفتتح بالدوين كتابه بمقالة "ما معنى أن تكون أميركيا؟" يحكي فيها عن هوس الأميركيين بالمكانة وميلهم إلى كراهية الآخرين. يقول إن سفره إلى أوروبا حرّره من هذه الكراهية وجعله أكثر انفتاحًا، لم يكن في أوروبا من مكان يُمنع لك الوصول إليه في إشارة إلى مطاعم أميركية كانت ترفض استقبال السود، ففي أوروبا يمكن أن تعيش في جميع أنحاء المدينة وتتواصل مع من تشاء. يتضمّن الكتاب ذكريات شخصية فيعيدنا بالدوين في إحدى مقالاته إلى حي هارلم والدمار الذي سبّبه التجديد الحضري، واستياء الزنوج القاطنين فيه من الاستبداد الأميركي، يقول بالدوين: "يعرفون أنهم يعيشون هناك لأن البيض لا يعتقدون أنهم جيدون بما يكفي للعيش في أي مكان آخر، الزنوج يريدون فقط أن يعاملوا مثل الرجال.. الأشخاص الذين أتقنوا كانط، هيجل، شكسبير، ماركس، فرويد، والكتاب المقدس يجدون هذا البيان غير قابل للاختراق تمامًا، ثمّة نوع من الذعر يشلّ ملامحهم كما لو أنهم وجدوا أنفسهم على حافة مكان حادّ".

من الشعراء

لانغستون هيوز (1902-1967)



يعدّ لانغستون هيوز أحد أبرز شعراء "نهضة هارلم"، تلك الحركة التي عملت على توحيد المبدعين السود في محاربة التمييز العنصري والمطالبة بالمساواة الثقافية والحقوقية مع البيض. كتب هيوز الرواية والمسرح والقصة مع الشعر مقدّمًا البعدين الروحي والحضاري للسود ومخاطبًا الفئة المضطَهدة التي كانت تؤمن بالانحطاط الجيني للأسود وبعدم قدرته على الارتقاء. كشف هيوز في شعره المأساة الداكنة في مجتمع أبيض متحيّز يقتل الأسود بلا سبب مقنع للموت.

من قصائده:

أنا أيضًا أغني أميركا

أنا أيضًا أغني أميركا/ أنا الأخ الداكن/ يرسلونني لآكل في المطبخ حين تأتي الرفقة/ لكنني أضحك/ وغدًا حين تأتي الرفقة/ سأكون على المائدة/ لن يجرؤ أحد عندها أن يقول لي "كل في المطبخ"/ أنا أيضًا أميركا/ حين يأتي العجوز الموت جامع الرمم ليجمع أجسادنا/ ويرميها في كيس النسيان/ أتساءل ما إذا كان سيجد أن جثة مليونير كبير/ تساوي قروشًا أكثر من الأبدية/ من البدن الأسود لمزارع قطن أسود.

الرجال البيض

لا أكرهكم/ وجوهكم أضواء مشعة من الجمال والروعة أيضًا/ مع ذلك لم تعذبونني/ آه أيها البيض الأقوياء، لم تعذبونني.

هجرة

طفل جنوبي صغير/ آت إلى مدرسة في الشمال/ يخاف من اللعب مع الأطفال البيض/ في البداية يكونون لطفاء معه/ لكنهم أخيرًا يهينونه وينادونه "نيغر"/ الأطفال الملّونون يكرهونه أيضًا بعد فترة/ عن هذا الطفل الصغير الخائف/ يستطيع المرء كتابة قصة ترسم ملامح الغد.


بوب كوفمان (1925- 1986)


لُقّب كوفمان بـ"الأستاذ الخفي لجيل البيت" الذي كان مقرّه سان فرانسيسكو، شاعر منبوذ ونابذ لقيم الثقافة الأميركية في عصره، ومتهم بالشيوعية التي استدعت ملاحقته مرارًا من قبل الشرطة الأميركية وسجنه وتعذيبه لمرات عديدة، حمل شعره سخرية لاذعة من أميركا وارتبط شعره بموسيقيي الجاز حيث كان يرتجل الشعر مع الموسيقى. هو شاعر سياسي بنبرة احتجاجية وسريالية وشاعر سجون وليل وتشرّد.

من قصائده:

المباركة

أميركا أغفر لك/ وأنت تسمّرين مسيحًا أسود/ على صليب مستورد/ كل ستة أسابيع/ أميركا أغفر لك التهام الأطفال السود/ فأنا أعرف مقدار جوعك/ أميركا أغفر لك حرق الأطفال اليابانيين دفاعًا عن النفس/ فأنا أدرك كم كان ذلك ضروريًا.

مذكرات حرب: الجاز استمع إليه على مسؤوليتك

الجاز خائن أفريقي/ يا لها من شجاعة متوحشة 100%/ تهدر الوقت الثمين في الاستماع إلى موسيقى الجاز/ مع أن ثمّة الكثير من القتل ليُرتكب/ فلتصمت الطبول/ علّنا نتمكّن من سماع محرقة اليابانيين/ بالسينما سكوب والألوان الذريّة/ ونتذكّر الصراخ المجسّم.

قدّاس بالجاز لاستنشاق المشاعل المكسيكية

دعونا نؤلّف أغاني شعبية توتونية عن فناء قبيلة إسرائيل الجرمانية/ دعونا ننشد قدّاسًا جنائزيًا محرّمًا على سبت إعدام الباباوات الذين يتهيّجون ثم يصلّون.

سبق لي أن تناولت سيرة هذا الشاعر وتجربته في سياق مقال ظهر في ضفة ثالثة يوم 12 نيسان/أبريل 2020 بعنوان "بوب كوفمان.. الشاعر الذي رسم خريطة أميركا باللون الأسود".


أميري بركة (1943-2014)



هو إفرِت لِروي جونز عند الولادة، الشاعر الثائر ضد كل أشكال التمييز العنصري، الأبيض في تحقيره للأسود، والإسرائيلي في تحقيره للفلسطيني، ولأميركا كلها في تحقيرها للشعوب المستضعفة ولحروبها المتنقلة لغاياتها النفعية ولدعمها إسرائيل. أُلصقت به تهمة معاداة البيض ثم معاداة السامية. كان ثائرًا من أجل ما هو إنساني فكتب الشعر السياسي وعُرف بمواقفه الحادة، واتهم أميركا وإسرائيل بوقوفهما وراء تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر 2001. أصدر بركة العديد من الأعمال في الشعر والمسرح والنقد الموسيقي، وكانت أعماله مستفزّة للسلطات الأميركية. عمل على تأسيس "حركة الفن الأسود" للتحرّر من هيمنة شركات الإنتاج البيضاء بأعمالهم ولإنتاج فن أسود خالص دون تبعية. اعتنق إفرت الإسلام في عام 1968 فغيّر اسمه إلى الإمام أميري بركة، وفي عام 1974 تبّنى الماركسية كفلسفة فألغى كلمة الإمام وحوّل اسمه إلى أميري.   

مقتطفات من قصيدة:

من فجّر أميركا

أحدٌ ما فجّر أميركا/ من هو المتحدّث بالكذب/ من هو مالك العبيد/ من هو الذي كسر أنفك/ من هو الذي اغتصب أمك/ من هو الذي مرّغ أباك/ من هو صانع القنابل/ من هو صاحب سفن العبيد/ من هو الصيرفي/ من هو الإرهابي الأكبر/ من هو مبدّل الإنجيل/ من هو قاتل أغلب الناس/ من هو فاعل أغلب الشر/ من هو صاحب المستعمرات/ من هو القائل نحن طيبون ولا يفعل غير الشر/ من هو مالك النفط/ من هو المحتاج لمزيد من النفط/ من الذي يعرف لماذا تدرّب الإرهابيون على الطيران في فلوريدا وسان دييغو/ من هو الذي يعرف لماذا كان خمسة إسرائيليين يصوّرون الارتطام وتتشقق جنوبهم من الضحك/ من هو قاتل مالكُوم وكيندي وإخوته/ من هو قاتل الدكتور كينغ/ ومن يريد أمرًا كهذا أتراها حوادث متصلة باغتيال لينكولن/ من هو قاطع أيدي الناس في الكونغو/ من هو ناشر الإيدز/ من هو واضع الجراثيم في البطانيات الهندية/ من هو جاني الأموال من الحرب/ من هو الذي يريد حكم العالم بالاستعمار وقهر الوطنية، بعنف الإرهاب، والجوع والفقر/ من أعاد شارون للسلطة..

مصادر:

لانغستون هيوز: من مجموعة "أنا أيضًا أغني أميركا"، ترجمة سامر أبو هواش، دار الجمل.

بوب كوفمان: من مجموعة "عزلة مكتظة بالوحدة"، ترجمة محمد مظلوم، دار الجمل.