Print
محمود عبد الغني

مرحبًا بكم في موجة نسوية رابعة

18 يونيو 2020
تغطيات
تنتمي الكاتبة الفرنسية كلوي ديلوم (1973) إلى الموجة الرابعة من الحركة النسوية الفرنسية، التي لم تعد تتشكّل من النساء المناضلات فقط، بل من النساء العاديات، اللاتي تتخذن كقضية لهنّ الأعراف والتقاليد في بعض البلدان، حيث تتعرّض امرأة واحدة من بين عشر إلى الاغتصاب في حياتها، وحيث كل ثلاثة أيام تتعرّض امرأة واحدة للقتل من طرف زوجها أو عشيقها.

ومن أجل إلقاء الضوء على هذه القضايا المجتمعية الخطيرة والمتشعّبة ألفت كلوي ديلوم نصًا مشتعلًا عنوانه "أخواتي العزيزات" (منشورات "سوي" 2019)، يمكن اعتباره دون تردّد بمثابة بيان جديد من أجل إعادة الروح إلى الحركة النسوية، وإطفاء شعلة نظام الأبوة، وجلب الوقائع الجارحة، وما سيقع منها، إلى دائرة الضوء.



المقصود بالموجة النسوية الرابعة هي التي تلت في الترتيب ثلاث موجات متتالية؛ الموجة الأولى منحت النساء الحقّ في التصويت ومكّنتهن من المساواة القانونية. وهي موجة ضمّت نسوية الحركة العمالية، وزمنها يمتدّ من نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، حيث كانت تحفر في أخاديد الثورات العمالية داخل المصانع.
وانتشرت الموجة الثانية في منتصف ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. طالبت النساء بالمساواة، وبالحق في التصرف بالجسد. نحن هنا أمام مسنّي البيت اللائكي الفرنسي، زوجة الجندي المجهول، بيان الـ343 مومسًا، المطالبة بالحق في الإجهاض، النسوية المادية، نسوية الاختلاف الجوهري، النسوية المتعدّدة.
أما الموجة الثالثة من النسوية فهي شبيهة بقوس قزح، وقد انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية في منتصف الثمانينيات. وضمت هذه الموجة مناضلات منحدرات من الأقليات، ومن وضعيات مجتمعية هامشية، ومن حضارة أقليات عرقية وثقافية، وأيضًا من أسئلة النوع الاجتماعي، ونظريات الاغتراب. وقد عرفت كيف تفكّك أسس نظام الأبوة، وكيف تهاجم الثنائية. إن هذه الموجة الثالثة هي، إذًا، موجة نشيطة، سياسية ومنظّمة.
منذ ظهور الإنترنت، عملت الموجة الثالثة على استغلاله. فظهرت إلى الوجود مبادرات فردية وجماعية، مواقع إلكترونية، مدوّنات. وتمّ الشروع في نقل المعارف، والدراسات، والفهارس، والمعاجم، والإرث النسائي الثقافي، والتجارب الشخصية، والأبحاث والإبداعات النضالية، والمجموعات الفنية، والسياسية، وفيضٌ من النظريات المتلاحقة.

جاءت الموجة الرابعة من الحركة النسوية عنيفة. إنها، حسب كلوي ديلوم، تعبير عن غضب المطالبات بالحق في التصويت.. وهن يمثّلن أغلبية مرئية لكنها إلى الآن صامتة؛ وقد كان التحيز الجنسي العادي في هذه الموجة عبارة مواجهة في كل لحظة. فقامت بتوظيف التقنيات الرقمية والشبكات الاجتماعية كوسائل وأسلحة. فعملت على نشر يومي للمعلومات والأرقام الخاصة بالتمييز والعنف الممارس على النساء، فسارعت إلى خلق هاشتاغات لها قوة ومفعول العواصف البحرية المعروفة بالتسونامي. وقد زاد من قوة هذه الموجة ظهور الصحافة النسوية، وضمت جيلًا من المنشغلات بقضية النقل إلى الجمهور ما كنّ يحتفظن به مخبّئًا.

حسابات التويتر: خطاب آخر، حكاية أخرى
الموجة الرابعة من النسوية: لقد حدث شيء ما في الفكر، في شبكات التواصل، في التاريخ، في الكتابة... كل شيء يحيط بالكاتبة كلوي ديلوم يحرّض على مباشرة فعل الكتابة. وخصوصًا، حدث شيء مختلف في فضاء حسابات التويتر، فعلى منصته نشرت النساء، وعددهن ضخم، شهادات، واحدة تدعم الأخرى، لتقديم خطاب آخر، حكاية أخرى. فبفضل استمرارية الصراع من أجل الحق في التصويت، والمساواة في الحقوق، وحرية التصرف بالجسد، والاعتراف بالأقليات تمكنت النسوية من الانتماء لنهضة حقيقة. "إن الإنترنت حرّر المرأة حين فشلت آلة مولينكس"- تقول كلوي ديلوم بسعادة. وتضيف: "المرحلة تاريخية ومصدر سعادة شاملة. لقد منحت الثورة الرقمية للنساء أدوات وتأمّلات جعلتهن متضامنات وواعيات بكونهن يشكّلن الـ"نحن". نحن منصهرًا، وينتمي لـ"أنا" أيضًا. أن يُنظر إليكِ كامرأة، ويتمّ التعامل معك كذلك: هذا ما نتقاسمه. وهذه الـ"نحن" ليست وحيدة".

إن كلوي ديلوم تدافع بكتابها "أخواتي العزيزات" عن أن النساء، في كل المراحل التاريخية، هنّ أخوات، استمرارية نضالية أبدية داخل تاريخ جمعي طويل. وقد سبق أن تناولت هذه الموضوعة في نصوص سابقة ذات طابع سيرذاتي، مثل "بيتي تحت الأرض" (سوي، 2009)، و"امرأة مع لا أحد في الداخل" (سوي، 2012). وإن كل ما تناولته في كتابها الحالي من أحداث ووقائع سبق للنساء في الماضي أن تعرضن له، لكن دون تسميته أو قوله.

ليليث، قوة النساء، تاريخ آخر للفكر
عن سؤال "بماذا توحي لك "عبارة قوّة النساء"؟" الذي طرحته سفين أورتولي (من هيئة تحرير مجلة "فلسفة"، عدد "خارج السلسلة"، 2020) أجابت الروائية الفرنسية كلوي ديلوم بأن العبارة سلفية جدًّا. "ليليث" هي المرأة التي تعرف كل شيء، وتلك التي تقول "لا"، وترفض الخضوع للرجل. وحين تمّ طردها من جنة عدن أصبحت شيطانة تائهة في كلّ مكان. لقد تمّ تقديم قوّة المرأة، على الدوام، باعتبارها قوّة يجب القضاء عليها. وإن انتشار هذه الفكرة في الفضاء العام، جعل تأليف كتابها مثل "الساحرة، قوة النساء التي لا تُهزم" (2018)، أمرًا ضروريًا. وبعد قرون من الرفض والإنكار، كان لا بدّ من وقوع ذلك، من أن نعيَ بأن المرأة قوية فعلًا، وخطيرة أيضًا، وهذا بُعدٌ نسعى إلى التستُّر عليه. لذلك تدعو كلوي ديلوم إلى ضرورة فهم هذه القوّة كشرط لتغيير التمثلات، وأيضًا كقوّة لتفجير كل شيء. لقد ظللنا نربط دائمًا شرط القوة هذا بنوع من النعومة، التي هي بالضرورة خاصة بالمرأة. لكن لا ينبغي التغاضي عن عنف النساء، سوداويتهن وحدّتهن. إنهن أخوات في كل شيء، هذه هي فكرة الكتاب الكبرى. وبالنسبة لنساء المستقبل، فإن كل شيء سيجري داخل دائرة، وليس داخل أسرة، تؤكّد المؤلفة. وربما من شأن ذلك أن يدعو إلى كتابة تاريخ آخر للأفكار.