Print
نجيب مبارك

جوزيف كيسيل في لابلياد.. المغامر الشاهد على العصر

17 يونيو 2020
تغطيات

بدخول أعمال المراسل والكاتب الفرنسي جوزيف كيسيل إلى مكتبة لابلياد الشهيرة، أو ما يسمّيها البعض "نادي الخالدين"، تُطوى صفحة من التجاهل النقدي "الرسمي" الذي دام عقودًا طويلة. فقد اختارت هذه المكتبة أن تنشر باقة من أفضل أعمال كيسيل الروائية والقصصية و"التوثيقية" بدءًا من يوم الرابع من يونيو/حزيران الجاري، ليتكرّس بذلك اسمه على قائمة أفضل الأدباء في فرنسا وخارجها.

في البدء كانت المغامرة
ولد جوزيف كيسيل في الأرجنتين عام 1898، وأمضى طفولته بين روسيا ومدينة نيس في فرنسا، حيث استقر والده الذي كان يعمل طبيبًا، ونال الجنسية الفرنسية عام 1920. درس الآداب الكلاسيكية وقرّر أن يشتغل في مجال المسرح عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، فاختار أن يتطوّع في سلاح المدفعية ثمّ في الطيران، وسيكتب عن هذه التجربة روايته الأولى الناجحة "الطاقم" عام 1923، التي ستدشّن نوعًا أدبيًا جديدًا يعتمد على المغامرة والحركة، وهو الذي سينسج على منواله لاحقًا كلّ من أندري مالرو وسانت- إكزوبيري، ويكرّس له كيسيل بعضًا من أعماله اللاّحقة، في مقدّمتها "الريح الرملية" عام 1934 و"كتيبة السماء" عام 1938. لكن قبل صدور هذه الرواية، كان كيسيل قد أنجز مهمّة في سيبيريا عام 1918، وهو في سنّ العشرين، فاكتشف العالم البلشفي الذي شكّل إطارًا لكتابه الأوّل "السهوب الحمراء" (1922)، الذي يسرد فيه بالتفصيل يوميات الثورة الشيوعية.

في منتصف العشرينيات، سيختار كيسيل حرفة الأدب، الذي زاوج فيه بين التحقيقات الصحافية العظيمة والروايات، مستمدًا عوالمه من رحلاته الكثيرة حول العالم. وباعتباره أحد كبار المراسلين الصحافيين عبر التاريخ، إذ قام بتغطية أبرز الحروب والثورات والأحداث المفصلية في القرن العشرين، كان كيسيل شاهدًا على عصره بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى. قد يتخلّى أحيانًا عن الخيال من أجل توثيق الذاكرة، كما في كتابه "ميرموز" (1938)، وهو كتاب سيرة ومجموعة من الذكريات عن أحد أصدقائه من الطيّارين الأبطال، أو كتاب "سيدات كاليفورنيا" (1929)، الذي يروي فيه ذكرياته عن "الفردوس" الأميركي. لكن في كلّ هذه الأعمال يحضر النفَس الروائي بقوة إلى جانب الأسلوب التوثيقي: فوراء بورتريه البطلة البرجوازية سيفرين في رواية "مجد الصباح" 1929، التي تدفعها رغبة ملحّة إلى ممارسة البغاء، يطمح كيسيل إلى كشف ذلك الجانب الملعون في "العشرينيات الصاخبة"، كما أنّه كان من الأوائل الذين دقّوا ناقوس الخطر أمام صعود النازية في روايته "العابرة اللامبالية" عام 1936.




العالم مسرح عمليات
بعد الحرب العالمية الثانية، التي لعب خلالها دورًا نشطًا في مقاومة المحتل النازي (هو الذي كتب عن "جيش الظلّ" وألّف "نشيد الأنصار" الشهير رفقة ابن أخيه موريس درون)، سيعود جوزيف كيسيل إلى ممارسة أنشطته الصحافية والأدبية، وينشر في عام 1950 روايته الضخمة "دورة الشؤم"، التي يحكي فيها عن حياته وتجاربه الخاصة، من خلال شخصية البطل المضادّ ريتشارد دالو، عاشق الحياة الشرس في كلّ حالاته ومغامراته المثيرة. لكن العنوان الأكبر في مسيرة هذا الكاتب المغامر سيبقى بلا شك هو روايته "الأسد"، الصادرة عام 1955، والتي عرفت نجاحًا هائلًا ومنقطع النظير، إذ صيغت في قالب ريبورتاج روائي تدور أحداثه في محمية حيوانات، حيث تقع فتاة صغيرة في حبّ أسد كليمنجارو. وفي عام 1962، سيتمّ قبول عضوية كيسيل في الأكاديمية الفرنسية، وهو أعلى تشريف أدبي قد يناله كاتب في فرنسا، وبعدها سيخصّص الجزء الأكبر من رواياته لتقديم سلسلة من اللوحات التاريخية المتعمّقة، كما في روايته العظيمة "الفرسان" (1967)، المستوحاة من رحلة في سهوب آسيا الوسطى تمجّد "الحرية البرّية الرائعة" في قلب حضارة من الحضارات المجهولة. وفي عام 1979، سيغادر كيسيل عالمنا عن عمر الواحدة والثمانين.

ترك جوزيف كيسيل أكثر من ثمانين كتابا، موزّعة بين روايات وقصص ومذكرات، بينما لم تضمّ طبعة لابلياد الجديدة سوى مجلّدين فقط، يضمّان عشرين من أفضل هذه الأعمال. يبدأ المجلد الأول بأحد نصوص البدايات (أوّل نجاح تجاري للكاتب) وهو رواية "الطاقم" 1923، ويختتم المجلد الثاني بالرواية التي كرّسته: "الفرسان" (1967). لكن إحدى المزايا العظيمة لهذه الطبعة هي جمعها لبعض الأعمال المستبعدة والنصوص الأوتوبيوغرافية غير المنشورة، إلى جانب الأعمال السردية أو الريبورتاجات التي كان جوزيف كيسيل يحبّ أن يسمّيها "وثائقيات". لقد عاش جوزيف كيسيل حياته كأنّها فصول رواية حقيقية، بينما أطلّ الروائي المتمرّس من بين سطور تقاريره الصحافية في أكثر من مرّة. وإذا كانت البلدان التي عبرها، من إيرلندا المضطربة إلى أفغانستان الممزقة، ومن الحبشة إلى سورية تحت الانتداب، هي "مسارح عمليات"، فإن ما كان يأسره وراء هذه التجارب هو المغامرة الداخلية، أو الحكايات الحميمة لكلّ رجل من الرجال الذين التقى بهم. وإنّه لمن الصعب الآن تصنيف هذا المراسل المحنّك والروائي الملهم، إذ كان رجلًا حرًا ومندفعًا، مفرطًا ومرهقًا، صادقًا وأخويًا، متقلّبا ومعذّبًا، مثل القرن الذي عاش فيه. كانت حياته بذاتها مغامرة، بطولية في معظم الأحيان، وانعكس ذلك في كثير من أعماله. بل يمكن القول إنّه "المعادل" الفرنسي لصورة الكاتب المغامر الملتحم مع عصره، كما جسَّدها بوضوح الكاتب الأميركي إرنست هيمنغواي، بحيث يشتركان معًا في كثير من الأمور، مثل الشغف بالمغامرة والخمر والنساء (التقى الكاتبان فعليًا في نوفمبر/تشرين الثاني 1936 خلال تغطية الحرب الأهلية الإسبانية).


الموازنة بين الكم والكيف
نلمس عند كيسيل ذلك الميل إلى الموضوعات الخطيرة والمثيرة (تجارة الرقيق في الحبشة)، أو الملحميّة (بطولات التحليق بطائرة الإرساليات)، أو إلى جوانب مجهولة وسرية وغير مألوفة في الحياة الاجتماعية (تنظيمات وتداعيات العالم السفلي في ألمانيا، آثار الأزمة الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة، والقوى السحرية لمعالج القائد النازي هاينريش هيملر)، أو إلى موضوعات روائية أصيلة وقادرة على ربط الصلات والمزج بين الواقع والخيال، بحيث يبدو الواقع مصطبغًا بألوان وإسقاطات الخيال. وكما كتبت ميريام بوشارينس في مقالها "الكاتب المراسل في قلب الثلاثينيات": "إنّ اللّجوء المتناقض إلى الخيال كأداة لسرد الواقع هو عملية نموذجية في الأدب المرجعي، تبرّره الحقيقة الروائية للواقع". وفعلًا، إذا كان الكاتب جوزيف كيسيل في معظم أعماله يظهر مباشرًا وحيويًّا وحادًّا، وهو يصف في رواياته الشخصيات الرهيبة بلغة كلاسيكية، دون ابتذال أو تسرع، فهذه بلا شك واحدة من حسنات تجربته الغنية في الصحافة. ورغم أنّه ألَّف الكثير من الكتب، إلا أنّه احترم دائمًا مهنته ككاتب. ولا يخفي الذين تعرفوا على شخصيته المذهلة والمندفعة عن قرب دهشتهم من الرصانة الرهبانية التي كان يلتزم بها، على غرار بلزاك، لأسابيع طويلة عندما يكون بصدد الاشتغال على عمل روائي جديد.

ربما تعيد طبعة لابلياد الجديدة بعض الاعتبار لهذا الكاتب الذي تجاهلته الأوساط النقدية الفرنسية طويلًا، واعتبرته متسلّلًا من الصحافة إلى الأدب. إذ تعدّ حالته من الحالات القليلة التي تدلّ بشكل واضح على حقيقة متكرّرة في سوسيولوجيا الأدب: تلك المسافة الكبيرة بين نظرة النقّاد المعاصرين إلى الكاتب ووضعيته أمام الجمهور. فالكاتب الذي قد يُعجَب به هؤلاء القرّاء المتطلّبون، نجده بالكاد يظهر في قائمة بائعي الكتب، بينما الكاتب الذي تتعدّى مبيعات كتبه مئات الآلاف من النسخ، فإنه من النادر أن يجد احتفاء أو تقديرًا من هؤلاء النقاد. وهم يفسرون ذلك تارة بأنّه لا يملك أسلوبًا أدبيًا أصيلًا، وبأنّه يصدر الكثير من الكتب بشتى الطرق الممكنة تارة أخرى، أو أنّ هذه الأعمال الأدبية التي قد تجتذب عامة الناس هي بالضرورة أعمال تفتقد إلى معاييرهم الصارمة. كلُّ هذه العوامل يمكن أن تلعب دورًا في تخليد اسم كاتب على حساب اسم آخر، وهي قد لعبت بالتأكيد ضدّ جوزيف كيسيل، ولكن بشكل غير عادل، لأنّ تراكم أعماله الضّخمة والمتنوّعة لم يفقدها أبدًا الجودة والقيمة.